الــوطـن فى سلة الفـراولـة

إيهـاب فتحى
إيهـاب فتحى

 هل‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يتحرك‭ ‬وطن‭ ‬بأكمله‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬سلة‭ ‬فراولة‭ ‬؟‭ ‬نعم‭ ‬يمكن‭ ‬لوطن‭ ‬ومواطنيه‭ ‬أن‭ ‬يتحركوا‭ ‬ويحتشدوا‭ ‬ويتبرعوا‭ ‬بأموالهم‭ ‬ووقتهم‭ ‬ويرفعون‭ ‬دعاوى‭ ‬قضائية‭ ‬ويتحدون‭ ‬مؤسسات‭ ‬دولية‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬سلة‭ ‬الفراولة‭ ‬،يحدث‭ ‬هذا‭ ‬عندما‭ ‬تتحول‭ ‬سلة‭ ‬الفراولة‭ ‬تلك‭ ‬إلى‭ ‬رمز‭ ‬يدل‭ ‬على‭ ‬الهوية‭ ‬الوطنية‭ ‬وتصبح‭ ‬مهددة‭ ‬بالاختطاف‭ ‬لأن‭ ‬هناك‭ ‬من‭ ‬يملك‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الدولارات‭ ‬ويريد‭ ‬السلة‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬أن‭ ‬يتباهى‭ ‬بهويات‭ ‬الآخرين‭ ‬وثقافتهم‭ ‬وتاريخهم‭ ‬مقابل‭ ..‬المزيد‭ ‬من‭ ‬الدولارات‭ .‬

لم‭ ‬تكن‭ ‬سلة‭ ‬الفراولة‭ ‬سلة‭ ‬حقيقية‭ ‬بها‭ ‬بعض‭ ‬ثمار‭ ‬الفراولة‭ ‬ولكنها‭ ‬لوحة‭ ‬رسمها‭ ‬فنان‭ ‬فرنسى‭ ‬اسمه‭ ‬جان‭ ‬شاردان‭ ‬فى‭ ‬القرن‭ ‬ال‭ ‬18‭ ‬وعرضت‭ ‬قبل‭ ‬عامين‭ ‬فى‭ ‬صالة‭ ‬للمزادات‭ ‬فى‭ ‬باريس،‭ ‬مع‭ ‬بدء‭ ‬المزاد‭ ‬قرر‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬الفرنسيين‭ ‬من‭ ‬محبى‭ ‬فنون‭ ‬بلادهم‭ ‬شراء‭ ‬اللوحة‭ ‬الأخيرة‭ ‬من‭ ‬مجموعة‭ ‬هذا‭ ‬الفنان‭ ‬لتنضم‭ ‬إلى‭ ‬40‭ ‬لوحة‭ ‬أخرى‭ ‬من‭ ‬أعماله‭ ‬فى‭ ‬متحف‭ ‬اللوفر‭ ‬الشهير‭ ‬وقدر‭ ‬ثمن‭ ‬اللوحة‭ ‬ب‭ ‬16‭ ‬مليون‭ ‬دولار‭.‬

فى‭ ‬بداية‭ ‬المزاد‭ ‬كانت‭ ‬المعركة‭ ‬محسومة‭ ‬لصالح‭ ‬الفرنسيين‭ ‬لكن‭ ‬تدخل‭ ‬فجأة‭ ‬مشترى‭ ‬مجهول‭ ‬ليشعل‭ ‬المزاد‭ ‬ويصر‭ ‬على‭ ‬شراء‭ ‬اللوحة‭ ‬بأى‭ ‬ثمن‭ ‬ليصل‭ ‬ثمنها‭ ‬فى‭ ‬النهاية‭ ‬إلى‭ ‬26‭ ‬مليون‭ ‬دولار‭ ‬واستحوذ‭ ‬المشترى‭ ‬المجهول‭ ‬على‭ ‬اللوحة‭ ‬فى‭ ‬نهاية‭ ‬المزاد‭. ‬

