بداية

بنية الاغتيال

علاء عبدالكريم
علاء عبدالكريم

‭..‬الجلباب‭ ‬الأبيض‭ ‬القصير‭ ‬ليس‭ ‬دليلًا‭ ‬أو‭ ‬مقياسًا‭ ‬على‭ ‬الإيمان‭ ‬والورع‭ ‬والتقوى؛‭ ‬هو‭ ‬ستر‭ ‬للعورة‭ ‬ليس‭ ‬إلا،‭ ‬لكنه‭ ‬لن‭ ‬يستر‭ ‬انحطاط‭ ‬الخلق‭...‬،

ولا‭ ‬الخرز‭ ‬المثقوب‭ ‬الملون‭ ‬مثل‭ ‬الكريستال،‭ ‬المار‭ ‬فيه‭ ‬خيط‭ ‬رفيع،‭ ‬تحتضنه‭ ‬يدان‭ ‬غليظتان‭ ‬لا‭ ‬يعرف‭ ‬أصحابها‭ ‬من‭ ‬كهنة‭ ‬الظلام‭ ‬من‭ ‬دنياهم‭ ‬إلا‭ ‬الطعام‭ ‬والجنس‭ ‬تتناوبان‭ ‬أصابعهم‭ ‬تمرير‭ ‬الحبات،‭ ‬وشفتان‭ ‬تتمتم‭ ‬بكلام‭ ‬غير‭ ‬مسموع،‭ ‬حتى‭ ‬يكتمل‭ ‬الخداع‭ ‬بأنه‭ ‬دليل‭ ‬على‭ ‬نصوع‭ ‬القلب،‭ ‬رغم‭ ‬أن‭ ‬التاريخ‭ ‬يحدثنا‭ ‬أن‭ ‬المسبحة‭ ‬أصلها‭ ‬قبطى‭...‬،

ولا‭ ‬الكلام‭ ‬فى‭ ‬نكاح‭ ‬الجن‭ ‬وإشعال‭ ‬البخور‭ ‬والعود،‭ ‬ورش‭ ‬ماء‭ ‬الورد‭ ‬على‭ ‬الوجه،‭ ‬ووضع‭ ‬اليد‭ ‬على‭ ‬الرأس‭ ‬والصدر‭ ‬بزعم‭ ‬أنهما‭ ‬من‭ ‬أماكن‭ ‬تمركز‭ ‬الجن‭ ‬فى‭ ‬جسم‭ ‬الضحية،‭ ‬يعنى‭ ‬أنه‭ ‬وحده‭ ‬القريب‭ ‬من‭ ‬الله،‭ ‬وهذا‭ ‬يعطيه‭ ‬الحق‭ ‬لقتال‭ ‬أولياء‭ ‬الشيطان‭ ‬الذى‭ ‬سكن‭ ‬الجسد‭ ‬العليل‭ ‬ودوره‭ ‬هو‭ ‬تخليصه‭ ‬وتطهيره‭ ‬من‭ ‬الكائنات‭ ‬الشيطانية‭ ‬العابثة‭ ‬بأجساد‭ ‬الناس‭!‬

