سلسلة (كلمات ربي وآياته في القرآن والكون).. أُمَم أَمثَالُكم

ذ الدكتور أحمد فؤاد باشا
ذ الدكتور أحمد فؤاد باشا

تواصل بوابة أخبار اليوم نشر سلسلة (كلمات ربي وآياته في القرآن والكون) للأستاذ الدكتور أحمد فؤاد باشا ( عضو مجمع اللغة العربية) وحلقة اليوم عن كلمة {أُمَم أَمثَالُكم}

 

الأمة: جماعةٌ أكثرهم من أصل واحد، وتجمعهم صفات موروثة (فطرية)، وهذان عنصران مهمّان في تعريف "النوع" البيولوجي بشكل عام في إطار المجموعات التصنيفية المتسلسلة – هبوطًا – في عالم الأحياء على النحو التالي:

الشعبة، فالطائفة، فالرتبة، فالفصيلة، فالجنس، فالنوع.

وقد وردت المادة بمعنى أمم أمثال الناس مرة واحدة في قوله تعالى: {وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُم ۚ مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ ۚ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} (سورة الأنعام: 38). والأرجح أن الإشارة في هذه الآية الكريمة إلى "النوع"، وهو الوحدة الأساسية في تصنيف الأحياء. ويؤيد هذا أن هذه "الأمم" قيست على الناس{أَمثَالُكم}، والناس نوع واحد. كما أن الأسلوب في الآية الكريمة يفيد الشمول والعموم المستفاديْن من: "ومامن" متبوعة بـ"إلاّ"، ومن الإفراد والتنكير في "دابة" و"طائر"، وهو ما يفيد الاستغراق في الجنس وتوكيد العموم، كما يقول النحاة. فهي إذن قاعدة جامعة مانعة: كلُّ جماعة ذات أصل واحد من عالم الحيوان هي "نوع" مستقل في سلسلة تصنيف الأحياء.

و"المثليّة" في: {أَمثَالُكم} لا تمنع أيضًا أن يكون لكل أمة من هذه "الأمم" سلوك معين ونظام اجتماعي معين، على نحو ما يظهر في مملكتيْ النحل والنمل، لكن هذا لا يتعارض مع ما تفرَّد به الإنسان وتميز على سائر مخلوقات الله، وما حظي به من إكرام الله له واستخلافه إياه في الأرض. على أن الإمام القرطبي خرج من إيحاءات هذه الآية الكريمة بحكم شرعي أخلاقي، إذْ يقول: "أي هم جماعات مثلكم في أن الله عز وجل خلقهم، وتكفل بأرزاقهم، وعدل عليهم... فلا ينبغي أن تظلموهم، ولا تجاوزوا فيهم ما أمرتم به"، فهذا – فيما يقول الدكتور عبد الحافظ حلمي محمد – أقصى ما تدعو إليه المؤتمرات الدولية التي حضرها أقطاب العالم للتواصي برعاية "التنوع البيولوجي" والحفاظ عليه.

أما كلمة "دابة" الواردة في الآية الكريمة، وجمعها "دواب"، فقد تكررت في القرآن الكريم 18 مرة. ويمكن أن تطلق على عموم كل حيوان يتحرك، وهكذا تدخل فيها كل صنوف الحيوان، وقد وهبها الله جميعًا أعضاء متخصصة للحركة، وذكرها في القرآن الكريم يتفق ومقاصده في الهداية والإيمان من خلال دعوته إلى تأمل ما في خلقتها وأشكالها وصفاتها وأحوالها وانتقالها ومنافعها ومضارها، ففي ذلك "آيات" على خلقه وإبداعه، وقدرته وحكمته، وتدبيره ورحمته، مما يوجب إفراده بالعبادة والشكر: (سورة البقرة: 164)؛ (سورة لقمان: 10)؛ (سورة فاطر: 28)؛ (سورة الشورى: 29)؛ (سورة الجاثية: 4).

قال تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِّن مَّاءٍ ۖ فَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَىٰ بَطْنِهِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَىٰ رِجْلَيْنِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَىٰ أَرْبَعٍ ۚ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (سورة النور: 45).

