حكايات| أبناء قريته يعيشون معه 30 ليلة جميلة.. «ناجح» مسحراتي «ماشي بنور الله»

مسحراتي
مسحراتي

■ كتب: هانئ مباشر

في عتمة الليل والأيام.. وبنور البصيرة يجول المسحراتى الكفيف ناجح حامد، صاحب الستين عاما، شوارع قرية «عواجة» بمركز ديروط فى محافظة أسيوط من الساعة الثانية عشرة ليلاً وحتى الفجـر، يصدح بنوبته الثقيلة «الطبلة» يوقظ الكبار والصِغار ليتناولوا وجبة السحور..

منذ 20 عاماً ينام أهل البلدة دون منبهات توقظهم، فـ«العم ناجح» لم يغبْ يوما عنهم.. ولا يتأخر عن موعده، يطوف القرية هو وحفيده وجاره بالدُف والرق، وخلفهم أطفال القرية أجمعين. يفعل ذلك يومياً دون تقاضى أجر، يكتفى بطلب المغفرة والرحمة من الله عز وجل.

سنوات طوال وأهالى القرية لا يعرفون سوى «عم ناجح» مسحرا لسحور شهر رمضان، وينهضون من نومهم مهما كانت برودة الطقس على صوته وضربات عصاه الخشبية على أبواب منازلهم القديمة، مناديًا بالاسم على كل شخص من سكان القرية، كى ينهض لوجبة السحور.

◄ الصفيحة قبل «النوبة»!
منذ أن كان «ناجح» شابا فى العشرين من عمره أصبح هو مسحراتى القرية فى رمضان، ولم تمنعه بعد ذلك إصابته بفقدان البصر من أن يتنقّل بين أزقة القرية التى حفظها كما يحفظ اسمه، مطلقا العنان لصوته بالنداء على الأهالي.

ولم يرتد أى زى تقليدى كما دأب غيره من المسحرين، بل إنه فى بداية عمله بالمهنة لم يكن يحمل طبلة، بل كان يحمل عصاه الخشبية الغليظة وقطعة من الصفيح جعلها «طبلة»، وكانت تلك وسيلته لإيقاظ أهالى القرية، وكان لا يرحل عن منزل أحدهم قبل أن يتأكد من أنه نهض من فراشه لتناول السحور، قبل أن يشترى له أهل الخير «النوبة» وهى الطبلة الكبيرة التى تلازمه منذ عدة سنوات.

يمثل «العم ناجح» جزءًا من ذكريات معظم سكان القرية، لا سيما أنه يرتبط بأيام الألفة والمحبة فى شهر رمضان، فلكل منهم قصة مع هذا الرجل المسن، والذى هو نفسه مليء بالقصص والحكايات منذ أن بدأ فى تسحير أهالى القرية لوجه الله منذ أن كان فى سن الخامسة عشرة.

فى كل ليلة لا يقتصر الأمر على نقره على «الطبلة» أو القرع بعصاته على أبواب بيوت القرية لتسحيرهم، فالرجل فى بداية كل ليلة يخلد لتلاوة أجزاء من القرآن التى حفظها، فهو خريج أحد

 

معاهد القرآن بأسيوط، قبل أن يبدأ الجزء الثانى من السهرة، حيث يقف فى وسط عدة شوارع رئيسية من القرية ويجتمع حوله الأهالى من كل الأعمار يستمعون إليه وهو يحكي:

 

«بعد المديح فى المُكَمَّل.. أحمد أبو درب سالك.. نحكى فى سيرة وكمل.. عرب يذكروا قبل ذلك.. سيرة عرب أقدمين.. كانوا ناس يخشون الملامة.. رئيسهم أسد سبع ومتين.. يسمى الهلالى سلامة».

