«السيرما» المصرية تتحدى الزمن| زخارف عريقة بذكريات كسوة الكعبة

صورة موضوعية
صورة موضوعية

■ كتب: هانئ مباشر

لوحات مطرزة بشكل بديع من أقمشة سوداء منقوشة بآيات قرآنية بخيوط معدنية ذهبية وفضية، يصل عمر عدد منها لأكثر من نصف قرن، تغطّي جدران ورشة بأحد أزقّة حي «خان الخليلي»..

هذا هو فن وحرفة "السيرما" التي يتميز بها المصريون وعرفوها منذ عشرات العقود، وتوارثته الأجيال بداية من العصر المملوكى والعثمانى، حتى العصر الحديث، واستمد جماله عندما ارتبط بصناعة «كسوة الكعبة المشرفة» فن التطريز بخيوط الذهب والفضة المعدنية الذي يعرف بـ«السيرما»، فكانت «الكسوة المشرفة»، من الصناعات التي تميز فيها المصريون، وتتم حياكتها يدويا منذ عهد السلطان صلاح الدين الأيوبي.

فى تقليد استمر عبر مختلف العصور التاريخية، وحتى منتصف القرن الـ20، حيث كانت تنفذ بخيوط وأقمشة "السيرما"، قبل أن تنقل "الكسوة" إلى مكة المكرمة فى احتفالات مهيبة.. حتى توقف هذا التقليد تماما فى العام 1962، حين أنشأت السعودية مصنعا تولى مهمة صناعة كسوة الكعبة.

ورغم ذلك مازال يجلس "الأسطى أحمد عثمان القصابجي" داخل ورشة عتيقة، ممسكا بإبرة وخيط، ليوشّح قطعة من القماش الأسود بأدعية اعتاد فى زمن مضى مساعدة أبيه وجده فى صناعة "كسوة الكعبة المشرفة"، قبل أن يتحول إلى فن «السيرما» أو كتابة آيات قرآنية وأحاديث شريفة على القماش الأسود.

"القصابجي" لقب اكتسبته عائلتى من طبيعة عملها لسنوات طويلة فى الماضى فى صناعة كسوة الكعبة، وتتجه العائلة بعد ذلك لعمل أغلبه مرتبط بنقش وتطريز الآيات القرآنية، هكذا يبدأ كلام الأسطى أحمد شوقى القصابجي، والذى يضيف: إننا من أقدم العائلات التى عملت فى صناعة "الكسوة المشرفة"، وكانت فى البداية تٌصنًّع فى ورش خان الخليلي، قبل أن تنتقل إلى "دار صناعة كسوة الكعبة" بحى الجمالية.

◄ حشو النقوش
فى مكان آخر بمنطقة الغورية يجلس "الأسطى حسن الدواش" فى دكان صغير بجوار الجامع الأزهر منكبا على نوله الصغير، عينه على رقعة قماش سوداء يطرز حروف آية قرآنية بخيوط الذهب، وأذنه مع صوت الراديو الذى لا يعرف إلا محطة القرآن الكريم، وهكذا يستمر عمله لأكثر من 12 ساعة يوميا، مقسمة بين الصلاة فى الجامع الأزهر والعمل.

الأسطى حسن الدواش، يحكى لنا عن المهنة فيقول: "لقد بدأت فى تعلم مهنة "السيرما" أو "التقصيب" منذ أكثر من ٥٠ عاما وأنا مازلت فى المرحلة الابتدائية على يد "الحاج حميدو المورد" أحد صناع كسوة الكعبة المشرفة، وبعد عامين من التدريب والتعلم بدأت أجلس على "النول" وأعمل بيدى من وقتها وحتى يومنا هذا أمارس تلك المهنة، والتى تبدأ أولى مراحلها بقيام الخطاط بكتابة الآية المراد نقشها على ورقة بمساحة القماش، قبل أن يتم ثقب مكان الحروف، وطباعتها عبر «بودرة» بيضاء اللون على قطعة القماش، ثم يوضع ورق مقوى مماثل للحروف، ونبدأ غزل تلك الحروف بالخيط".

