مريض الجمال الذي أفنى حياته بين مسودتين!

بول أوستر
بول أوستر

إبراهيم فرغلي 

رحل بول أوستر!

خبر مؤسف لكثير من القراء والكًتّاب بطبيعة الحال. مؤسف بالنسبة لى شخصيا إذ كنت أرى فى أوستر نموذجاً «للكاتب» بالألف واللام، ثم الكاتب العصامى الذى يقضى عمره باحثاً عن أساليب جديدة ليحكى حكايته بطريقة مغايرة، ويبقر بطن الأشياء على حد تعبيره، ليصنع أسطورته الخاصة.

 لطالما عددته مُعلّما قديرا لأساليب سرد ما بعد الحداثة، وكيفية تطويع السرد ليكون موضعا للسؤال والشك فى عالم بلا يقين. 

ولعله من بين قلة من الكتاب الذين تمنيت لقاءهم، ولكنى لم أمتلك دأب بعض من قاموا بذلك وبينهم صديقتنا الشاعرة اللبنانية جمانة حداد التى فعلت المستحيلات لتلتقى به فى مقهى يتردد عليه فى نيويورك ذات يوم، ولتجرى معه حوارا لجريدة النهار قبل سنوات عديدة. 

وإذ أعده أحد المعلمين فى درس الكتابة المستمر لا أظننى تعلمت من كتابته عن الكتابة، بقدر ما أفدت من النصوص بشكل مباشر، إذ أميل لاعتبار النص السردى الوثيقة الأهم لفهم أسلوب كاتب ما وطريقة عمله.

فالكتابة عن الكتابة قد تميل للمثالية، أو قد تكون غامضة أو تفتقد للمثال أو غير دقيقة. ومع ذلك، فبعض الكتاب يمتلكون ملكة التعبير عن أسلوبهم وتقنياتهم ومفاهيمهم لفعل الكتابة، وقد يكون من الضرورى قراءة مفاهيمهم عن الكتابة وطموحهم وما يتقصدونه.
 
مع ذلك أعتقد أن بول أوستر كان من بين الكتاب الذين فعلوا الأمرين معا ببراعة. يكتب عن الكتابة أو يتحدث عنها ببساطة ورشاقة يتصور أنهما مقصده فى الكتابة، ويكتب نصا سرديا فنيا مغايرا، وهذا هو الأساس. 

فالكثير من أعماله جعلت من فعل الكتابة بطلاً من أبطال السرد أو العمل الروائي، من خلال سارد نفهم أنه كاتب ثم نعرف منه قصة نص آخر، وهذا النص الآخر له كاتب آخر خلفه قصة أخرى، والنص نفسه لديه قصة مغايرة. وعلى القارئ أن يبقى يقظا فى تتبع مسارات الوهم والواقع. وفى الأثناء نتبين من الراوى كيف يفكر ككاتب فى اختلاق شخصياته، وكيف فكر فيها ولماذا، ثم يربط ذلك بتفاصيل من حياته.
 
لكن فكرة الكتابة عن الكتابة، وبالتالى التماهى بين الواقع والخيال سمة بارزة لكتابة بول أوستر منذ ثلاثيته الشهيرة ثلاثية نيويورك، التى تنتمى لما عرف بالميتافيكشن.
 
الأمر الثانى المهم فى كتابة بول أوستر يتمثل فى الكيفية التى يتناول بها قضايا خطيرة جدا فى نصوص تبدو عادية تماما. فى ليلة الوحى مثلا يتحدث الراوى مع بائع من أصل صينى فى مكتبة اشترى منها لوازم للكتابة وبينها دفتر أزرق موصوف بدقة عاطفية مذهلة. دقة الشغوف بالورق والدفاتر. وفى الحوار البسيط الذى يدور بينهما عما إذا كان فى الحى عدد من الكتاب أم لا، تتفجر عدة قضايا يبدو واضحا ميله للسخرية منها مثل أن الكُتّاب أغلبهم مفلسون، أو «أمريكا بلاد الفرص». كما أنه يصف صرير قلم يستخدمه بائع المكتبة ليوحى بالصمت الهائل أو الفراغ الأمريكي. فبينما يصف أحداثاً عادية جدا ستتسلل للقارئ أفكار عن قضايا كبرى أو مصيرية، وهذه واحدة من سمات كتابته شديدة الخصوصية. 

