كنوز| «العقاد» يحدثنا عن روحانيات رمضان فى ذكرى رحيله

عباس محمود العقاد
عباس محمود العقاد

الثانى عشر من مارس عام 1964 كان يوما حزينا، ففى هذا اليوم رحل عنا المفكر الكبير عباس محمود العقاد ودفن فى مسقط رأسه بأسوان، حزن على رحيله المثقفون والمفكرون فى مصر والدول العربية، وانهالت برقيات التعازى من رؤساء وملوك وأمراء ومشاهير لتعزية مصر فى فقيدها العظيم وفقيد العروبة والأمة الإسلامية التى انتفعت بعلمه ورؤاه وفكره فى المؤلفات المتنوعة العظيمة التى أثرى بها المكتبة العربية، وأول أمس مرت علينا ذكرى رحيله الـ 60 التى توافقت مع اليوم الثانى من أيام شهر رمضان، وما أكثر ما كتب العقاد عن هذا الشهر العظيم وفضائل الصيام وروحانياته.

فقد نشر فى عدد مايو 1955 بمجلة «الهلال» مقالا يقول فيه إن أدب رمضان هو أدب الإرادة، وحكمته حكمة الإرادة، ويقول «ليست الإرادة بالشيء اليسير فى الدين، والخلق فى الدين، وما الخلق إلا تبعات وتكاليف، ومن ملك الإرادة فإن زمام الخلق جميعا بين يديه، ومزية رمضان أنه فريضة اجتماعية مع فرضه على أحاد المكلفين، فهو موعد معلوم من العام لترويض الجماعة على نظام واحد من المعيشة، وعلى نمط واحد من تغيير العادات، وليس أصلح لتربية الأمة من تعويدها هذه الأهمية للنظام، ولتغيير العادات شهرا فى كل سنة، تتلاقى فيه على سنن واحدة فى الطعام واليقظة والرقاد، وبما يستتبع ذلك من أهمية الجماعة كلها لهذا الشهر خلال العام، الصيام على اختلاف أنواعه، وليس أكثر من أنواع الصيام هذه الأيام، سواء كان لاجتناب السمنة لدى الجنس اللطيف أو حرصا على الرشاقة، أو لإصلاح المعدة، أو الصيام للبخل والتوفير، أو صيام اليوجا وعادات المتصوفين والنساك.

ويقول العقاد فى نفس المقال إن الصيام على اختلاف أنواعه يراد به تربية الخلق ورياضة النفس، وتعويد الإنسان أن يملك عاداته كما يشاء، والصيام الذى فرضته الأديان أحق هذه الأنواع بالبحث عن دواعيه ومعانيه، وحكمة الصيام فى الأديان الكتابية هى للتكفير عن الخطايا والسيئات وتربية الأخلاق، أما الدين الإسلامى فهو الدين الوحيد الذى فرض كتابه الصيام فترة معروفة من الزمن، ولا خلاف بين الأئمة فى الحكمة المقصودة بهذه الفريضة وهى تقويم الأخلاق وتربيتها، وإن تعددت الأخلاق التى تذكر فى هذا المقام، فقد يعلم صيام الغنى الرحمة بالفقير، ولكنه مقصد لا يشمل الأغنياء فقط، وكما ينبغى فى كل فريضة عامة لا تختص بإنسان ولا بطائفة دون أخرى من المسلمين، أما الخلق الذى يعم الأغنياء والفقراء، ولا يستفاد من فريضة عامة كما يستفاد من الصيام، فهو الإرادة، وهى ألزم الصفات لكل إنسان، ولا قوام للفضائل والفرائض جميعا بغير هذه الإرادة.

ويعود «العقاد» ليؤكد أن الإرادة هى فضيلة الفضائل فى الصيام، ومتى عرفت هذه الحكمة فآداب رمضان كلها محصورة فى معناها، وليس من أدب رمضان أن يململ الصائم، أو يتجهم كأنه مكره عليها مطيع لها بغير رضاه، وليس من أدب رمضان أن يقضى صيام نهاره فى النوم تاركا الطعام، وليس من أدب رمضان أن يفرط الصائم فى الطعام والشراب بعد غروب الشمس وحتى موعد الإمساك، وليس من أدب رمضان صيام المريض معرضا نفسه للتهلكة إذا كانت لا تجب الفريضة عليه».

عباس محمود العقاد «الهلال» مايو 1955 

كنوز: رحم الله أديبنا وشاعرنا ومفكرنا العملاق عباس محمود العقاد صاحب «العبقريات» الذى أنار عقول الأمة بعلمه وفكره وغزارة إنتاجه المتنوع الذى يقف به على القمة فى عالمنا العربى والإسلامى.