◄ طقوس من رمضان
بهذه الكلمات يبدأ فى سرد واحدة من أهم وأبرز السير الشعبية، «السيرة الهلالية» بالمديح للنبى العربى والصلاة عليه، قبل أن يسرد قصص البطولة، والشجاعة، والحب، والألم، وكذلك الحسرة، وسط شغف كل الأهالى الذين طار من أعينهم النوم من حلاوة قصصه.

«العم ناجح» أو «المسحراتى» هو عنوان لواحدة من الطقوس الرائعة فى شهر رمضان التى مازالت تقاوم الزمن، رغم تعدد السهرات الرمضانية والتقاء الإفطار بالسحور مع وجود القنوات الفضائية المتنوعة، إلا أن سماع «المسحراتي» يعلو صوته الرخيم ينادي:

«سحورك يا صائم»!.. يضفى لونا خاصا على الأجواء الرمضانية بالمناطق الريفية، ورغم التقدم واختفاء الكثير من تقاليد الشهر الكريم القديمة الراسخة فى تراث أهالى الأرياف، لا يزال نموذج «العم ناجح» أو «مسحراتى القرية» يمنح ليالى رمضان نكهة خاصة، حيث ينطلق خلفه مجاميع كثيرة من الأطفال والشباب لتجوب البلدة بأكملها مارة بكل شارع فيها، ويخرج الكبار والصغار كل يحمل شيئا يطرق عليه مرددين الجمل المعروفة لأناشيد رمضان.

منهم من يحمل إحدى أوانى المطبخ ومعها ملعقة كبيرة ليطرق بها، وآخرون يحملون علب الصفيح الفارغة أو الصفائح الكبيرة ويطرقون عليها بالعصي، وهكذا تبدأ المظاهرة صغيرة حتى تصل فى نهاية جولتها إلى ضم معظم أهالى القرية، وبعد أن كانت أصوات طبول فقط فإنها تصبح أصواتا مدوية تهز حوائط القرية.. بل إن منهم من يحرص على حمل الكشافات لتنير الطرق وكأنهم حاملو المشاعل يتقدمون تلك التظاهرة وبعضهم يسير بمحاذاتها.

أهالى القرية من شدة حبهم لعم ناجح المسحراتى عرضوا عليه السفر لعمل «عمرة» خلال شهر رمضان، لكنه طلب تأجيلها لما بعد انتهاء الشهر الكريم، حيث إن الأهالى تعتمد عليه فى الاستيقاظ لتناول السحور بدون ظبط المنبهات!..

مازالت صورة المسحراتى التى انطبعت فى أذهاننا صغارا لها رونقها الخاص على مر الزمان، رغم أن البعض يعتقد أن هذه المهنة أصبحت أشبه بالتراث، لكن الكثير ممن يقومون بها لا يعتبرونها مهنة بل وهبة منهم لوجه الله تعالى لذلك يتمسكون بأدائها..

◄ البدايات
لقد بدأت مهنة المسحراتى منذ عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، ويعتبر بلال بن رباح رضى الله عنه أول مسحراتى فى التاريخ الإسلامى حيث كان يجوب الطرقات لإيقاظ الناس للسحور طوال الليل وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يقول «إن بلالا ينادى بليل، فكلوا واشربوا حتى ينادى ابن أم مكتوم»...

وفى مصر كان أول من قام بمهمة إيقاظ الناس للسحور الوالى عنتبة بن اسحق سنة 832هـ، والذى كان يسير على قدميه من مدينة العسكر فى الفسطاط ، وحتى مسجد عمرو بن العاص تطوعا وهو ينادى «عباد الله تسحروا فإن فى السحور بركة»، ومنذ تلك الفترة أصبحت مهنة المسحراتى تلقى الكثير من الاحترام والتقدير بعد أن قام بها الوالى بنفسه.

وكان المسحراتى فى العصر العباسى ينشد شعرا شعبيا يسمى «القوما»، وكان يتغنى بشعر مخصص للسحور، وهو شعر شعبى له وزنان مختلفان ولا يلتزم فيه باللغة العربية، وقد أطلق عليه اسم القوما لأنه كان ينادى ويقول «يا نياما قوما.. قوما للسحور قوما».