لم‭ ‬يهدأ‭ ‬الفرنسيون‭ ‬واستخدموا‭ ‬كل‭ ‬اساليب‭ ‬جمع‭ ‬المعلومات‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬معرفة‭ ‬حقيقة‭ ‬هذا‭ ‬المشترى‭ ‬المجهول‭ ‬الذى‭ ‬خطف‭ ‬لوحتهم‭ ‬ليكتشفوا‭ ‬فى‭ ‬النهاية‭ ‬أنه‭ ‬تاجر‭ ‬أعمال‭ ‬فنية‭ ‬أمريكى‭ ‬اسمه‭ ‬آدم‭ ‬ويليامز‭ ‬وأن‭ ‬اللوحة‭ ‬لم‭ ‬يشترها‭ ‬لحسابه‭ ‬بل‭ ‬لحساب‭ ‬متحف‭ ‬كيمبل‭ ‬للفنون‭ ‬فى‭ ‬فورث‭ ‬وورث‭ ‬بولاية‭ ‬تكساس‭ ‬الأمريكية‭ ‬وأن‭ ‬لوحة‭ ‬جان‭ ‬شاردان‭ ‬أو‭ ‬سلة‭ ‬الفراولة‭ ‬ستغادر‭ ‬الأراضى‭ ‬الفرنسية‭ ‬وتستقر‭ ‬فى‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬ليحرم‭ ‬الفرنسيين‭ ‬منها‭ ‬نهائيا‭.‬

بمجرد‭ ‬أن‭ ‬عرفت‭ ‬الأوساط‭ ‬السياسية‭ ‬والثقافية‭ ‬والاقتصادية‭ ‬الفرنسية‭ ‬هذه‭ ‬المعلومات‭ ‬وأن‭ ‬اللوحة‭ ‬أختطفت‭ ‬وفى‭ ‬طريقها‭ ‬إلى‭ ‬تكساس‭ ‬الأمريكية‭ ‬تراجعت‭   ‬كل‭ ‬القضايا‭ ‬التى‭ ‬تشغل‭ ‬الرأى‭ ‬العام‭ ‬الفرنسى‭ ‬و‭ ‬أصبحت‭ ‬قضيته‭ ‬الأولى‭ ‬كيفية‭ ‬استعادة‭ ‬سلة‭ ‬الفراولة،‭ ‬تزعم‭ ‬قضية‭ ‬استرداد‭ ‬اللوحة‭ ‬مدير‭ ‬متحف‭ ‬اللوفر‭ ‬لورانس‭ ‬دى‭ ‬كار‭.‬

أول‭ ‬مافعله‭ ‬مدير‭ ‬المتحف‭ ‬أن‭ ‬تحرك‭ ‬بدعوى‭ ‬قضائية‭ ‬هو‭ ‬وعدد‭ ‬من‭  ‬مثقفى‭ ‬وسياسى‭  ‬فرنسا‭ ‬لمنع‭ ‬خروج‭ ‬اللوحة‭ ‬من‭ ‬بلادهم‭  ‬باعتبارها‭ ‬كنز‭ ‬وطنى‭ ‬فريد‭ ‬،هنا‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬مدير‭ ‬المتحف‭ ‬لويس‭ ‬دى‭ ‬كار‭ ‬والمتضامنين‭ ‬معه‭ ‬بمفردهم‭ ‬بل‭ ‬كان‭ ‬القانون‭ ‬الفرنسى‭ ‬يقف‭ ‬معهم‭ ‬وفى‭ ‬صفهم،‭  ‬والمشرع‭ ‬والدولة‭ ‬الفرنسية‭ ‬التى‭ ‬أقرت‭ ‬هذا‭ ‬القانون‭ ‬يدركان‭ ‬تماما‭ ‬أهمية‭ ‬الإرث‭ ‬الحضارى‭ ‬و‭ ‬الثقافى‭ ‬لفرنسا‭ ‬الذى‭ ‬يصنع‭ ‬ويحافظ‭ ‬على‭ ‬هوية‭ ‬الوطن‭ ‬والمواطن‭ ‬لأن‭ ‬بدون‭ ‬هذا‭ ‬الإرث‭ ‬والهوية‭ ‬ستنطفئ‭ ‬كل‭ ‬مصابيح‭ ‬عاصمة‭ ‬النور‭ ‬وتظلم‭ ‬فرنسا‭ ‬للأبد‭.‬