تشير هذه الآية الكريمة إلى أن هناك تنوعًا واضحًا فيما يتعلق بحركة الدواب التي تشمل كل ما يدب على الأرض من مخلوقات، ابتداء من النملة الصغيرة إلى أضخم الكائنات التي تعيش في عصرنا هذا، أو التي كانت تعيش فيما مضى من الزمن. والمعروف أن الحركة هي إحدى مميزات تلك المخلوقات الحية، فهي لا تبقى ساكنة في مكانها كما تفعل النباتات التي تمتد جذورها في باطن الأرض بل هي في حركة مستمرة بحثًا عن الغذاء أو الماء اللازمين لبقائها على قيد الحياة، أو هربًا من كائنات أخرى تتربص بها وتحاول افتراسها، لتتخذ من لحومها طعامًا لها، أو للبحث عن مناطق جديدة تصلح لسكناها، وتكون أكثر ملاءمة لحياتها، من حيث الضوء أو الحرارة أو الرطوبة أو غيرها من العوامل الطبيعية، أو للبحث عن الشق الآخر حتى لا تتوقف عمليات التكاثر وإنتاج أنسال جديدة، مما يحقق بقاء تلك الأنواع على سطح الأرض.

وقد حددت الآية الكريمة ثلاثة أنماط رئيسية تمارسها الدواب عند تحركها من مكان إلى مكان على سطح الأرض، وهذا في حد ذاته يعتبر تصنيفًا علميًّا لعالم الدواب على أساس حركتها.

أما النمط الأول فيشمل من الدواب "من يمشي على بطنه". وعند استعراض مثل هذه الدواب، فإن أول ما يتبادر إلى الذهن أنها عديمة الأرجل، أو أن أرجلها ضعيفة لا تقوى على حمل أجسامها بعيدًا عن سطح الأرض. والواقع أن طائفة الزواحف أو الحيوانات الزاحفة هي خير ما تتمثل فيها تلك الصفات، فالبعض منها كالحيات والأفاعي والثعابين ليست لها أرجل على الإطلاق، ومع ذلك فهي قادرة تمامًا على الحركة السريعة والانتقال المباشر من مكان إلى مكان بفضل عضلاتها البطنية القوية والضلوع الكثيرة التي تمتد من كل فقرات الجسم ماعدا الذنب. وتقوم تلك العضلات بتحريك الضلوع، فتصبح وكأنها أرجل داخلية تدفع الجسم إلى الأمام بسرعة لا يستهان بها على الإطلاق.

والبعض الآخر من الزواحف مزوَّد بزوجيْن من الأرجل كما هي الحال في الفقاريات "رباعيات الأرجل"، وهي المجموعة التصنيفية التي تنتمي إليها كل الزواحف. ولكن القاعدة العامة في أرجل هذه الزواحف أنها أرجل ضعيفة لا تستطيع في كثير من الحالات حمل الجسم بعيدًا عن سطح الأرض، ولذلك فهي تمشي عادة وبطونها ملامسة لهذا السطح. وهذا هو السبب الرئيسي في تسميتها بالزواحف، والواقع أن هذه التسمية العربية مطابقة تمامًا لمعنى المصطلح الأجنبي المقابل لها Reptillia وقد اشتق من الكلمة اللاتينية Repto ومعناها "يزحف".

ومن أمثلة الزواحف ذات الأرجل الأربعة العظاءات (السحالي) على اختلاف أنواعها والسلاحف الأرضية. أما السلاحف المائية فقد تحورت أرجلها الأربعة إلى "مجاديف" تسبح بها سباحة سريعة في الأوساط المائية، ولكنها عندما تصعد إلى سطح الأرض في موسم التكاثر تكون حالها كحال السلاحف الأرضية من حيث الحركة البطيئة وملامسة بطنها لسطح الأرض، وتكون عندئذ مشابهة تمامًا للزواحف الأرضية النموذجية.

