عادل القليعي يكتب: روحانيات.. وكلهم آتيه يوم القيامة فردا

عادل القليعي
عادل القليعي

فى البداية عندما نتحدث حديث الروح ، يحضرني بيت شعر لشيخ الاشراق الحكيم النوراني الرباني السهروردي، الذي يقول فيه أبدا تحن إليكم الأرواح* ووصالكم ريحانها والراح.

فالروح دوما وأبدا تهفو إلى عالمها الآخر ، عالم البقاء والنقاء والطهر والصفاء ، ففيه الوصل والتواصل والوصال.

إلا أننا لا ننكر عالمنا الذي نحياه والذي أمرنا الله تعالى بعمارته وتحمل مسؤولياتنا تجاهه سبحانه وتعالى والتي من خلالها يكون القرب والتقرب إليه ، إذا تحملناها بإخلاص وراعيناه في كل صغيره وكبيرة لأنه رقيب علينا.

من الركائز الأساسية التى ينبغي أن تقوم عليها هذه المراعاة ، ألا ننغمس بالكلية في شهواتنا فهذه أمور صغائر تزول بزول المؤثر ، فليس ثم مال يدوم ، اليوم معك غدا لا تملك شيئا ، اليوم صحيح قوي غدا سقيم عليل ، اليوم صاحب جاه وسلطان يشار إليك بالبنان غدا سينصرف عنك الجميع بعدما يزول عنك منصبك ، اليوم لك عزوة وولد تحتمي بحماهم غدا كل ذلك سيفني ولن يبقى لك إلا عملك الذي كلفت به من الله .

وهذه فلسفة التكليف، علاقة إما أن تكون علاقة حميمية بين المكلف (الله تعالى)، والمكلف (الإنسان)، أو تكون علاقة تنافرية، وهنا يأتى الإلزام والإلتزام ، إلزام منه سبحانه ، والتزام منا تجاهه فهل سننجح فى الإختبار ونكون على قدر هذه المسؤولية والتكليف.

وعلى الرغم من أن الله تعالى حدد لنا هذه التكليفات فى صورة أوامر ونواهي ، متمثلة فى قوله تعالى (ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا)، إلا إنه تعالى لم يتركنا هملا بل سخر لنا كل المقومات المادية المعينة على تحمل المسؤولية ، وفي نفس ذات الوقت وهبنا الرقيب علينا متمثلا فى الضمير ، واعطانا الحكمة متمثلة فى العقل ضابط إيقاع الإنسان الممسك بزمامه إذا ما رآه يحيد عن الجادة والصواب يعيده مرة أخرى ، ليس هذا وحسب بل وأنعم علينا بالإرادة الخيرة التي توجه الإنسان إلى فعل الخيرات ، أما إذا اتجه إلى الشرور فقد ظلم نفسه (وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون).

نعم فالإنسان يجمع بين جانبين ، جانب مادي إذا طغى صار صاحبه من أهل الشقاء ، (كلا إن الإنسان ليطغى)، وجانب معنوي إذا أسرف الإنسان على نفسه فى تعامله مع هذا الجانب سيكون قد ظلم نفسه ، فهو بشر وله متطلبات حياته ومقوماته ، فهو ليس ملاكا ، وهذا ما أخبر عنه النبي صل الله عليه وسلم فى حديث الثلاثة نفر ، أحدهم يقول أنا لا أتزوج ، والآخر يقول اصوم ولا أفطر ، والثالث يقول أقوم الليل ولا أنام.
ثم يأتي الحكيم صل الله عليه وسلم فيهذب هؤلاء قائلا أما أنا فاصوم وافطر واتزوج النساء وأقوم الليل وانام ، وهذه سنتي ، نعم تلك رحمة الله بعباده ، فالله أمرنا أن نأكل ونشرب ونصوم ونصلي لكن بوسط عدل محمود دونما إفراط أو تفريط.

وهنا يأتي دور العقل الفلسفي الذي يتعقل المسألة فيدرك كيف تفك رموز هذه المعادلة التي هي جدلية العلاقة بين المادة والروح ، الحسي والمعنوي ، ثم يعرض ذلك على القلب فيصفو ويطيب وتتطهر النفوس وتزكوا ، وتحلق الأرواح في سبوحات الملك منطلقة إلى روح الأرواح وقدس الأقداس رب الأرواح.