ينص‭ ‬القانون‭ ‬الفرنسى‭ ‬الذى‭ ‬لجأ‭ ‬إليه‭ ‬مدير‭ ‬المتحف‭ ‬دى‭ ‬كار‭ ‬ومجموعته‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬من‭ ‬يتقدم‭ ‬بدعوى‭ ‬قضائية‭ ‬مطالب‭ ‬بتصنيف‭ ‬أى‭ ‬مايرتبط‭ ‬بالتراث‭ ‬الثقافى‭ ‬الفرنسى‭ ‬بأنه‭ ‬كنز‭ ‬وطنى‭ ‬ومعرض‭ ‬لفقده‭ ‬أو‭ ‬خروجه‭ ‬من‭ ‬الأراضى‭ ‬الفرنسية‭  ‬فعلى‭ ‬الدولة‭ ‬أن‭ ‬تتدخل‭ ‬وتمنع‭ ‬هذا‭ ‬الأمر‭ ‬حتى‭ ‬لو‭ ‬كان‭ ‬الحصول‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬التراث‭ ‬تم‭ ‬بطريقة‭ ‬مشروعة‭ ‬مثل‭ ‬شراء‭ ‬لوحة‭ ‬سلة‭ ‬الفراولة‭ ‬من‭ ‬المزاد‭ ‬،‭ ‬وتستمر‭ ‬مدة‭ ‬المنع‭ ‬عامين‭ ‬لحين‭ ‬توفير‭ ‬الثمن‭ ‬الذى‭ ‬بيعت‭ ‬به‭ ‬اللوحة‭ ‬أى‭ ‬26‭ ‬مليون‭ ‬دولار‭.‬

عقب‭ ‬صدور‭ ‬الحكم‭ ‬القضائى‭ ‬تحركت‭ ‬على‭ ‬الفور‭ ‬المؤسسات‭ ‬الاقتصادية‭ ‬الفرنسية‭ ‬الكبرى‭ ‬والمنتمية‭ ‬للقطاع‭ ‬الخاص‭ ‬وهى‭ ‬فى‭ ‬نفس‭ ‬الوقت‭ ‬ترعى‭ ‬متحف‭ ‬اللوفر‭ ‬وتقدم‭ ‬له‭ ‬منح‭ ‬مالية‭ ‬منتظمة،‭ ‬أول‭ ‬هذا‭ ‬المؤسسات‭ ‬كانت‭ ‬شركة‭ ‬أزياء‭ ‬فرنسية‭ ‬عالمية‭ ‬تبرعت‭ ‬ب‭ ‬16‭ ‬مليون‭ ‬دولار‭ ‬مساهمة‭ ‬فى‭ ‬شراء‭ ‬واستعادة‭ ‬لوحة‭ ‬سلة‭ ‬الفراولة‭ ‬وبعدها‭ ‬تقدمت‭ ‬مؤسسات‭ ‬أخرى‭ ‬وكان‭ ‬من‭ ‬الواضح‭ ‬أن‭ ‬ثمن‭ ‬اللوحة‭ ‬بعد‭ ‬صدور‭ ‬الحكم‭ ‬القضائى‭ ‬سيتحقق‭ ‬ويمكن‭ ‬استردادها‭ ‬فى‭ ‬دقائق‭ ‬بعد‭ ‬تدخل‭ ‬المؤسسات‭ ‬الاقتصادية‭ ‬الفرنسية‭ ‬الكبرى‭. ‬