وأما النمط الثاني فيشمل من الدواب "من يمشي على رجلين". والإنسان هو أهم وأشهر تلك المخلوقات على الإطلاق. ويرى علماء الأحياء أن الطيور على اختلاف أنواعها – الطائرة منها والجارية – هي مجموعة تنتمي إلى الفقاريات "رباعية الأرجل" ولكن الرجْلين الأماميتين فيها تحورَّتا إلى جناحين تطير بهما في أجواء الفضاء، وبقيت الرجلان الخلفيتان على صورتهما الأصلية لاستخدامهما في عملية المشي على سطح الأرض.

وأما النمط الثالث الذي أشارت إليه الآية القرآنية الكريمة فيشمل من الدواب "من يمشي على أربع"، وهو الأكثر انتشارًا، لأن كثيرًا من هذه الدواب قد استؤنست وأصبحت تتعايش مع الإنسان في كل من الريف والحضر، ومنها على سبيل المثال الخيل والبغال والحمير التي يطلق عليها اسم "دواب الحمل"، ومنها أيضًا الأبقار والجمال والماعز والأغنام التي يفيد الإنسان من أصوافها وأوبارها وأشعارها.

والحديث عن دابة بعينها هي " ﰁ ﰂ" التي تأكل عصا سليمان عليه السلام وهو متكئ عليها، ورد في قوله تعالى: {فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَىٰ مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ ۖ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَن لَّوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ} (سورة سبأ: 14).

وقد أجمع المفسرون على أن " ﰁ ﰂ" هي "الأَرَضة"، التي تعرف أيضًا باسم "النمل الأبيض" ولو أنها ليست من النمل. فهي حشرات صغار الأحجام من رتبة "متساويات الأجنحة"، تكون مستعمرات كمستعمرات النمل والنحل. وتضم رتبة متساويات الأجنحة نحو ألفيْ نوع من الأرضة، تعيش في مختلف أنحاء الكرة الأرضية، ويستوطن حوالي 90٪ منها في المناطق الاستوائية.

من ناحية أخرى، كلمة "دابة"، وجمعها دواب، تطلق على كل ذي حياة يتحرك، سواء ما يتعلق بذوي التكليف أو بغير المكلفين، تسخيرًا أو اختيارًا على وجه العموم. وفي ضوء هذا نتأمل قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِن دَابَّةٍ ۚ وَهُوَ عَلَىٰ جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ} (سورة الشورى: 29).

حيث تشير هذه الآية الكريمة – والله أعلى وأعلم – إلى وجود كائنات تدب وتتحرك في السماوات والأرض، وهذه الكائنات عاقلة وذكية وعابدة وليست قاصرة على الملائكة. وتقرر هذه الآية الكريمة أيضًا أن الله – سبحانه وتعالى –قادر على جمع هذه الأحياء وحدوث الالتقاء بينها أثناء الحياة الدنيا أو في الآخرة.

وهذا الموضوع المتعلق باحتمالات وجود كائنات حيَّة ذكية غير الإنسان في كواكب أخرى في هذا الكون الفسيح أصبح من الموضوعات التي تجذب اهتمام الناس وتستحوذ على تفكيرهم في هذا العصر الذي نعيشه، حيث يلهث العلم وراء البحث عن أسباب تسمح بوجود حياة على الكواكب الأخرى غير الأرض في مجموعتنا الشمسية، أو على الكواكب التي تقع في أسر جاذبية النجوم الأخرى وتدور حولها. وعادة ما يكون اكتشاف أي آثار تدل على وجود الماء من أبرز الأسباب التي ترجح الاعتقاد بوجود حياة، حيث إن الماء هو الأصل والضروري لنشأة الحياة واستمرارها، باعتراف علماء البيولوچيا أنفسهم، وبتقرير القرآن الكريم في قوله تعالى:

{وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ ۖ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ} (سورة الأنبياء: 30). كذلك لابد من توفر درجة حرارة مناسبة لحياة الأحياء، بالإضافة إلى ضرورة توفر عنصر الكربون الذي يمتاز بقابليته وقدرته على الاتحاد بالعناصر الأخرى في مركبات أساسية للحياة.