أضاف: "ثم تأتى مرحلة حشو النقوش والخطوط والرسوم بالخيوط، ثم العمل على هذه الرسومات باستخدام معدن النحاس الذى يتم سحبه ليتم تحويله لخيوط رفيعة يمكن استخدامها فى التطريز، أما المرحلة النهائية، فهى تثبيت الخيوط المعدنية على الرسومات المحشوة بالخيوط، وعادة ما يستغرق إنتاج قطعة واحدة عدة أسابيع، وذلك وفقا لحجمها، حيث يمكن أن يقضى كل العاملين فى الورشة أكثر من 6 أسابيع لإنجاز باب واحد، أما "القناديل" فتستغرق وقتا لا يزيد عن 5 أيام من فرد أو فردين على الأكثر".

◄ المكي.. والعثماني
وقال إن هناك نوعين من فن السيرما الأول هو "المكِّي" ويقصد به محاكاة كسوة الكعبة، والثانى هو "العثماني"، ويصنع منه الستائر والتكايا أو المساند، ويتفق الاثنان فى النقوش المستخدمة والمعدن المستخدم فى الخيوط، وهو النحاس المطلى بالذهب أو الفضة، أو حتى خيوط الذهب - حسب المشتري- ويختلفان فى نوعية القماش والمنتج النهائي، أضاف أن عملنا يحتاج إلى تركيز ودقة عالية كى نخرج بمنتج جيد قد نستغرق أياما للحصول عليه، حفاظا على سمعتنا التى ورثناها عن الأجداد، لكن نحن اليوم نعانى من غلاء المواد الخام وتراجع القدرة الشرائية لكثير من الزبائن، فضلا عن عزوف وتراجع الشباب عن تعلم أى حرفة بسبب الدخل الأكبر والجهد الأقل الذى يجده فى مهن أخرى، فـ"السيرما" آخذة فى الاندثار، ولم يعد يتبقى غير عدد محدود من الورش.

أنا لا أنتظر العائد من وراء هذه المهنة هكذا يواصل "الأسطى" كلامه، موضحا: "إننى أكون فى غاية السعادة وأنا أنقش آيات القرآن الكريم على رقع القماش لتتحول لقطعة فنية تزين المنازل والأماكن العامة، وفيما مضى كنا نقوم بإنتاج العديد من القطع ونعرضها للبيع، لكن الآن ننتج حسب الطلب نظرا لارتفاع التكلفة، حيث نقوم بعرض عدد من التصميمات على الزبائن ثم نتفق على "الوهبة" وهو المبلغ المطلوب نظير القطعة حيث لا نقول سعر بيعها، فالقرآن لا يقدر بثمن".

تابع: "للأسف السوق "المحلية" محدودة، فلا معارض أو سوق مجهز، غير تلك التى تنظمها وزارة التضامن الاجتماعى مثل معرض "ديارنا" خاصة وأن الفئة التى ترغب فى هذه المنتجات محدودة، والسوق الأساسى للتصدير، رغم أن إقامة المعارض يمكن أن يجتذب الفئة التى تحب هذا النوع من الفن، لاسيما أن الهنود بدأوا فى المنافسة فى هذا الفن، والمشكلة الأخرى أن أغلب "أسطوات الحرفة" قد اعتزلوا، وبالتالى بدأت الأجيال فى هذه الحرفة فى التناقص بسبب عدم وجود دخل مادى كافٍ للأحوال المعيشية كما كان فى بداية الأمر، لذلك لا يعمل بها حاليا سوى الموظفين الذين يعملون فى التطريز كمهنة إضافية فقط، بينما يفضل الشباب العمل فى أى حرفة أو مهنة أخرى حتى لو وصل الأمر لسائقين على "توكتوك"، لقلة المجهود المبذول، وارتفاع الدخل عن مثيله من المهنة".

أضاف، كعاملين فى الحرفة نعانى من عدم وجود تأمين صحى أو اجتماعي، رغم أننا قد نتعرض للإصابة أو العدوى بسبب أدوات التطريز الحادة التى يمكن أن تصيب اليد أو العين، مما يقعد العامل عن العمل بصورة نهائية، بالإضافة إلى أمراض المهنة الأساسية وهى الانزلاق الغضروفى بسبب الجلوس لفترات طويلة أو ضعف النظر.