فى‭ ‬قلب‭ ‬ميدان‭ ‬الساعة‭ ‬الشهير‭ ‬بالإسكندرية،‭ ‬وعند‭ ‬حافة‭ ‬النافورة‭ ‬التى‭ ‬يتدفق‭ ‬ماؤها‭ ‬الناتج‭ ‬عن‭ ‬ضغطها‭ ‬بإحكام‭ ‬عبر‭ ‬ثقوب‭ ‬ضيقة‭ ‬فى‭ ‬حوض‭ ‬ضخم،‭ ‬جلست‭ ‬بوسى،‭ ‬فتاة‭ ‬في‭ ‬مقتبل‭ ‬شبابها‭ ‬وفورانه‭ ‬لكن‭ ‬قسوة‭ ‬الأزمة‭ ‬النفسية‭ ‬التي‭ ‬مرت‭ ‬بها‭ ‬جعلتها‭ ‬مخيفة‭ ‬فى‭ ‬نظر‭ ‬الناس،‭ ‬الجراح‭ ‬التى‭ ‬تملأ‭ ‬جبهتها،‭ ‬وملوحة‭ ‬الدمع‭ ‬الذى‭ ‬تجمد‭ ‬فوق‭ ‬عظمتي‭ ‬وجنتيها‭ ‬حفر‭ ‬طريقه‭ ‬على‭ ‬وجهها‭ ‬مثل‭ ‬أخدود،‭ ‬وبرودة‭ ‬الجو‭ ‬فى‭ ‬ظل‭ ‬شمس‭ ‬تأتى‭ ‬لحظات‭ ‬وتختفى‭ ‬ساعات‭ ‬طويلة،‭ ‬لسعتها‭ ‬أقسى‭ ‬من‭ ‬الضرب‭ ‬بالسياط‭ ‬على‭ ‬جسد‭ ‬شبه‭ ‬عارى،‭ ‬بدت‭ ‬أمام‭ ‬ناظريه‭ ‬وهو‭ ‬الرجل‭ ‬الذي‭ ‬أمضى‭ ‬حياته‭ ‬ينشغل‭ ‬بالنساء،‭ ‬امرأة‭ ‬خلبته‭ ‬بجمالها‭ ‬لا‭ ‬مجرد‭ ‬فتاة‭ ‬شارع،‭ ‬حاول‭ ‬أن‭ ‬يطفئ‭ ‬نارًا‭ ‬اشتعلت‭ ‬بداخله‭ ‬كمروض‭ ‬أسود‭ ‬يسيطر‭ ‬على‭ ‬أسد‭ ‬غاضب،‭ ‬بوسى‭ ‬هكذا‭ ‬يناديها‭ ‬الجميع‭ ‬مداعبين‭ ‬لها،‭ ‬لا‭ ‬يوجد‭ ‬لديها‭ ‬أى‭ ‬خطط‭ ‬أو‭ ‬أهداف‭ ‬مستقبلية‭ ‬لحياتها،‭ ‬ربما‭ ‬ينحصر‭ ‬تفكيرها‭ ‬فى‭ ‬نقطة‭ ‬واحدة‭ ‬وهو‭ ‬تأمين‭ ‬طعامها‭ ‬اليومى،‭ ‬ورقعة‭ ‬كرتونية‭ ‬تبيت‭ ‬فوقها‭ ‬آخر‭ ‬الليل‭ ‬بالقرب‭ ‬من‭ ‬حديقة‭ ‬عامة‭ ‬أو‭ ‬داخل‭ ‬نفق‭ ‬للمشاة‭ ‬أو‭ ‬فى‭ ‬شارع‭ ‬ضيق‭ ‬تحت‭ ‬نافذة‭ ‬بعيدًا‭ ‬عن‭ ‬عيون‭ ‬عصابات‭ ‬الشوارع‭ ‬الذين‭ ‬لا‭ ‬يفرقون‭ ‬بين‭ ‬الضحايا‭ ‬من‭ ‬البنات،‭ ‬ولا‭ ‬يعنيهم‭ ‬إن‭ ‬كانت‭ ‬صغيرة‭ ‬السن‭ ‬أو‭ ‬كبيرة،‭ ‬المهم‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬أنثى‭ ‬صالحة‭ ‬للاستخدام‭...‬،

مثل‭ ‬عقول‭ ‬المتسلفة،‭ ‬لا‭ ‬يزال‭ ‬عقله‭ ‬مسكونًا‭ ‬بهذه‭ ‬الفتاة‭ ‬التى‭ ‬زادته‭ ‬إجهادًا‭ ‬بملابسها‭ ‬الممزقة‭ ‬وغبار‭ ‬الشارع‭ ‬الذي‭ ‬ملأ‭ ‬وجهها‭ ‬الطفولي؛‭ ‬ناداها‭ ‬إلى‭ ‬عتبة‭ ‬سيارته‭ ‬التى‭ ‬وقف‭ ‬بها‭ ‬عند‭ ‬زاوية‭ ‬النافورة،‭ ‬ظلت‭ ‬بوسى‭ ‬صامتة‭ ‬وكأن‭ ‬لسان‭ ‬حالها‭ ‬يقول؛‭ ‬‮«‬لماذا‭ ‬يطلبنى‭ ‬وهو‭ ‬لا‭ ‬يعرفنى»؟‭!‬،‭ ‬لكن‭ ‬فى‭ ‬النهاية‭ ‬جذبتها‭ ‬دفء‭ ‬سيارته،‭ ‬لم‭ ‬تدرك‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬الذى‭ ‬تجلس‭ ‬بجواره‭ ‬صاحب‭ ‬وعى‭ ‬فاسد‭ ‬أباح‭ ‬لنفسه‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬باسم‭ ‬الدين،‭ ‬هى‭ ‬تبحث‭ ‬عن‭ ‬مكان‭ ‬تبيت‭ ‬فيه‭ ‬تظنه‭ ‬أمانا‭ ‬لها‭ ‬من‭ ‬النوم‭ ‬على‭ ‬الرصيف،‭ ‬أما‭ ‬هو‭ ‬فقد‭ ‬رآها‭ ‬مثل‭ ‬قطعة‭ ‬شواء‭ ‬جاهزة‭ ‬للالتهام‭.  ‬

