«النِعم المألوفة» .. رُفعت الأوطان وجفّت الفوضى

أحمد الخطيب
أحمد الخطيب

.. أن تُحاط بالنعِمة فهى «نعمة»، وأن تُمنح القدرة على إدراكها والاستمتاع بها فهو ارتقاء فى درجة «الإنعام»، ثم أن ترتقى حتى ترتفع وصولاً إلى درجة تفوق شعورك بالمُنعم.. فذلك «عين النعمة». 

الخطورة تكمن حينما «تألف هذه النعمة» فتفقد شغفك بها، ثم يتضاءل الشعور بقيمتها وصولا إلى فقدان الإحساس بأهميتها، بعد التورط فى حالة بغيضة من التنكر لتلك النعمة، وبعد أن استقر فى الوجدان اطمئنانا لثباتها واستمرارها دون تقلبات، ودون شكر أو امتنان لمن منحها من قبل وحافظ عليها، انتهاءً بحالة سخط مُصطنع تجاه نعمة «الاستقرار والأمن» .

أن تألف النعمة فتفقد شعورك بقيمتها حالة إنسانية شديدة الخطورة. تتفاقم خطورتها حينما تتمدد من الخاص إلى العام، بفعل حالة التبشير بها ونشر دعواها بألسنة حِداد لدُعاة الإحباط الجدد الذين لا يكلّون ولا يملّون عن نشر إحباطاتهم فى الطرقات العامة، وعبر دروب التواصل الاجتماعى فى الفضاء الإلكترونى الذى سرعان ما يُلقى بظلاله السوداء على الواقع، فتتحول تفاصيله إلى حالة حصار معنوى يضغط على الأعصاب القومية للمجتمع بأسره، ويفرض على الدولة مركزا قانونيا لمتهم تجلده الأحكام السياسية والشعبية على مدار الساعة دونما أى حق له فى الدفاع عن نفسه فى مواجهة جرائم لم يرتكبها أساسا، بعد أن استقر فى الوجدان حالة «تربص عام» مقرونة بحملات لتسويق العدوان تجاه «الدولة» باعتباره نوعا من الممارسة السياسية أو الحرية التى يمكن أن تتيح حقوقا لنشر الفوضى أو الهدم بالوكالة. 

.. أن «تألف» الدولة فتفقد شعورك بقيمتها وحتمية وجودها قوية ومتماسكة ظاهرة خطيرة تنتشر سمومها فى أوردة المجتمع لتُحدث ارتكازات من «التجلطات السياسية» التى تحول دون تدفق الشعور الفطرى بالمسئولية الوطنية.

. . أن تألف شيئا أو شخصا هو أن تحبه وتأنس به وتلزمه بعدما تسيطر عليك حالة من الاتصال الوجدانى بما أحببت، وبمن أحببت . 

تلك هى النتيجة الطبيعية لحالة الألفة الناشئة، فإذا حدث خلاف ذلك فإننا نكون أمام حالة خارجة عن الفطرة، فلا يعقل أن تكون «الألفة» سبباً للجفاء والنكران، إلا إذا كان من ألِف قد اتخذ قرارا بالتنكر بإرادته لإعفاء نفسه من أى مسؤليات تجاه من تعود وأحب.

.. أن تألف وطنك فتأنس به كفى بها نعمة، أما أن تألفه فتتحول حالة الاستقرار بداخلك ومن حولك إلى مشاعر من «النكران الممنهج» أو الملل الذى يتم تسويقه وصولا إلى حاله من الغضب المُصطنع، نكون أمام حالة من «الخلل» فى الوعى العام كمن اتخذ قرارا بالدعوة للانتحار القومي.

قبل أيام كنت أجلس على مقهى فى حى عابدين العريق، وعلى مقربةٍ جلس أحد الأخوة الضيوف من إحدى دول الجوار الشقيقه التى تعانى من اقتتال أهلى مقيت، وقد طَفَرَتِ الدُّمُوعُ مِنْ عَيْنِهِ، فسرقت النظر اليه دون تلصص.. كان الرجل يتحدث باكيا عن فقدانه كل شىء فى بلاده التى فر منها هاربا بعد أن فَقَد الأولاد والزوجة والأهل والبيت والوظيفة، حتى قال لمُحدثه إن حدود الأمل فى حياته تقف عند أعتاب تمنى جلسة واحدة على مقهى فى عاصمة بلاده مثلما يجلس الآن فى عاصمة القاهرة آمنا فى سريه عنده قوت يومه. 

سُلبت من الرجل «النعمة» التى كانت «مألوفة» ذات يوم، فأدرك قيمتها وحقها.. لكن بعد أن رحل عنه ومنه كل شىء! 

من وجد «الدولة» وجد كل شىء، ومن فَقَد «الدولة» فَقَد كل شيئ . 

تلك قناعة يجب يألفها الوجدان العام، وسط طوفان الدمار الذى أغرق كثير من الدول ومازال الإغراق مستمرا .. 

رُفعت الأوطان وجفّت الفوضي!