◄ مكانة تاريخية
إن صناعة "السيرما" اليدوية لها مكانتها التاريخية الخاصة، وكان لها الشرف أن يزين بها كسوة الكعبة الشريفة على مر العصور، ويرجع بعض المؤرخين تاريخ ارتباط مصر بكسوة الكعبة فى مكة المكرمة، مع وصول عمرو بن العاص، والبعض الآخر ينسب البداية إلى حكم الفاطميين، فى حين تشير مصادر إلى كون ارتباط مصر بكسوة الكعبة بدأ فى عهد الظاهر بيبرس الحاكم المملوكي.

الدكتورة هبة نايل بركات، المؤرخة والباحثة فى مجال التراث الإسلامي، تقول إن التطريز بالسيرما من الفنون التقليدية القديمة التى ازدهرت فى الفن الإسلامى لارتباطها بأقدس أشكال العمل الفنى فى تراثنا القديم، وهو صناعة كسوة الكعبة المشرفة، إذ كانت تزخرف وتكتب شرائط من الآيات القرآنية عليها باستخدام أسلاك الذهب والفضة، لتبدو الكتابات والزخارف بارزة ومتألقة، وفى العصر المملوكى كان فى القاهرة دار لصناعة الكسوة الشريفة ترسل الكسوة سنوياً فى موكب مهيب يتزامن مع موسم الحج، وكان الموكب يعود بعد انتهاء موسم الحج حاملاً الكسوة القديمة فيهدى السلطان المصرى قطعاً منها لمماليكه أو للعلماء وكبار الأعيان، وبالتأكيد كان لهذه القطع قيمة معنوية كبيرة فضلاً عن قيمتها الفنية الرائعة وكان الناس يعلقونها فى صدارة مجالسهم.

◄ الخشخانة
أضافت، وقبل استخدام "السيرما" فى تطريز كسوة الكعبة المشرفة، كان يتم استخدام "الخشخانة"، وهو فن مقارب للسيرما حيث يتم استخدام المعادن فى تزيين الأقمشة وصناعة لوحات فنية تعتمد على الآيات القرآنية بالدرجة الأولى، ورسوم وعبارات أخرى مختلفة، ثم انتقلت لفن "القصب" وهو فن تستخدم فيه الخيوط المذهبة لعمل لوحات صغيرة، إلا أن تشبع السوق بهذا الفن دفع أصحاب الورش للتحول لفن السيرما وهو صناعة نماذج تشبه كسوة الكعبة، ولكن بعيداً عن التواريخ، تبقى حقيقة أن مصر وحرفييها قضوا قروناً ينسجون ويطرزون كسوة الكعبة، مرسخين الفنون التى ارتبطت بذلك الكساء حتى وإن لم تعد خدماتهم مطلوبة.

وفيما يتعلّق بأبرز الموضوعات الفنية التى يعبر عنها فن السيرما، ذكرت أن الفنان يهتم بنسخ الآيات القرآنية، وأبيات كتابية كالشعر والأحاديث، ونموذج أسماء الله الحسنى. ولفتت الانتباه إلى أن هذه الصناعة اليدوية تألّقت فى العصر العثمانى بمصر وإسطنبول؛ حيث أصبحت تزين أزياء ملكية وفساتين النخبة، كما كانت تستخدم فى ملابس وجداريات الكنائس القبطية بمصر.

◄ الديكور الحديث
يقول الفنان التشكيلي ومهندس الديكور ياسر الجمل: "أصبحت لوحات السيرما جزءا تقليديا من مكونات غرف الاستقبال فى كثير من بلدان العالم الإسلامى لإضفاء الفخامة والأناقة وتنوع

استخداماتها وأصالتها، تلك المشغولات من السيرما من عناصر الديكور التى تخطف الأبصار من أول نظرة، ما زالت فى عصرنا الحديث كجزء من الديكور الحديث الذى يوصى به خبراء كبار المصممين ومهندسى الديكور، حيث تضفى على المنزل جوا من الفخامة والثراء، لا يضاهيها قطعة ديكور أخرى وتتناسب تماماً مع غرفة الاستقبال المذهبة التى كلما مرت عليها السنون تزداد وهجا وقيمة مشغولات السيرما من أكثر الأشياء التى تصلح لإضفاء مظهر جديد وأنيق فى المكان وهى تتناسب مع كل الأذواق".