..الجلباب الأبيض القصير ليس دليلًا أو مقياسًا على الإيمان والورع والتقوى؛ هو ستر للعورة ليس إلا، لكنه لن يستر انحطاط الخلق...،
ولا الخرز المثقوب الملون مثل الكريستال، المار فيه خيط رفيع، تحتضنه يدان غليظتان لا يعرف أصحابها من كهنة الظلام من دنياهم إلا الطعام والجنس تتناوبان أصابعهم تمرير الحبات، وشفتان تتمتم بكلام غير مسموع، حتى يكتمل الخداع بأنه دليل على نصوع القلب، رغم أن التاريخ يحدثنا أن المسبحة أصلها قبطى...،
ولا الكلام فى نكاح الجن وإشعال البخور والعود، ورش ماء الورد على الوجه، ووضع اليد على الرأس والصدر بزعم أنهما من أماكن تمركز الجن فى جسم الضحية، يعنى أنه وحده القريب من الله، وهذا يعطيه الحق لقتال أولياء الشيطان الذى سكن الجسد العليل ودوره هو تخليصه وتطهيره من الكائنات الشيطانية العابثة بأجساد الناس!
فى قلب ميدان الساعة الشهير بالإسكندرية، وعند حافة النافورة التى يتدفق ماؤها الناتج عن ضغطها بإحكام عبر ثقوب ضيقة فى حوض ضخم، جلست بوسى، فتاة في مقتبل شبابها وفورانه لكن قسوة الأزمة النفسية التي مرت بها جعلتها مخيفة فى نظر الناس، الجراح التى تملأ جبهتها، وملوحة الدمع الذى تجمد فوق عظمتي وجنتيها حفر طريقه على وجهها مثل أخدود، وبرودة الجو فى ظل شمس تأتى لحظات وتختفى ساعات طويلة، لسعتها أقسى من الضرب بالسياط على جسد شبه عارى، بدت أمام ناظريه وهو الرجل الذي أمضى حياته ينشغل بالنساء، امرأة خلبته بجمالها لا مجرد فتاة شارع، حاول أن يطفئ نارًا اشتعلت بداخله كمروض أسود يسيطر على أسد غاضب، بوسى هكذا يناديها الجميع مداعبين لها، لا يوجد لديها أى خطط أو أهداف مستقبلية لحياتها، ربما ينحصر تفكيرها فى نقطة واحدة وهو تأمين طعامها اليومى، ورقعة كرتونية تبيت فوقها آخر الليل بالقرب من حديقة عامة أو داخل نفق للمشاة أو فى شارع ضيق تحت نافذة بعيدًا عن عيون عصابات الشوارع الذين لا يفرقون بين الضحايا من البنات، ولا يعنيهم إن كانت صغيرة السن أو كبيرة، المهم أن تكون أنثى صالحة للاستخدام...،
مثل عقول المتسلفة، لا يزال عقله مسكونًا بهذه الفتاة التى زادته إجهادًا بملابسها الممزقة وغبار الشارع الذي ملأ وجهها الطفولي؛ ناداها إلى عتبة سيارته التى وقف بها عند زاوية النافورة، ظلت بوسى صامتة وكأن لسان حالها يقول؛ «لماذا يطلبنى وهو لا يعرفنى»؟!، لكن فى النهاية جذبتها دفء سيارته، لم تدرك بعد أن الذى تجلس بجواره صاحب وعى فاسد أباح لنفسه كل شيء باسم الدين، هى تبحث عن مكان تبيت فيه تظنه أمانا لها من النوم على الرصيف، أما هو فقد رآها مثل قطعة شواء جاهزة للالتهام.
من أسف الشرق المسلم كله؛ عاش بين زمنين عادا بهما إلى القرون الوسطى؛ زمن رزحنا تحت سيطرته عقودًا كثيرة لم نجن منه سوى الجهل والبطالة والعنف والجريمة بكل أشكالها، وصار اللامعقول يتحكم فى حياتنا فأصبحنا نؤمن بزواج القاصرات، وأن زواج البنت قبل البلوغ هو سترة لها وسنة نبوية، ونصدق الخرافة والجن والعفاريت مثل إيماننا بالأديان، وبدلاً من أن تكون حياة الانسان ومستقبله فى العلم صرنا نهتم بالغيبيات التي لا اساس لها وصارت ورقة الساحر ذو اللحية الطويلة التى يكتبها لعاقر تأتى بابه أو لمريض مكانه العيادة النفسية فرض عين على المؤمنين بهذه الخزعبلات التى ينشرها هؤلاء كهنة الظلام، لا فكاك من الخلاص من هذا العفريت أو الجن إلا بلمسة من يد جاهل يضعها على رأس من أقتنع بهذا الزيف وجعله مصيره المحتوم، وبدلاً من أن تكون علة الشفاء من مرض عضال أو غير عضال كتبه القدر على الإنسان ولا حل من إزالة هذا المرض إلا بالعلاج، طرقنا أبواب السلفيين وصدقناهم بأن ما حل فى أجسادنا هى كائنات شيطانية فتلبستها ولن تخرج إلا بإشعال البخور وأقوال غير مفهومة تُقال على رأس من سكنت الأرواح الشريرة جسده، هذه الصور الصارخة من أشكال السحر والتنجيم صارت تُمارس بشكل علنى– للأسف - حتى فى الفضائيات.
فى عام 2008 أتت إلى مصر خبيرة رومانية «أنا فيتا» همها الوحيد هو دراسة تأثير الجن على عقول المصريين فخلصت إلى مفاجأة مرعبة تؤكد؛ أن السفهاء بيننا لا يزال يقتنعون أن أقدارنا لا بيد الله وحده وإنما بيد العفاريت؛ تقول الخبيرة الرومانية: «أن هناك ملايين المصريين يؤمنون بالجن ويعتنقون 140 فكرة خرافية»، فـ بعدما كنا أمة عظيمة وصلت للقمة بفضل علمائها واكتشافاتهم فى الطب، والكيمياء، والجغرافيا، والتاريخ، والفلسفة، والمنطق، ونقل عنا الغرب الذى كان مستغرقا وقتها فى التخلف والهمجية، عدنا إلى الوراء بأفكار وفتاوى ابن تيمية وإحياء الغزالى، وفى المقابل تقدم الغرب بالرشدية اللاتينية نسبة لابن رشد، فعندما سافر الطهطاوى مثلًا معجبًا بباريس والعلم الذى وصلت إليه بفضل علمائها ومفكريها ومثقفيها وأدبائها، لم تكن هذه المدينة فى نظر رشيد رضا سوى مدينة «الكفر والإلحاد والضلال» التى يخشى على من يأتيها من المسلمين الفتنة.
بنية الاغتيال حكاية بوسى والسلفى، تتكرر ولكن بتفاصيل وأشخاص آخرين، حكاية ليس لها أول ولن يكون لها آخر.