«ما زال» بين الاستمرار والسكون

تمثال من النحت الخزفى
تمثال من النحت الخزفى

كتبت: منى عبد الكريم

«اللحظة الحاضرة هى المجال الذى يكون فيه السكون والحركة. اعتنقه، وستجد السلام الذى يتجاوز كل تفسير»

إيكهارت تول. 

كنت من بين أول من شاهد أعمال معرض «ما زال» فى لقائى بالفنانة أمانى فوزى الذى قادتنا إليه الصدفة قبيل المعرض ببضعة أيام ب الزمالك، حيث استمتعت برؤية صور الأعمال التى حملت طاقة تعبيرية مدهشة أضاف إليها اختيارها الفنانة لخامة البرونز لأول مرة لتقدم بها مجموعة كبيرة من أعمالها على الرغم من تخصصها وشهرتها فى مجال الخزف والنحت الخزفى والذى قدمت من خلاله أكثر من معرض سابق نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر «هوية» و»ولا حاجة» «وتركيبات خزفية معاصرة» و»مابين».. وغير ذلك.

اختارت الفنانة عنوان «ما زال» لمعرضها الذى استضافته مؤخرا قاعة الباب، إذ يعكس العنوان كون الفنان– كما تقول فوزى - ما زال فى حالة بحث دائم لا تحده الحدود ولكن تقوده التجربة، إضافة إلى اتصال كلمة «مازال» ذاتها بالماضى لتكشف عن اتصال المراحل المختلفة عبر الرحلة، تضيف فوزي: حال ترجمة الكلمة إلى اللغة الإنجليزية كشفت عن معنى إضافى ارتبط بالمفردة الإنجليزية له علاقة بالسكون، فرغم أن كل عمل من الأعمال فى وضع ساكن لكن الحركة الداخلية والتعبير الموجود فى الجسم والعيون والنظرة والإيماءة تقول أن ثمة شيء ما على وشك الحدوث، وقد شعرت أن القوة الموجودة بتلك الكلمة تقودني.

اقرأ أيضاً | 2504 أشجار في ختام ماراثون «اقرأ»

وقد جاءت كلمة الفنانة بالمعرض لتفسر تلك الحالة من التناقض بين السكون والحركة حيث تقول فى جمل منفصلة متصلة «منحوتات تتجسد بين الثبات والحركة بوسائط متعددة.. تتجسد الرمزية فى سيمفونية صامتة.. تثير إحساسًا متناقضًا بالسكون.. تتحاور الشخصيات فى لحظات التأمل.. تلتقط جوهر المشاعر الإنسانية مسلطة الضوء على الفروق الدقيقة فى التعبير.. التفاعل الكامن فى البنية النحتية والضوء والظل..التواصل مع الروايات الصامتة لكل شخصية.. الطاقة الديناميكية وسط الهدوء.. محافظة على توازن يثير الخيال.. القدرة على دمج الأضداد بسلاسة.. خلق تناغمًا يعكس شاعرية الحركة.. جوهر التوقف المؤقت فى السكون..».
 



إن ما تضعه أمانى فوزى تيمة وموضوعاً لتجربتها ينبنى على علاقة الحركة بالسكون، الأمر الذى ذكره د.مصطفى عيسى بكلمته المصاحبة للمعرض «هى علاقة ضدية، إذ تنتهى الأولى عند حدود الثانية، مثلما تبدأ الثانية فى لحظة فناء الأولى.. فى قاموس التعريف لا يقع كلا التعريفين على مستوى واحد، بل لعلهما يتقاطعان بشكل رمزي، تأسيساً على ردهما إلى المعارف الزمكانية،عنيت إمكانية ردهما إلى فورم متماسك، أو حركة جسد، أو انفعال كائن فى فراغ. لقد أمكن لهذه الفنانة تحقيق هذا التقابل فى فورم يتجسد فيه أفكار تمتثل لطابع النحت بالأساس، ومن حيث تمثل الحركة فيه محوراً رئيساً.»

