هل يمكن أن يتحرك وطن بأكمله من أجل سلة فراولة ؟ نعم يمكن لوطن ومواطنيه أن يتحركوا ويحتشدوا ويتبرعوا بأموالهم ووقتهم ويرفعون دعاوى قضائية ويتحدون مؤسسات دولية من أجل سلة الفراولة ،يحدث هذا عندما تتحول سلة الفراولة تلك إلى رمز يدل على الهوية الوطنية وتصبح مهددة بالاختطاف لأن هناك من يملك الكثير من الدولارات ويريد السلة من أجل أن يتباهى بهويات الآخرين وثقافتهم وتاريخهم مقابل ..المزيد من الدولارات .
لم تكن سلة الفراولة سلة حقيقية بها بعض ثمار الفراولة ولكنها لوحة رسمها فنان فرنسى اسمه جان شاردان فى القرن ال 18 وعرضت قبل عامين فى صالة للمزادات فى باريس، مع بدء المزاد قرر عدد من الفرنسيين من محبى فنون بلادهم شراء اللوحة الأخيرة من مجموعة هذا الفنان لتنضم إلى 40 لوحة أخرى من أعماله فى متحف اللوفر الشهير وقدر ثمن اللوحة ب 16 مليون دولار.
فى بداية المزاد كانت المعركة محسومة لصالح الفرنسيين لكن تدخل فجأة مشترى مجهول ليشعل المزاد ويصر على شراء اللوحة بأى ثمن ليصل ثمنها فى النهاية إلى 26 مليون دولار واستحوذ المشترى المجهول على اللوحة فى نهاية المزاد.
لم يهدأ الفرنسيون واستخدموا كل اساليب جمع المعلومات من أجل معرفة حقيقة هذا المشترى المجهول الذى خطف لوحتهم ليكتشفوا فى النهاية أنه تاجر أعمال فنية أمريكى اسمه آدم ويليامز وأن اللوحة لم يشترها لحسابه بل لحساب متحف كيمبل للفنون فى فورث وورث بولاية تكساس الأمريكية وأن لوحة جان شاردان أو سلة الفراولة ستغادر الأراضى الفرنسية وتستقر فى الولايات المتحدة ليحرم الفرنسيين منها نهائيا.
بمجرد أن عرفت الأوساط السياسية والثقافية والاقتصادية الفرنسية هذه المعلومات وأن اللوحة أختطفت وفى طريقها إلى تكساس الأمريكية تراجعت كل القضايا التى تشغل الرأى العام الفرنسى و أصبحت قضيته الأولى كيفية استعادة سلة الفراولة، تزعم قضية استرداد اللوحة مدير متحف اللوفر لورانس دى كار.
أول مافعله مدير المتحف أن تحرك بدعوى قضائية هو وعدد من مثقفى وسياسى فرنسا لمنع خروج اللوحة من بلادهم باعتبارها كنز وطنى فريد ،هنا لم يكن مدير المتحف لويس دى كار والمتضامنين معه بمفردهم بل كان القانون الفرنسى يقف معهم وفى صفهم، والمشرع والدولة الفرنسية التى أقرت هذا القانون يدركان تماما أهمية الإرث الحضارى و الثقافى لفرنسا الذى يصنع ويحافظ على هوية الوطن والمواطن لأن بدون هذا الإرث والهوية ستنطفئ كل مصابيح عاصمة النور وتظلم فرنسا للأبد.
ينص القانون الفرنسى الذى لجأ إليه مدير المتحف دى كار ومجموعته على أن من يتقدم بدعوى قضائية مطالب بتصنيف أى مايرتبط بالتراث الثقافى الفرنسى بأنه كنز وطنى ومعرض لفقده أو خروجه من الأراضى الفرنسية فعلى الدولة أن تتدخل وتمنع هذا الأمر حتى لو كان الحصول على هذا التراث تم بطريقة مشروعة مثل شراء لوحة سلة الفراولة من المزاد ، وتستمر مدة المنع عامين لحين توفير الثمن الذى بيعت به اللوحة أى 26 مليون دولار.
