معرض أربيل الدولي للكتاب.. جسر بين الثقافتين العربية والكردية

جانب من ندوة مسارات الإبداع بين الشعر والرواية
جانب من ندوة مسارات الإبداع بين الشعر والرواية

رسالة أربيل:
منصورة عز الدين



يختلف معرض أربيل الدولى للكتاب، الذى أٌقيمت دورته السادسة عشرة فى الفترة من 17 إلى 27 أبريل 2024، عن غيره من معارض الكتب، وقد زرتُ الكثير منها شرقًا وغربًا. ولعل نقطة تميزه الأساسية تبدأ من موقعه فى مدينة أربيل الهادئة المنفتحة على الآخرين، مما يجعلها نقطة التقاء ووصل بين الثقافتين العربية والكردية.

ويمكن ملاحظة هذا بسهولة منذ اللحظات الأولى فيها، فالازدواج اللغوى أول ما يصادف زائر أربيل. يحادثك شخص ما بالكردية وحين ينتبه إلى أنك لم تفهمه، ينتقل فورًا للحديث بالعربية. هذا الازدواج اللغوى ترك بصمته على المعرض وأثراه بطرق عديدة، بحيث تجاوز فكرة كونه مجرد معرض كتاب أو مهرجان ثقافى إلى أن يصبح مثالًا ناجحًا على كيف يمكن للثقافة أن تكون الجسر الذى يُمكِّننا من العبور فوق أهوال الماضى وجراحه وأحقاده للوصول إلى مساحة رحبة من التحاور الخلاق والتعارف عبر الأدب والفن. وهو دور نجح معرض أربيل فى القيام به منذ بدايته وحتى هذه اللحظة.



فى طريقى إلى هناك لم يكن بذهنى توقعات بعينها، كنتُ فقط مندهشة قليلًا من أن يأتى لقائى الأول ب العراق، البلد الذى لطالما أثار اهتمامى، عبر بوابة أربيل وليس بغداد أو البصرة كما سبق وتخيلتُ.

لكن ربما حدث هذا لحكمة مفادها التأكيد على الوجوه الثرية والمتعددة وغير القابلة للاختزال لهذا البلد صاحب الإسهام البارز فى الثقافتين العربية والإنسانية منذ القِدم إلى لحظتنا الحاضرة. قلت لنفسى إن معرفتى بحواضر العراق الأخرى كبيرة عبر القراءة عنها ولمن عاشوا فيها وانتموا إليها، فى حين أن معرفتى بأربيل وإقليم كردستان ككل ليست بالمستوى نفسه من التعمق، وبالتالى سوف تكون مساحة الاكتشاف أكبر وأعمق.



يقام المعرض، الذى تنظمه «مؤسسة المدى للإعلام والثقافة والفنون»، فى أرض المعارض بحديقة سامى عبد الرحمن، محاطًا بالأشجار والورود، والورد فى أربيل منتشر فى كل مكان تقريبًا.

واختار منظموه لدورته هذه شعارًا طريفًا وذكيًا فى آن هو: «اقرأ.. ذكاؤك ليس اصطناعيًا.» فى تفاعل واشتباك مع قضية باتت ملحة مؤخرًا، وفى تطويع لها للحث على القراءة والانغماس فى عوالم الكتب والقراءة. وانعكس هذا الشعار على برنامج الأنشطة المقامة على هامش المعرض، إذ احتلت ثيمة الذكاء الاصطناعى وتجليات ثورة الاتصالات فى المجمل موقعًا بارزًا. فمن بين الندوات ذات الصلة بهذه الثيمة: الذكاء الاصطناعى وتجلياته فى الأدب، مستقبل الذكاء الاصطناعي، آثار الذكاء الاصطناعي، دور مواقع التواصل الاجتماعى فى الترويج للكتب، الرواية التفاعلية.. الجماليات والأبعاد التقنية، وموجات التغيير الرقمى فى كردستان.. كيف تغير وسائل التواصل الاجتماعى المجتمع؟

وتنوعت أنشطة المعرض بين ندوات باللغة العربية وأخرى باللغة الكردية، كما كانت هناك ندوات عن الترجمةً؛ خاصةً بين اللغتين العربية والكردية، من بينها: دور الترجمة فى التواصل بين الثقافات، الشاعر بين اللغة الأم ولغة أخرى.