تقدم‭ ‬مدير‭ ‬متحف‭ ‬اللوفر‭ ‬بالشكر‭ ‬للمؤسسات‭ ‬التى‭ ‬تبرعت‭ ‬وقبل‭ ‬جزءا‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬التبرعات‭ ‬ولكنه‭ ‬قرر‭ ‬أن‭ ‬معركة‭ ‬استرداد‭ ‬اللوحة‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬يشارك‭ ‬فيها‭ ‬الشعب‭ ‬الفرنسى‭ ‬بأكمله‭ ‬وبكل‭ ‬فئاته،‭ ‬فقراؤه‭ ‬وأغنياؤه‭ ‬،شبابه‭ ‬وشيوخه‭ ‬،‭ ‬نساؤه‭ ‬ورجاله‭ ‬وأن‭ ‬يسهم‭ ‬المواطنون‭ ‬ولو‭ ‬بيوروهات‭ ‬قليلة‭ ‬من‭ ‬أموالهم‭ ‬فى‭ ‬ثمن‭ ‬استرداد‭ ‬اللوحة‭.‬

لم‭ ‬يخيب‭ ‬المواطنون‭ ‬الفرنسيون‭ ‬ظن‭ ‬مدير‭ ‬متحف‭ ‬اللوفر‭ ‬لورانس‭ ‬دى‭ ‬كار‭ ‬وأرسلت‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬أنحاء‭ ‬فرنسا‭ ‬اليوروهات‭ ‬البسيطة‭ ‬من‭ ‬مواطنين‭ ‬عاديين‭ ‬للمساهمة‭ ‬فى‭ ‬ثمن‭ ‬اللوحة‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬استردادها‭ ‬حتى‭ ‬اكتمل‭ ‬المبلغ‭ ‬أو‭ ‬ال‭ ‬26‭ ‬مليون‭ ‬دولار‭ ‬وتم‭ ‬دفعه‭ ‬لصالة‭ ‬المزادات‭ ‬ليستعيد‭ ‬الفرنسيون‭ ‬لوحتهم‭ ‬من‭ ‬الأمريكيين‭ ‬الذين‭ ‬كانوا‭ ‬سيضعونها‭ ‬على‭ ‬أحد‭ ‬حوائط‭ ‬متحف‭ " ‬كيمبل‭ " ‬بولاية‭ ‬تكساس‭ ‬متباهين‭ ‬بأنهم‭ ‬اشتروا‭ ‬قطعة‭ ‬ثمينة‭ ‬من‭ ‬التراث‭ ‬الفرنسى‭ ‬الفريد‭ ‬أو‭ ‬كما‭ ‬صنف‭ ‬قانون‭ ‬الدولة‭ ‬الفرنسية‭ ‬لوحة‭ ‬سلة‭ ‬الفراولة‭ ‬بأنها‭ ‬كنز‭ ‬وطنى‭.‬

لوحصل‭ ‬الأمريكان‭ ‬على‭ ‬اللوحة‭ ‬أو‭ ‬هذا‭ ‬التراث‭ ‬والكنز‭ ‬مقابل‭ ‬الدولار‭ ‬فهم‭ ‬الفائزون‭ ‬فالمطابع‭ ‬الأمريكية‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تطبع‭ ‬المليارات‭ ‬من‭ ‬الدولارات‭ ‬يوميا‭ ‬أما‭ ‬اللوحة‭ ‬الفرنسية‭ ‬فهى‭ ‬نسخة‭ ‬واحدة‭ ‬لن‭ ‬تتكرر‭ ‬وتمثل‭ ‬جزءا‭ ‬من‭ ‬روح‭ ‬وهوية‭ ‬فرنسا‭ ‬التى‭ ‬ستعلق‭ ‬فى‭ ‬النهاية‭ ‬على‭ ‬حائط‭ ‬أمريكى‭.‬

بعد‭ ‬أيام‭ ‬قليلة‭ ‬سيحتفل‭ ‬متحف‭ ‬اللوفر‭ ‬باسترداد‭ ‬اللوحة‭ ‬وعرضها‭ ‬فى‭ ‬قاعاته‭ ‬ثم‭ ‬تنطلق‭ ‬لوحة‭ ‬سلة‭ ‬الفراولة‭ ‬فى‭ ‬جولة‭ ‬إلى‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬المتاحف‭ ‬الفرنسية‭ ‬ليشاهدها‭ ‬الفرنسيون‭ ‬محتفلين‭ ‬بانتصارهم‭ ‬فى‭ ‬معركة‭ ‬سلة‭ ‬الفراولة‭.‬