من‭ ‬أسف‭ ‬الشرق‭ ‬المسلم‭ ‬كله؛‭ ‬عاش‭ ‬بين‭ ‬زمنين‭ ‬عادا‭ ‬بهما‭ ‬إلى‭ ‬القرون‭ ‬الوسطى؛‭ ‬زمن‭ ‬رزحنا‭ ‬تحت‭ ‬سيطرته‭ ‬عقودًا‭ ‬كثيرة‭ ‬لم‭ ‬نجن‭ ‬منه‭ ‬سوى‭ ‬الجهل‭ ‬والبطالة‭ ‬والعنف‭ ‬والجريمة‭ ‬بكل‭ ‬أشكالها،‭ ‬وصار‭ ‬اللامعقول‭ ‬يتحكم‭ ‬فى‭ ‬حياتنا‭ ‬فأصبحنا‭ ‬نؤمن‭ ‬بزواج‭ ‬القاصرات،‭ ‬وأن‭ ‬زواج‭ ‬البنت‭ ‬قبل‭ ‬البلوغ‭ ‬هو‭ ‬سترة‭ ‬لها‭ ‬وسنة‭ ‬نبوية،‭ ‬ونصدق‭ ‬الخرافة‭ ‬والجن‭ ‬والعفاريت‭ ‬مثل‭ ‬إيماننا‭ ‬بالأديان،‭ ‬وبدلاً‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬حياة‭ ‬الانسان‭ ‬ومستقبله‭ ‬فى‭ ‬العلم‭ ‬صرنا‭ ‬نهتم‭ ‬بالغيبيات‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬اساس‭ ‬لها‭ ‬وصارت‭ ‬ورقة‭ ‬الساحر‭ ‬ذو‭ ‬اللحية‭ ‬الطويلة‭ ‬التى‭ ‬يكتبها‭ ‬لعاقر‭ ‬تأتى‭ ‬بابه‭ ‬أو‭ ‬لمريض‭ ‬مكانه‭ ‬العيادة‭ ‬النفسية‭ ‬فرض‭ ‬عين‭ ‬على‭ ‬المؤمنين‭ ‬بهذه‭ ‬الخزعبلات‭ ‬التى‭ ‬ينشرها‭ ‬هؤلاء‭ ‬كهنة‭ ‬الظلام،‭ ‬لا‭ ‬فكاك‭ ‬من‭ ‬الخلاص‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬العفريت‭ ‬أو‭ ‬الجن‭  ‬إلا‭ ‬بلمسة‭ ‬من‭ ‬يد‭ ‬جاهل‭ ‬يضعها‭ ‬على‭ ‬رأس‭ ‬من‭ ‬أقتنع‭ ‬بهذا‭ ‬الزيف‭ ‬وجعله‭ ‬مصيره‭ ‬المحتوم،‭ ‬وبدلاً‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬علة‭ ‬الشفاء‭ ‬من‭ ‬مرض‭ ‬عضال‭ ‬أو‭ ‬غير‭ ‬عضال‭ ‬كتبه‭ ‬القدر‭ ‬على‭ ‬الإنسان‭ ‬ولا‭ ‬حل‭ ‬من‭ ‬إزالة‭ ‬هذا‭ ‬المرض‭ ‬إلا‭ ‬بالعلاج،‭ ‬طرقنا‭ ‬أبواب‭ ‬السلفيين‭ ‬وصدقناهم‭ ‬بأن‭ ‬ما‭ ‬حل‭ ‬فى‭ ‬أجسادنا‭ ‬هى‭ ‬كائنات‭ ‬شيطانية‭ ‬فتلبستها‭ ‬ولن‭ ‬تخرج‭ ‬إلا‭ ‬بإشعال‭ ‬البخور‭ ‬وأقوال‭ ‬غير‭ ‬مفهومة‭ ‬تُقال‭ ‬على‭ ‬رأس‭ ‬من‭ ‬سكنت‭ ‬الأرواح‭ ‬الشريرة‭ ‬جسده،‭ ‬هذه‭ ‬الصور‭ ‬الصارخة‭ ‬من‭ ‬أشكال‭ ‬السحر‭ ‬والتنجيم‭ ‬صارت‭ ‬تُمارس‭ ‬بشكل‭ ‬علنى–‭ ‬للأسف‭ - ‬حتى‭ ‬فى‭ ‬الفضائيات‭.‬