إذا ما استطاع الإنسان حل رموز هذه المعادلة سيدرك أن الدنيا دار ممر لا دار مستقر وأنه مهما طال به الوقت سيفارق ومهما أحب سيغادر ، فهل ستكون عدته متينة وزاده كثير حتى يتحمل مشقة السفر.

نعم سنغادرها جميعا وكل سيذهب بعمله وسيدخل قبره ولن ينفعه مال ولا ولد ولا منصب ولا جاه ولا جمال ، قد ينفعه الولد إن كان صالحا والمال إذا أنفقه فى سبيل الله والجاه والسلطان إذا لم يتكبر ويتجبر على رعيته وجماله إذا انعكس على روحه ونفسه فطابت ورقت ، وقد ينفعه علمه إذا كان علما مفيدا عمل به وعلم الناس.
نعم (وكلهم آتيه يوم القيامة فردا)، (ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم)،  الكل سيقف أمام الله تعالى فاخلعوا عن أنفسكم حمولات أنتم لا طاقة لكم بحملها ، اخلعوا عنكم الألقاب الدنيوية فهناك لن ينادي علينا المنادي للوقوف أمام الله بألقابنا فلا دكتور ولا وزير ولا غفير ولا سفير ولا رئيس ولا سلطان ولا ملك وإنما هي أعمالنا ستعرض علينا وإنما هي صحائفنا ستتلى علينا فمن وجدها خيرا فليحمد الله ومن وجدها شرا فلا يلومن إلا نفسه.

انظروا أعزكم الله تعالى وايدكم بروح وريحان وجنة نعيم إلى عمر بن الخطاب ، هل نحن أفضل أم هو ، انظروا لحاله عندما دنى أجله ووافته المنية ماذا قال لابنه عبد الله ، ضع خدي على التراب واذهب إلى زوج النبي عائشة واستئذنها أن أدفن بجوار النبي فأنا لست أميرا للمؤمنين وإنما هي أم المؤمنين لابد من الاستئذان.
وهاهو أحد الخلفاء يقول لأبنائه احملوني إلى قبري فيحملوه وينظر إلى لحده وينظر إلى السماء وقد ابتلت لحيته من كثرة انهمار الدموع ، ويقول يا من لا يزول ملكه أرحم من قد زال ملكه.

نعم ارحم من قد زال ملكه ، ورأينا كثرا من الأمراء من يخالط الناس ويمشي فى الأسواق ، رأينا وسمعنا عن من كان يترك كرسي العرش ويجلس مفترشا التراب ، وسمعنا عن من يضع كرسيه بجوار باب مكتبه متأهبا لترك هذا اامنصب.

نعم جميعنا سيقف أمامه تعالى وسيسئل عن ماله وعلمه وشبابه ، سيسئل عن إخوانه المسلمين وإخوته فى الإنسانية ماذا قدمتم لهم ، هل مددتم يد العون لهم ، رأيتم أطفالهم أشلاء ويموتون بردا وجوعا وعطشا - إلى الله نشكو يا غزة ، إلى الله نشكو ضعف قوتنا وقلة حيلتنا ، إلى الله نشكو من خذلكم وتخاذل نتكاسل عن نصرتكم - وشيوخهم يقتلوا ومنازلهم تهدم فوق رؤوسهم ، وخدجهم تفصل عنهم الحضانات وشبابهم خيرة الشباب يقتلون، ماذا قدمنا لهم من معونات ومساعدات حتى ولو بالدعاء وهذا أضعف الإيمان.
نعم الكل سيجتمع وسيقف أمامه سبحانه لفصل القضاء.

(من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها)

وأختتم حديثي بقوله تعالى وأتمنى أن تتدبروا هذه الآية جيدا
(إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا)، هذا الود فى الدنيا يوضع له القبول عند أهل الأرض.

والود فى الآخرة الفوز برضوان الله تعالى والفوز بالجنة.

كاتب المقال أستاذ ورئيس قسم الفلسفة بآداب حلوان.