عقب صدور الحكم القضائى تحركت على الفور المؤسسات الاقتصادية الفرنسية الكبرى والمنتمية للقطاع الخاص وهى فى نفس الوقت ترعى متحف اللوفر وتقدم له منح مالية منتظمة، أول هذا المؤسسات كانت شركة أزياء فرنسية عالمية تبرعت ب 16 مليون دولار مساهمة فى شراء واستعادة لوحة سلة الفراولة وبعدها تقدمت مؤسسات أخرى وكان من الواضح أن ثمن اللوحة بعد صدور الحكم القضائى سيتحقق ويمكن استردادها فى دقائق بعد تدخل المؤسسات الاقتصادية الفرنسية الكبرى.
تقدم مدير متحف اللوفر بالشكر للمؤسسات التى تبرعت وقبل جزءا من هذه التبرعات ولكنه قرر أن معركة استرداد اللوحة يجب أن يشارك فيها الشعب الفرنسى بأكمله وبكل فئاته، فقراؤه وأغنياؤه ،شبابه وشيوخه ، نساؤه ورجاله وأن يسهم المواطنون ولو بيوروهات قليلة من أموالهم فى ثمن استرداد اللوحة.
لم يخيب المواطنون الفرنسيون ظن مدير متحف اللوفر لورانس دى كار وأرسلت من كل أنحاء فرنسا اليوروهات البسيطة من مواطنين عاديين للمساهمة فى ثمن اللوحة من أجل استردادها حتى اكتمل المبلغ أو ال 26 مليون دولار وتم دفعه لصالة المزادات ليستعيد الفرنسيون لوحتهم من الأمريكيين الذين كانوا سيضعونها على أحد حوائط متحف " كيمبل " بولاية تكساس متباهين بأنهم اشتروا قطعة ثمينة من التراث الفرنسى الفريد أو كما صنف قانون الدولة الفرنسية لوحة سلة الفراولة بأنها كنز وطنى.
لوحصل الأمريكان على اللوحة أو هذا التراث والكنز مقابل الدولار فهم الفائزون فالمطابع الأمريكية يمكن أن تطبع المليارات من الدولارات يوميا أما اللوحة الفرنسية فهى نسخة واحدة لن تتكرر وتمثل جزءا من روح وهوية فرنسا التى ستعلق فى النهاية على حائط أمريكى.
بعد أيام قليلة سيحتفل متحف اللوفر باسترداد اللوحة وعرضها فى قاعاته ثم تنطلق لوحة سلة الفراولة فى جولة إلى العديد من المتاحف الفرنسية ليشاهدها الفرنسيون محتفلين بانتصارهم فى معركة سلة الفراولة.
عندما تتابع تفاصيل هذه المعركة السياسية الثقافية الاقتصادية الشعبية بين الفرنسيين والأمريكيين حول لوحة فنية قد تجد بها الكثير من الرفاهية وسط ملايين الأزمات التى يعانى منها العالم و تنظر إلى الفرنسيين على أنهم شعب من المجانين أو على أقل تقدير من المتحذلقين نتيجة للأسئلة التى تطرحها طبيعة هذه المعركة الغريبة.
مثلا ماذا يضير الفرنسيون فى أن يتخلوا عن لوحة واحدة لهذا الفنان وهم يمتلكون فى متاحفهم 40 لوحة أخرى له ؟ لماذا لا يستفيد الاقتصاد الفرنسى من ال26 مليون دولار ثمن اللوحة ورغم صغر المبلغ بالنسبة لحجم الاقتصاد الفرنسى إلا أنه فى النهاية دخل قادم بلا أى أنتاج ؟ أو لماذا لايطور الفرنسيون من أفكارهم ويتعاونون مع التجار الأمريكيين المتخصصين فى اقتناء الأعمال الفنية ويسوقون ال 40 لوحة الخاصة بالفنان الفرنسى جان شاردان لأن عليها طلب فى السوق العالمية ؟ لو بيعت كل لوحة بمتوسط سعر 20 مليون دولار فهنا سيدخل إلى خزينة الحكومة الفرنسية مبلغ محترم دون أى مجهود ويصل إلى 800 مليون دولار ولا مانع أن يجد الفرنسيون لوحتين أو ثلاث لوحات لفنان آخر ويسوقونها مع التجار الأمريكان ويضيفونها إلى صفقة لوحات جان شاردان ليصل المبلغ إلى رقم سحرى وهو مليار دولار لتنتعش أكثر خزينة الحكومة الفرنسية.