مزيج بين التعبيرية والسريالية تمكنت منها أمانى من خلال صياغات اعتمدت فيها على المزاوجة بين الكائنات ليخرج كل عمل من أعمالها حاملا فى ثناياه اسما وحكاية.. إذ نجد مثلا امرأة برأس سمكة أو طائر، وطائر بقدمى إنسان، وبورتريهات هى مزيج من وجوه إنسانية وأسماك، وفى اختيارها للمفردات دلالات تكتسب معناها من كل عمل بذاته، نجدها تصطحب الحمام مثلا معها من تجاربها السابقة، إذ أذكر عملها المميز الذى قدمته فى صالون النحت الخزفى فى الأوبرا تحت عنوان «ملاذ» والذى كان الحمام فيه هو بطل العمل، والذى جاء كجزء من تجربة الفنانة لأكثر من ثلاث سنوات تقوم فيها بدراسات على الطيور، حيث تقول الفنانة الطائر قد يكون هو الحكمة أو الحرية السلام أو الهروب، فاصطحاب مفردة من تجربة لأخرى لا يعنى بالضرورة أن تحمل ذات الدلالة، فالرمز يختلف باختلاف السياق، فالسمكة كذلك قد تعنى الخصوبة أو الرزق، لكن ربما يستخدمها أحدهم بمعنى الحزن وهكذا، وعن توظيفها المكثف لمفردتى الحمام والسمك فى معرض «لازال» تقول فوزي: أسعى وراء رمزى الطائر والسمكة، فطوال الوقت تتناولهم الحضارات المختلفة بطرق مختلفة، وأنا أحب تلك المفردات التى تحمل مزيجا بين الفلسفة والمشاعر الإنسانية، التى تفتح أفاقا متعددة للاقتراب من العمل الفني.
 



أما عن اختيار خامة البرونز لتقدم بها أعمال معرض «ما زال» فتقول الفنانة: لسنوات كان الخزف هو وسيلتى للتعبير، فقد شاهدت منذ زمن بعيد كتاب عن الفنان الخزاف وكان يحكى عن فكرة الخزف مع بدء الخليقة وكنت مستمتعة جدا بالقصة، وقد أحببت الخامة وأرى أن الفخار أو الخزف يرتبط بالحياة، فقد استخدم المصرى القديم الفخار لصنع الأوانى الكانوبية، ونجده حاضرا فى الثقافة الشعبية، ونراه فى كل بيت، كما نرى إشارات له فى مختلف الأديان حيث يقول الله عز وجل فى كتابة العزيز «ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين»، و» خَلَقَ الإنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ»، وفى المسيحية فى كلمات ترنيمة أيها الفخارى الأعظم التى تقول «أيها الفخارى الأَعظم..أنا كالخزف بين يديك.. عد واصنعنى وعاء آخر، وفى كل ذلك تكريم للخامة وقد وجدت فيها روح ولها طاقة، ولكن هذا لا يعنى أن الفنان رغم تمكنه من خامة معينة ألا يجد فى نفسه الرغبة لتوظيف خامات أخرى توازى طاقة التعبير لديه فى ترجمة أفكار معينة، فخامة الخزف على جمالها لها صعوبتها وهشاشتها فى الوقت ذاته، ولذا فكرت فى خامة البرونز فهى أكثر احتمالية وأكثر قوة للتعبير، وأنا أرى أن من حق الفنان التعبير بحرية بغض النظر عن الخامة وعن التصنيف، فالفن المعاصر لغى الحواجز بين المواد والتخصصات.

الحقيقة أن الفنانة أمانى فوزى تمارس الفن من منطق الحياة، فلا تتوقف عند الشائع والمفروض، فحين تخصصت بالخزف بحكم دراستها وصولا لمنصبها كأستاذ بقسم التعبير المجسم تخصص «خزف»، بكلية التربية الفنية بجامعة حلوان، تمردت على الأشكال التقليدية التى اشتهر بها الخزف على الرغم من اتقانها جدا لفنون الأطباق والإناء الذى اتضح من خلال مجموعة من أعمالها الفنية، لتتجه للتعبير الحر من خلال الأعمال المركبة المفاهيمية، ليخرج كل عمل تقوده الفكرة. 

وفى معرضها «ما زال» تترك الفنانة العنان لأفكارها، تخوض تجربة جديدة بتوظيف البرونز فى كثير من الأعمال ببراعة، دون أن تتخلى عن خامة الخزف لتنوع الأعمال بين البرونز والنحت الخزفي، وقد تنوعت أسماء الأعمال منها ما يكشف حكايات تدعو للتساؤل من بينها «ذات السيقان الخضراء»، و«فتاة العاصفة»، و«المهرج الرومانسي»، و«الطائر والقفاز»، ومنها ما يعبر عن مشاعر من بينها «حنين»، و«احتضان»، و«جسارة» و«حوار»، و«تأمل»، وهى أعمال تتصل جميعها بالفنانة، إذ تبدو أن تلك الأعمال مدونات حياتية محملة بمشاعر لها علاقة بالفنانة ذاتها وبمشاهدتها ورؤيتها للمجتمع وللإنسان وللنفس البشرية.