◄ اقرأ أيضًا | صندوق الذكريات .. حكاية سيد مكاوى مع الطبلة

‫وظهر «المسحراتي» بمصر حيث كان يجوب شوارع القاهرة وأزقتها وهو يحمل طبلة صغيرة ويدق عليها بقطعة من الجلد أو الخشب وغالبا ما كان يصاحبه طفل صغير أو طفلة ممسكة بمصباح لتضيء له الطريق وهو يردد «اصحى يا نايم وحد الدايم» أو ينطق بالشهادتين ثم يقول «أسعد الله لياليك يا فلان»، ويذكر اسم صاحب المنزل الذى يقف أمامه وغالبا ما كان يعرف أسماء جميع الموجودين فى المنزل من الرجال ويردد الدعاء لهم واحدا واحدا، ولم يكن يذكر اسم النساء إلا إذا كان بالمنزل فتاة صغيرة لم تتزوج فيقول «أسعد الله لياليك يا ست العرائس»!..

فى العصر المملوكى كادت مهنة المسحراتى تختفى تماما لكن الظاهر بيبرس أعادها وعين أناسا مخصوصين من العامة وصغار علماء الدين للقيام بها ليتحول عمل المسحراتى إلى موكب محبب، وخاصة للأطفال الذين تجذبهم أغانى المسحراتى وغالبا ما يحملون الهبات والعطايا التى كان يرسلها الأهل إليه.

وانضمت النساء إلى قافلة المسحراتية ففى العصر الطولونى كانت المرأة تقوم بإنشاد الأناشيد من وراء النافذة وغالبا ما تكون من صاحبات الصوت الجميل ومعروفة لجميع سكان الحى الذى تقطن فيه..

◄ العيدية!
ويحكى إدوارد لين، المستشرق الإنجليزى عن المسحراتى فى كتابه «المصريون المحدثون.. شمائلهم وعاداتهم»، فيقول: يبدأ المسحراتى جولاته عادة بعد منتصف الليل ممسكا بشماله بطبلة صغيرة وبيمينه عصا صغيرة أو قطعة من جلد غليظ، وبصحبته غلام صغير يحمل مصباحا أو قنديلا يضىء له الطريق، ويأخذ المسحراتى فى الضرب على الطبلة ثلاثا ثم ينشد، يسمى فيه صاحب البيت وأفراد أسرته فردا.. فردا، - ماعدا النساء- إذا كان بالمنزل فتاة صغيرة لم تتزوج فيقول:

«أسعد الله لياليك يا ست العرايس».. ويردد أيضا أثناء تجواله على إيقاع الطبلة كثيرا من القصص والمعجزات والبطولات عن الرسول صلى الله عليه وسلم وأبوزيد الهلالى وغيره، ويسعد الناس كثيرا بسماع صوت هذه الشخصية المحبوبة، وعلى الأخص الأطفال، وعادة ما يتوارث الأبناء هذه المهنة عن آبائهم..

وارتبطت أجرة المسحراتى ببعض التغييرات على مر العقود، ففى منتصف القرن التاسع عشر كانت الأجرة مرتبطة بالطبقة التى ينتمى إليها المتسحر، فمنزل الشخص من الطبقة المتوسطة مثلا عادة ما يعطى المسحراتى من قرشين إلى أربعة قروش فى ليلة العيد، ويعطيه البعض الآخر مبلغاً زهيداً كل ليلة، ولم يكن للمسحراتى أجر معلوم أو ثابت، غير أنه يأخذ ما يجود به الناس صباح يوم العيد فيما يعرف بـ»العيدية»، وعادة ما كانت من الحبوب سواء ذرة أو قمحاً، وأحيانا كثيرة كان يتقاضى أجرته كعك العيد.