أي أن الماء والحرارة المناسبة والكربون شروط ضرورية لقيام حياة كتلك التي نعرفها على الأرض. وإذا أخذنا هذا في الاعتبار بالنسبة لكواكب المجموعة الشمسية، نجد أنها – فيما عدا كوكب المريخ – لا تسمح مطلقًا بقيام حياة نظرًا لارتفاع درجة حرارتها، كما هو الحال بالنسبة لكوكبي عطارد والزهرة، أو لانخفاض درجة حرارتها كما هو الحال بالنسبة لكواكب المشترى وزحل وأورانوس ونبتون وبلوتو. أما المريخ فهو الكوكب الوحيد في مجموعتنا الشمسية الذي يبدو أنه تتوفر فيه متطلبات الحياة، وخاصة الحياة النباتية، نظرًا لأن غلافه الجوي يحتوي على نسبة عالية من ثاني أكسيد الكربون ولا يوجد به الأكسجين الكافي لنمو الحيوان.

كما أن ارتفاع الغلاف الجوي للمريخ لا يسمح بامتصاص الأشعة الكونية وفوق البنفسجية الضارة ولا يقدر على حرق الشهب، ومن ثم فإن احتمالات وجود حياة راقية، أو حتى بدائية، على المريخ منعدمة، وهذا ما أكدته البيانات الواردة من سفينة الفضاء "ڤايكنج" 1976م، والتي لم تثبت بعد هبوطها على سطح المريخ وجود حياة من أي نوع.

وهكذا أكدت رحلات الفضاء وأبحاث العلماء استحالة وجود حياة كالتي نعرفها على أي كوكب آخر غير الأرض في مجموعتنا الشمسية، وأصبح مطلوبًا البحث عن وجود هذه الحياة الذكية المحتملة بعيدًا عن المجموعة الشمسية على كواكب (أو أرضين) شبيهة بأرضنا وتابعة لنجوم (شموس) أخرى غير شمسنا في عوالم أخرى في مجرتنا أو المجرات الأخرى.

وقد أشار القرآن الكريم إلى تعدد العوالم في آيات كثيرة مصداقًا لقوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}، كما أشار إلى وجود سبع أرضين كما في قوله تعالـى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} (سورة الطلاق: 12).    

وتوجد بعض الدلائل التي تشجع العلماء على مواصلة البحث عن الحياة في الكواكب البعيدة عن مجراتنا، من ذلك اكتشاف عدة أحماض أمينية في قطع مختلفة من نيازك سقطت على الأرض حديثًا، واكتشاف ما يشير إلى احتمالات وجود بخار ماء وأمونيا في السحب الباردة الموجودة بين نجوم مجرتنا ومجرات أخرى. كذلك تمدنا نظرية الاحتمالات الرياضية بأن الفرصة ممكنة لوجود كواكب صالحة للحياة من بين الكواكب التي تتبع هذا العدد الهائل من النجوم (أكثر من مائة بليون نجم) في الكون المعروف لنا، وخاصة أن تركيب النجوم وقوانينها متشابهة مثل نجم الشمس. وبهذا يتضح أن من المنطقي أن توجد الحياة بأي صورة على كواكب أخرى غير أرضنا.

ولقد بذل الإنسان حديثًا محاولات للاتصال بالعوالم الأخرى، ومن بينها المركبة الخالية من البشر بايونير 10 عام 1972م وزميلتها سفينة فويجر2 التي أطلقت عام 1977م وتحمل أجهزة متقدمة وطاقة نووية تمكنها من مغادرة المجموعة الشمسية ومواصلة السير بحثًا عن العوالم الأخرى. ولقد زودت هذه السفينة برسائل رمزية وصورة رجل وامرأة من أهل الأرض يرفعون أيديهما رمزًا للسلام، ورسائل صوتية مسجلة بلغات مختلفة وموجهة من شعوب الأرض إلى سكان العوالم الأخرى لتحيتهم وحثهم على الاتصال بنا.

لكن، هل سيتحقق هذا الذي يبحث عنه العلماء.. العلم عند الله وحده القائل في محكم التنزيل: {وَهُوَ عَلَىٰ جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ} صدق الله العظيم.