فى‭ ‬عام‭ ‬2008‭ ‬أتت‭ ‬إلى‭ ‬مصر‭ ‬خبيرة‭ ‬رومانية‭ ‬‮«‬أنا‭ ‬فيتا‮»‬‭ ‬همها‭ ‬الوحيد‭ ‬هو‭ ‬دراسة‭ ‬تأثير‭ ‬الجن‭ ‬على‭ ‬عقول‭ ‬المصريين‭ ‬فخلصت‭ ‬إلى‭ ‬مفاجأة‭ ‬مرعبة‭ ‬تؤكد؛‭ ‬أن‭ ‬السفهاء‭ ‬بيننا‭ ‬لا‭ ‬يزال‭ ‬يقتنعون‭ ‬أن‭ ‬أقدارنا‭ ‬لا‭ ‬بيد‭ ‬الله‭ ‬وحده‭ ‬وإنما‭ ‬بيد‭ ‬العفاريت؛‭ ‬تقول‭ ‬الخبيرة‭ ‬الرومانية‭: ‬‮«‬أن‭ ‬هناك‭ ‬ملايين‭ ‬المصريين‭ ‬يؤمنون‭ ‬بالجن‭ ‬ويعتنقون‭ ‬140‭ ‬فكرة‭ ‬خرافية‮»‬،‭ ‬فـ‭ ‬بعدما‭ ‬كنا‭ ‬أمة‭ ‬عظيمة‭ ‬وصلت‭ ‬للقمة‭ ‬بفضل‭ ‬علمائها‭ ‬واكتشافاتهم‭ ‬فى‭ ‬الطب،‭ ‬والكيمياء،‭ ‬والجغرافيا،‭ ‬والتاريخ،‭ ‬والفلسفة،‭ ‬والمنطق،‭ ‬ونقل‭ ‬عنا‭ ‬الغرب‭ ‬الذى‭ ‬كان‭ ‬مستغرقا‭ ‬وقتها‭ ‬فى‭ ‬التخلف‭ ‬والهمجية،‭ ‬عدنا‭ ‬إلى‭ ‬الوراء‭ ‬بأفكار‭ ‬وفتاوى‭ ‬ابن‭ ‬تيمية‭ ‬وإحياء‭ ‬الغزالى،‭ ‬وفى‭ ‬المقابل‭ ‬تقدم‭ ‬الغرب‭ ‬بالرشدية‭ ‬اللاتينية‭ ‬نسبة‭ ‬لابن‭ ‬رشد،‭ ‬فعندما‭ ‬سافر‭ ‬الطهطاوى‭ ‬مثلًا‭ ‬معجبًا‭ ‬بباريس‭ ‬والعلم‭ ‬الذى‭ ‬وصلت‭ ‬إليه‭ ‬بفضل‭ ‬علمائها‭ ‬ومفكريها‭ ‬ومثقفيها‭ ‬وأدبائها،‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬هذه‭ ‬المدينة‭ ‬فى‭ ‬نظر‭ ‬رشيد‭ ‬رضا‭ ‬سوى‭ ‬مدينة‭ ‬‮«‬الكفر‭ ‬والإلحاد‭ ‬والضلال‮»‬‭ ‬التى‭ ‬يخشى‭ ‬على‭ ‬من‭ ‬يأتيها‭ ‬من‭ ‬المسلمين‭ ‬الفتنة‭.‬

بنية‭ ‬الاغتيال‭ ‬حكاية‭ ‬بوسى‭ ‬والسلفى،‭ ‬تتكرر‭ ‬ولكن‭ ‬بتفاصيل‭ ‬وأشخاص‭ ‬آخرين،‭ ‬حكاية‭ ‬ليس‭ ‬لها‭ ‬أول‭ ‬ولن‭ ‬يكون‭ ‬لها‭ ‬آخر‭.‬

;