يتحدث بول أوستر عن الكتابة مثلا يقول:
«هناك كتاب جيدون، كما أعتقد، لكنهم يكتبون أكثر مما ينبغى فى كتبهم. إذ تحتوى تلك الكتب على عدد من الكلمات أكثر بكثير مما يلزم، وأوصاف مفصلة للأشياء أكثر مما قد يتطلبه الأمر». 

وهذا الاقتصاد اللغوى من سمات الكتابة الحديثة التى حاولت التخلص من فوائض الوصف أو الإسهاب فى شرح ما هو معلوم بالضرورة. لكن اللافت أن أوستر، فى الوقت نفسه، ليس من الكتاب الذين يهملون الوصف الدقيق لمشهد سردي، بين أمثلة لا تحصى، يغدو كما لو أنه مشهد من لوحة من أعمال الفنان إدوارد هوبر، الذى جسد «الصمت» والفراغ فى أعماله، فى مكتبة بيع لوازم مكتبية، أو وصف لون عينى امرأة بشكل دقيق، ثم يتبعه مباشرة بتحليل للمشاعر الباطنية العميقة التى تعكس أثر هاتين العينين على من يراهما خصوصاً لو أغرم بهما.

فبمن أثق هنا؟ فى نص بول أوستر المتضمن للتفاصيل أم كلامه عن عدد الكلمات؟ 
 «من جهتى أحاول على الدوام وبقدر المستطاع أن أجعل العمل رشيقا. لدى رغبة دائمة فى التخلص من الأشياء الزائدة فى النص». وهذا قوله.

لهذا فهو من بين كتاب قليلين مثيرين للانتباه فى نصوصهم بقدر ما يقدمون دروساً فى الكتابة مع كل سطر يكتبونه. 

أوستر من أبرز من نبهونى للمأزق الأمريكى من خلال فكرة ملحّة نرى هواجسها فى عوالم بعض رواياته التى تهيمن عليها أشباح حرب أهلية أمريكية، كما فعل فى رجل فى الظلام مثلاً، أو حتى فى إشارات عديدة فى ليلة الوحي، أو سواهما. 

فكرة تنبهنا إلى أن الحلم الأمريكى على أرض الواقع لم يعد مماثلاً لما تقدمه الآلة الإعلامية الجبارة (الكاذبة؟). 

كاتب ما بعد حداثى أراد ان يحكى بأسلوب مغاير يخصه، ويرى فى النص الأدبى وسيلة للتحذير من فشل المجتمع الأمريكى فى تحقيق حلم المساواة الذى بنيت عليه أدبيات ما يسمى بالديمقراطية وعصر حقوق الإنسان. 

«وحدى فى الظلام، اقلِّب العالم فى رأسي، فيما أصارع نوبة أخرى من الأرق، وليلة بيضاء أخرى فى العراء الأمريكى العظيم».. هذا ما يقوله أوغست بريل، الأمريكى السبعيني، ناقد الكتب المتقاعد، طريح فراشه إذ يتعافى من حادث سير. وهكذا أيضا يبدأ بول اوستر، الذى يجسد صوت العقل الأمريكى لمجتمع يبدو فاقداً صوابه منذ عقود كتابه «رجل فى الظلام».

تتفجر تفاصيل صغيرة تكشف حقيقة الواقع الأمريكي؛ مجتمع يعيش كل شيء دون أن يعيشه، الحرب العراقية التى يعايشها عبر الشاشات، حرب بلا حرب، أفلام هوليودية تبدو كإيديولوجية، أو كما يقول عنها الفيلسوف السلوفينى جيجيك، أنها سينما تستبق وتصنع المخاوف من الواقع الأمريكي. 

واليوم وبفضل أحداث غزة التى فضحت أكذوبة الحرية وحقوق الإنسان، تبدو لى نصوص أوستر ليست فقط كاشفة، بل ونبوئية أيضا. 

لكن هذا كله ما كان ليصلنا لولا مرض جميل! يقول أوستر: «لطالما اعتقدت أن الكتابة أو أى نوع آخر من الفنون هو نوع من المرض الذى يصيبك بشكل مبكر فى حياتك، فيصبح مقدر لك أن تمارسه ولا تغدو حياتك مكتملة ما لم تقم بذلك». وبهذا المرض الجميل، وبين تدوين الفكرة فى مفكرة لأنه يؤمن بحيوية ما يُكتب باليد مباشرة، ثم نقلها على الآلة الكاتبة، ومقارنة النسختين ثم الشطب والتعديل أفنى حياته. نعم أفنى حياته بين مسودتين خرجت من كل منهما نصوصا علمتنا وجعلتنا أكثر فهما للأدب وللحياة.