عندما‭ ‬تتابع‭ ‬تفاصيل‭ ‬هذه‭ ‬المعركة‭ ‬السياسية‭ ‬الثقافية‭ ‬الاقتصادية‭ ‬الشعبية‭  ‬بين‭ ‬الفرنسيين‭ ‬والأمريكيين‭ ‬حول‭ ‬لوحة‭ ‬فنية‭  ‬قد‭ ‬تجد‭ ‬بها‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الرفاهية‭ ‬وسط‭ ‬ملايين‭ ‬الأزمات‭ ‬التى‭ ‬يعانى‭ ‬منها‭ ‬العالم‭ ‬و‭ ‬تنظر‭ ‬إلى‭ ‬الفرنسيين‭ ‬على‭ ‬أنهم‭ ‬شعب‭ ‬من‭ ‬المجانين‭ ‬أو‭ ‬على‭ ‬أقل‭ ‬تقدير‭ ‬من‭ ‬المتحذلقين‭ ‬نتيجة‭ ‬للأسئلة‭ ‬التى‭ ‬تطرحها‭ ‬طبيعة‭ ‬هذه‭ ‬المعركة‭ ‬الغريبة‭.‬

مثلا‭ ‬ماذا‭ ‬يضير‭ ‬الفرنسيون‭ ‬فى‭ ‬أن‭ ‬يتخلوا‭ ‬عن‭ ‬لوحة‭ ‬واحدة‭ ‬لهذا‭ ‬الفنان‭ ‬وهم‭ ‬يمتلكون‭ ‬فى‭ ‬متاحفهم‭ ‬40‭ ‬لوحة‭ ‬أخرى‭ ‬له‭ ‬؟‭ ‬لماذا‭ ‬لا‭ ‬يستفيد‭ ‬الاقتصاد‭ ‬الفرنسى‭ ‬من‭ ‬ال26‭ ‬مليون‭ ‬دولار‭ ‬ثمن‭ ‬اللوحة‭ ‬ورغم‭ ‬صغر‭ ‬المبلغ‭ ‬بالنسبة‭ ‬لحجم‭ ‬الاقتصاد‭ ‬الفرنسى‭ ‬إلا‭ ‬أنه‭ ‬فى‭ ‬النهاية‭ ‬دخل‭ ‬قادم‭ ‬بلا‭ ‬أى‭ ‬أنتاج‭ ‬؟‭ ‬أو‭ ‬لماذا‭ ‬لايطور‭ ‬الفرنسيون‭ ‬من‭ ‬أفكارهم‭ ‬ويتعاونون‭ ‬مع‭ ‬التجار‭ ‬الأمريكيين‭ ‬المتخصصين‭ ‬فى‭ ‬اقتناء‭ ‬الأعمال‭ ‬الفنية‭ ‬ويسوقون‭ ‬ال‭ ‬40‭ ‬لوحة‭ ‬الخاصة‭ ‬بالفنان‭ ‬الفرنسى‭ ‬جان‭ ‬شاردان‭ ‬لأن‭ ‬عليها‭ ‬طلب‭ ‬فى‭ ‬السوق‭ ‬العالمية‭ ‬؟‭ ‬لو‭ ‬بيعت‭ ‬كل‭ ‬لوحة‭ ‬بمتوسط‭ ‬سعر‭ ‬20‭ ‬مليون‭ ‬دولار‭ ‬فهنا‭ ‬سيدخل‭ ‬إلى‭ ‬خزينة‭ ‬الحكومة‭ ‬الفرنسية‭ ‬مبلغ‭ ‬محترم‭ ‬دون‭ ‬أى‭ ‬مجهود‭ ‬ويصل‭ ‬إلى‭ ‬800‭ ‬مليون‭ ‬دولار‭ ‬ولا‭ ‬مانع‭ ‬أن‭ ‬يجد‭ ‬الفرنسيون‭ ‬لوحتين‭ ‬أو‭ ‬ثلاث‭ ‬لوحات‭  ‬لفنان‭ ‬آخر‭ ‬ويسوقونها‭ ‬مع‭ ‬التجار‭ ‬الأمريكان‭ ‬ويضيفونها‭ ‬إلى‭ ‬صفقة‭ ‬لوحات‭ ‬جان‭ ‬شاردان‭ ‬ليصل‭ ‬المبلغ‭ ‬إلى‭ ‬رقم‭ ‬سحرى‭ ‬وهو‭ ‬مليار‭ ‬دولار‭ ‬لتنتعش‭ ‬أكثر‭ ‬خزينة‭ ‬الحكومة‭ ‬الفرنسية‭.‬