الأغرب أيضا فى هذه المعركة تصرف الشركات الفرنسية الخاصة التى ما أن طالبها المثقفون الفرنسيون بالتدخل من أجل استرداد اللوحة أسرعت ودفعت ملايين الدولارات لاسترداد التراث والكنز الفرنسى بدون أن تسأل ماهو العائد الذى سيعود عليها أو تسأل هل يمكن مقابل ما ستدفعه من مال الحصول على صفقات اقتصادية من الحكومة الفرنسية لأنها ستنقذها من حرج سياسى فى معركة حول لوحة أصبحت تمس الكرامة الوطنية الفرنسية.
نجد أسئلة أخرى خاصة بقوانين الدولة الفرنسية التى تؤكد دائما على الحريات الاقتصادية وحرية رأس المال فى الاستثمار والبيع والشراء لكن فى معركة اللوحة ظهرت قوانين أخرى تمنع هذا البيع والشراء رغم أن اللوحة كانت ملكية خاصة وتم بيعها فى مزاد علنى بشكل مشروع وقانونى ويمكن لأى شخص سواء أمريكى أو صينى مادام يمتلك الثمن أن يشترى اللوحة ويفعل بها مايشاء. فهل بهذه القوانين المانعة لخروج اللوحة تعتبر الدولة الفرنسية دولة مخادعة ذات وجهين مما يفقدها سمعتها الاقتصادية أم تعتبر دولة بيروقراطية تعطل حرية اقتصاد السوق بتدخلها لمنع إتمام صفقة شراء لوحة بسب إزعاج وإلحاح بعض المثقفين والمهتمين والحريصين على تراث وهوية الأمة الفرنسية ؟
أما مدير متحف اللوفر لورانس دى كار فهو صاحب تصرفات غير معقولة فبعد أن قررت الشركات الفرنسية دفع ثمن اللوحة ليتم استردادها يرفض جزءا كبيرا من تبرعات الشركات ويصر أن يشارك الشعب الفرنسى بأكمله فى الحفاظ على تراثه وهويته فهل يرى لورانس دى كار أن استرداد اللوحة ليس بالمال وحده أو بمن يملك ويدفع أعلى سعر بل اللوحة ستسترد ويحافظ عليها عندما يدرك المواطنون الفرنسيون أنهم لا يدفعون أموالهم من أجل استرداد لوحة لكنهم بأموالهم البسيطة يدافعون عن تراثهم ويحمون هويتهم؟
هذه الأسئلة حول معركة اللوحة قد يرى البعض أن إجاباتها تؤكد الطرح السابق أن الفرنسيين شعب من المجانين والمرفهين يثيرون الأزمات من أجل قطعة فنية يمتلكون منها الكثير ويرفضون ملايين الدولارات بمعنى آخر " هم شعب فقرى مش وش خير ".
قد تحمل نفس الأسئلة إجابات أخرى بأن المجانين والمخربين الحقيقيين هم من يبددون تراثهم ويمزقون هويتهم لأجل هويات بديلة ويضعون تاريخهم وثقافتهم على ميزان الدولار أو يقدمون تراثهم بسذاجة لمن يدفع أكثر ظانين أنهم يحققون المكاسب والأرباح وهم فى الحقيقة يبيعون أنفسهم بثمن بخس فى أسواق سماسرة الحضارات ، تشير نفس الإجابات الأخرى إلى أن المثقفين والفنانين الفرنسيين وكل مهتم بهوية وتراث أمته ليسوا أشخاص مزعجين أو باحثين عن "الشو " بل لهم موقف وهم حراس متيقظين واقفين بانتباه على أبواب حصون الهوية الفرنسية ليصدوا أى خطر يهددها ومستعدين أن يخوضوا أشرس المعارك من أجل الدفاع عنها، هذا عكس آخرين من "الأراجوزات" المتخفين وراء قناع المثقف والفنان مدعين أنهم حراس حصون هوية أمتهم..والحقيقة هم أول الخونة وأول من يفتح بوابات الحصون لكل غازى ولمن يدفع أكثر ـ شرطاـ بالدولار.
تبدوالمعركة حول لوحة سلة الفراولة الفرنسية كثيرة التفاصيل لكنها تعطى إشارة هامة لكل أمة تمتلك هوية أصيلة وحضارة عريقة أن ماتمتلكه الأمة من تراث وثقافة لا يقاس بالمتر أو يوزن بالطن ويباع بالدولار مادام تمتلك منه الكثير لأن معادلة الحفاظ على الهوية تقول أن فقد القليل حتى لوكان سلة فراولة هو بداية فقد الكثير من الوطن.