وإن كنُت قد أشرت إلى الازدواج اللغوى فى البداية وإلى كون معرض أربيل يمثل جسرًا بين الثقافتين العربية والكردية، فإن أهم ما لفت نظرى خلال جولاتى بين أجنحة دور النشر المشاركة فيه هو أنه يصل ليس فقط بين هاتين الثقافتين، ولكن أيضًا بين ثقافات المنطقة ككل، إذ للإصدارات باللغتين الفارسية والتركية حضورها الملموس أيضًا، هذا بخلاف أن الجمهور لا يقتصر على العرب والأكراد فقط، بل يضم إلى جوارهم تركمان وأشوريين وسريانيين. وهنا تكمن أهمية هذا المعرض، ولو كنت مكان اتحاد الناشرين العرب لدعمته بكل السبل الممكنة، خاصة فى ظل التحديات السياسية الكبيرة التى يواجهها الشرق الأوسط، والتى يمكن للثقافة وحدها أن تساهم فى التغلب عليها وفى تعزيز ما يربط بين الثقافات والشعوب المختلفة.

ووفقًا لمنظمى المعرض، فقد شاركت فيه أكثر من 300 دار نشر وتوزيع، من 22 دولة، بقرابة مليون ونصف المليون عنوان. ومن الكتاب المشاركين فيه: جلال برجس، على بدر، نجم والي، على حسين، مها حسن، غالب الشابندر، حسين سعدون، كه يلان محمد، هيوا عثمان، على حسن الفواز، وعمر السراى.

من ناحية أخرى، لم تقتصر أنشطة معرض أربيل على الكتب والأدب فقط، بل امتدت إلى الثقافة والفنون بمعناها الأوسع. وكان للغناء والموسيقى حضور بارز من خلال حفلاتٍ غنائية لمطربات مثل: اللبنانية جاهدة وهبة والعراقية المقيمة فى هولندا بيدر البصري. وكان هناك حضور أيضًا لأغانٍ من الفلكلور العراقى العربى والكردى فى أمسية فنية أحياها الفنانان فاتن أحمد ورياض عثمان.

ومن اللافت للنظر أيضاً ذلك الاهتمام بالقراء الصغار، حيث رأيت الكثير منهم، جاء معظمهم ضمن رحلاتٍ مدرسية يمكن تمييز أفرادها بسهولة عبر الزى المدرسى الموحد، وسيرهم فى جماعاتٍ بصحبة مدرسين مشرفين عليهم. تنقّل هؤلاء الطلاب بين أجنحة دور النشر، خاصة الأجنحة الكردية، وأضفوا على المكان حيوية محببة. 

وإن كنت قد ذكرت التنوع الثقافى الذى يسم هذا المعرض، سواء لجهة دور النشر أو لجهة الجمهور، وكذلك الإقبال الكبير عليه خاصة فى أيام الإجازات، تبقى الإحصاءات الرسمية ضرورية لمعرفة حجم مبيعات الكتب فيه، وللمقارنة بين درجة الإقبال على الكتب العربية فى مقابل الكتب الكردية ونسبة الإقبال على الكتب باللغتين الفارسية والتركية كذلك، دون أن تعنى هذه المقارنات تغليب التنافس على التواصل والتمازج، إنما فقط النظر إليها باعتبارها نوعًا من دراسة السوق، وهو أمر لا غنى عنه للناشرين، ويصب فى نهاية المطاف فى صالح معارض الكتب ويساهم فى استمراريتها ويزيد من تأثيرها عامًا تلو الآخر.

فى النهاية، وبعيدًا عن معرض أربيل الدولى للكتاب بأروقته المحتضنة  للكتب والقراء وفعالياته المتنوعة التى تُعلى من قيم التسامح والتواصل دون إنكار الماضى أو تجاهل الاختلافات والخلافات، مثلت زيارتى لأربيل فرصة ذهبية للتعرف على وجه من وجوه العراق الثرية المتنوعة، وللتأكد مجددًا من أن الآداب والفنون هى طريقنا الأمثل للتفاهم ولإصلاح ما تفسده السياسة. من جهة أخرى سعدُت بحضور الفن المصرى ممثلًا فى أم كلثوم فى الفضاء العام للمدينة، ففى مشهد تكرر أكثر من مرة خلال وجودى فى أربيل، كنت أدخل مقهى، معظم رواده يتحدثون مع بعضهم البعض بالكردية، فأجد صوت أم كلثوم يصدح بكامل ألقه فى الخلفية.