الأغرب‭ ‬أيضا‭ ‬فى‭ ‬هذه‭ ‬المعركة‭ ‬تصرف‭ ‬الشركات‭ ‬الفرنسية‭ ‬الخاصة‭ ‬التى‭ ‬ما‭ ‬أن‭ ‬طالبها‭ ‬المثقفون‭ ‬الفرنسيون‭ ‬بالتدخل‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬استرداد‭ ‬اللوحة‭ ‬أسرعت‭ ‬ودفعت‭ ‬ملايين‭ ‬الدولارات‭ ‬لاسترداد‭ ‬التراث‭ ‬والكنز‭ ‬الفرنسى‭ ‬بدون‭ ‬أن‭ ‬تسأل‭ ‬ماهو‭ ‬العائد‭ ‬الذى‭ ‬سيعود‭ ‬عليها‭ ‬أو‭ ‬تسأل‭ ‬هل‭ ‬يمكن‭ ‬مقابل‭ ‬ما‭ ‬ستدفعه‭ ‬من‭ ‬مال‭ ‬الحصول‭ ‬على‭ ‬صفقات‭ ‬اقتصادية‭ ‬من‭ ‬الحكومة‭ ‬الفرنسية‭ ‬لأنها‭ ‬ستنقذها‭ ‬من‭ ‬حرج‭ ‬سياسى‭ ‬فى‭ ‬معركة‭ ‬حول‭ ‬لوحة‭ ‬أصبحت‭ ‬تمس‭ ‬الكرامة‭ ‬الوطنية‭ ‬الفرنسية‭.‬

نجد‭ ‬أسئلة‭ ‬أخرى‭ ‬خاصة‭ ‬بقوانين‭ ‬الدولة‭ ‬الفرنسية‭ ‬التى‭ ‬تؤكد‭ ‬دائما‭ ‬على‭ ‬الحريات‭ ‬الاقتصادية‭ ‬وحرية‭ ‬رأس‭ ‬المال‭ ‬فى‭ ‬الاستثمار‭ ‬والبيع‭ ‬والشراء‭ ‬لكن‭ ‬فى‭  ‬معركة‭ ‬اللوحة‭ ‬ظهرت‭ ‬قوانين‭ ‬أخرى‭ ‬تمنع‭ ‬هذا‭ ‬البيع‭ ‬والشراء‭ ‬رغم‭ ‬أن‭ ‬اللوحة‭ ‬كانت‭ ‬ملكية‭ ‬خاصة‭ ‬وتم‭ ‬بيعها‭ ‬فى‭ ‬مزاد‭ ‬علنى‭ ‬بشكل‭ ‬مشروع‭ ‬وقانونى‭ ‬ويمكن‭ ‬لأى‭ ‬شخص‭ ‬سواء‭ ‬أمريكى‭ ‬أو‭ ‬صينى‭ ‬مادام‭ ‬يمتلك‭ ‬الثمن‭ ‬أن‭ ‬يشترى‭ ‬اللوحة‭ ‬ويفعل‭ ‬بها‭ ‬مايشاء‭. ‬فهل‭ ‬بهذه‭ ‬القوانين‭ ‬المانعة‭ ‬لخروج‭ ‬اللوحة‭ ‬تعتبر‭ ‬الدولة‭ ‬الفرنسية‭ ‬دولة‭ ‬مخادعة‭ ‬ذات‭ ‬وجهين‭ ‬مما‭ ‬يفقدها‭ ‬سمعتها‭ ‬الاقتصادية‭ ‬أم‭ ‬تعتبر‭ ‬دولة‭ ‬بيروقراطية‭ ‬تعطل‭ ‬حرية‭ ‬اقتصاد‭ ‬السوق‭ ‬بتدخلها‭ ‬لمنع‭ ‬إتمام‭ ‬صفقة‭ ‬شراء‭ ‬لوحة‭ ‬بسب‭ ‬إزعاج‭ ‬وإلحاح‭ ‬بعض‭ ‬المثقفين‭ ‬والمهتمين‭ ‬والحريصين‭ ‬على‭ ‬تراث‭ ‬وهوية‭ ‬الأمة‭ ‬الفرنسية‭ ‬؟‭ ‬

أما‭ ‬مدير‭ ‬متحف‭ ‬اللوفر‭ ‬لورانس‭ ‬دى‭ ‬كار‭ ‬فهو‭ ‬صاحب‭ ‬تصرفات‭ ‬غير‭ ‬معقولة‭ ‬فبعد‭ ‬أن‭ ‬قررت‭ ‬الشركات‭ ‬الفرنسية‭ ‬دفع‭ ‬ثمن‭ ‬اللوحة‭ ‬ليتم‭ ‬استردادها‭ ‬يرفض‭ ‬جزءا‭ ‬كبيرا‭ ‬من‭ ‬تبرعات‭ ‬الشركات‭ ‬ويصر‭ ‬أن‭ ‬يشارك‭ ‬الشعب‭ ‬الفرنسى‭ ‬بأكمله‭ ‬فى‭ ‬الحفاظ‭ ‬على‭ ‬تراثه‭ ‬وهويته‭ ‬فهل‭ ‬يرى‭ ‬لورانس‭ ‬دى‭ ‬كار‭ ‬أن‭ ‬استرداد‭ ‬اللوحة‭ ‬ليس‭ ‬بالمال‭ ‬وحده‭ ‬أو‭ ‬بمن‭ ‬يملك‭ ‬ويدفع‭ ‬أعلى‭ ‬سعر‭  ‬بل‭ ‬اللوحة‭ ‬ستسترد‭ ‬ويحافظ‭ ‬عليها‭ ‬عندما‭ ‬يدرك‭ ‬المواطنون‭ ‬الفرنسيون‭ ‬أنهم‭ ‬لا‭ ‬يدفعون‭ ‬أموالهم‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬استرداد‭ ‬لوحة‭ ‬لكنهم‭ ‬بأموالهم‭ ‬البسيطة‭ ‬يدافعون‭ ‬عن‭ ‬تراثهم‭ ‬ويحمون‭ ‬هويتهم؟‭ ‬

هذه‭ ‬الأسئلة‭ ‬حول‭ ‬معركة‭ ‬اللوحة‭ ‬قد‭ ‬يرى‭ ‬البعض‭ ‬أن‭ ‬إجاباتها‭ ‬تؤكد‭ ‬الطرح‭ ‬السابق‭  ‬أن‭ ‬الفرنسيين‭ ‬شعب‭ ‬من‭ ‬المجانين‭ ‬والمرفهين‭ ‬يثيرون‭ ‬الأزمات‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬قطعة‭ ‬فنية‭ ‬يمتلكون‭ ‬منها‭ ‬الكثير‭ ‬ويرفضون‭ ‬ملايين‭ ‬الدولارات‭ ‬بمعنى‭ ‬آخر‭ " ‬هم‭ ‬شعب‭ ‬فقرى‭ ‬مش‭ ‬وش‭ ‬خير‭ ".‬

قد‭ ‬تحمل‭ ‬نفس‭ ‬الأسئلة‭ ‬إجابات‭ ‬أخرى‭ ‬بأن‭ ‬المجانين‭ ‬والمخربين‭ ‬الحقيقيين‭ ‬هم‭ ‬من‭ ‬يبددون‭ ‬تراثهم‭ ‬ويمزقون‭ ‬هويتهم‭ ‬لأجل‭ ‬هويات‭ ‬بديلة‭ ‬ويضعون‭ ‬تاريخهم‭ ‬وثقافتهم‭ ‬على‭ ‬ميزان‭ ‬الدولار‭ ‬أو‭ ‬يقدمون‭ ‬تراثهم‭ ‬بسذاجة‭ ‬لمن‭ ‬يدفع‭ ‬أكثر‭ ‬ظانين‭ ‬أنهم‭ ‬يحققون‭ ‬المكاسب‭ ‬والأرباح‭ ‬وهم‭ ‬فى‭ ‬الحقيقة‭ ‬يبيعون‭ ‬أنفسهم‭ ‬بثمن‭ ‬بخس‭ ‬فى‭ ‬أسواق‭ ‬سماسرة‭ ‬الحضارات‭ ‬،‭ ‬تشير‭ ‬نفس‭ ‬الإجابات‭ ‬الأخرى‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬المثقفين‭ ‬والفنانين‭ ‬الفرنسيين‭ ‬وكل‭ ‬مهتم‭ ‬بهوية‭ ‬وتراث‭ ‬أمته‭ ‬ليسوا‭ ‬أشخاص‭ ‬مزعجين‭ ‬أو‭ ‬باحثين‭ ‬عن‭  "‬الشو‭ " ‬بل‭ ‬لهم‭ ‬موقف‭ ‬وهم‭ ‬حراس‭ ‬متيقظين‭ ‬واقفين‭ ‬بانتباه‭ ‬على‭ ‬أبواب‭ ‬حصون‭ ‬الهوية‭ ‬الفرنسية‭ ‬ليصدوا‭ ‬أى‭ ‬خطر‭ ‬يهددها‭ ‬ومستعدين‭ ‬أن‭ ‬يخوضوا‭ ‬أشرس‭ ‬المعارك‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬الدفاع‭ ‬عنها،‭ ‬هذا‭ ‬عكس‭ ‬آخرين‭ ‬من‭ "‬الأراجوزات‭" ‬المتخفين‭ ‬وراء‭ ‬قناع‭ ‬المثقف‭ ‬والفنان‭ ‬مدعين‭ ‬أنهم‭ ‬حراس‭ ‬حصون‭ ‬هوية‭ ‬أمتهم‭..‬والحقيقة‭ ‬هم‭ ‬أول‭ ‬الخونة‭ ‬وأول‭ ‬من‭ ‬يفتح‭ ‬بوابات‭ ‬الحصون‭ ‬لكل‭ ‬غازى‭ ‬ولمن‭ ‬يدفع‭ ‬أكثر‭ ‬ـ‭ ‬شرطاـ‭ ‬بالدولار‭.‬

تبدوالمعركة‭ ‬حول‭ ‬لوحة‭ ‬سلة‭ ‬الفراولة‭ ‬الفرنسية‭ ‬كثيرة‭ ‬التفاصيل‭ ‬لكنها‭ ‬تعطى‭ ‬إشارة‭ ‬هامة‭ ‬لكل‭ ‬أمة‭ ‬تمتلك‭ ‬هوية‭ ‬أصيلة‭ ‬وحضارة‭ ‬عريقة‭ ‬أن‭ ‬ماتمتلكه‭ ‬الأمة‭ ‬من‭ ‬تراث‭ ‬وثقافة‭ ‬لا‭ ‬يقاس‭ ‬بالمتر‭ ‬أو‭ ‬يوزن‭ ‬بالطن‭ ‬ويباع‭ ‬بالدولار‭ ‬مادام‭ ‬تمتلك‭ ‬منه‭ ‬الكثير‭ ‬لأن‭ ‬معادلة‭ ‬الحفاظ‭ ‬على‭ ‬الهوية‭ ‬تقول‭ ‬أن‭ ‬فقد‭ ‬القليل‭ ‬حتى‭ ‬لوكان‭ ‬سلة‭ ‬فراولة‭ ‬هو‭ ‬بداية‭ ‬فقد‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الوطن‭. ‬

;