«عم محمد رمضان».. قصة قصيرة للكاتب الدكتور فراج أبو الليل

الدكتور فراج أبو الليل
الدكتور فراج أبو الليل

يهاجمني القلق والحزن  ثم يعقبهما رجاء خائف بعد فجر أول يوم  من أيام شهر رمضان .. فلا استطيع النوم بعد  وجبة السحور في ذلك اليوم .. لا أعلم لماذا؟ .. ربما عادة قديمة سيئة لازمتني منذ عشرة سنوات مضت .. أو ربما هو خوف من الذنوب التي اقترفتها متعمداً أو متغافلاً .. أَتوضَّأ لصلاة الفجر .. ولا أترك سجادة الصلاة  وسبحة أبي الخشبية  تبتهج وتبتهل في يدي .." سبحان الله والحمد لله والصلاة علي رسول الله" .. وأظل علي حالتي تلك حتي شروق الشمس .. ارتدي ثياب العمل واترجل ماشياً علي قدمي مستمتعاً ومسبحاً مع العصافير  حتي مدرسة عمر بن العاص الابتدائية  المشتركة.

سألته ذات صباح من أيام شهر رمضان الكريم ..  هل كانت تلك الأيام حصاد الأمس؟ .. لم يجب  "عم محمد" .. فقط  همهم بصوت ضعيف  " رمضان كريم  يا أستاذ" .. ولكن في وجهه قرأت المعاناة .. انفلت لسانه قائلاً : لا .. "الأمس"  كان رحيماً بالفقراء .. وأنت يا "بني" ربما كنت شغوفاً ومندفعاً نحو الحياة .. فلماذا تركت "الآن" يمتزج بالتراب العطن.. هل كان "الآن" راضياً عن  نفسه وعنك؟

 قلت : قطعاً كلا .. ربما هزمه الاحباط .. ربما قهره الملل ..

قاطعني بصوت هادئ: الحقيقة أنك يا "بني" سبباً ونتيجة .. حين تركت الشغف يغادر .. حين تركت قبح الكلمات البائسة  تهزم جمال قلبك.. حين صارت اللامبالاة فعلاً صارخاً من أفعالك اليائسة.. أصبحت  أنت عبأ ثقيلاً علي نفسك .. ربما لتلك الأسباب هربت منها وهربت منك .. ربما لو لمس الأمل شفتيك الجافتين مرة آخري .. حينها تجد الأمس والآن مبتسمين.

اقرأ أيضا|«موقف شائك» قصة قصيرة للكاتب الدكتور محمد محي الدين أبوبيه

 عم محمد رجل خمسيني هزيل..  هزمت السنين جسده الضعيف .. أرهقته الليالى الجائعة .. حين التحف برصيف الكفاح المضني .. قال لي ذات صباح  تركت التعليم في المرحلة الإعدادية  بعد وفاة والدي "رمضان " مرغماً بضيق ذات اليد .. رغم حبي للتعليم .. لذلك أحب قراءة الجرائد ..  كنت أسرق الشمس في الثامنة صباحاً .. قبل كل الموظفين  لأتحدث معه .. أستنشق متعة الشروق في هدوء المكان .. بدا على وجهه الإرهاق .. بادرته بالسؤال عن حاله ..

قال: "في نعمة" ..

كلمة لازمت لسان الفقراء .. يده مرتعشة بحكم السن .. ورغم ذلك حين أمره مدير المدرسة " السيد طريمة " بتكسير بلاط الحمام القديم ذو اللون الأصفر برائحته النشادرية النفاذة  واعداً إياه بمكافأة مالية سخية .. لم  ولن يعترض حتي لو عمل بدون مكافأة  .. هرول  وهو صائم  يكسر بلاط الحيطان  .. ويحمل الأسمنت على كتفه المحني .. ظروف قاسية ربما دفعت ذلك الخمسيني للعمل الشاق  .. ودعته .. وكان الوداع الأخير .. في اليوم التالي  .. سمعت أنه مات .. ظنوا في بادئ الأمر أنها غيبوبة السكر المعتادة قد داهمته .. ولكن مس " عفاف" أكدت موته .. لم يجد المدير "السيد طريمة " إلا أن يتصل علي ابنته الكبرى .. رغم توسلات بعض المدرسين بأن يحضر سيارة الإسعاف ..

قال : لا .. بتكشيرة علت جبينه البارد .. لو حضرت سيارة  الإسعاف  سيكون هناك سين وجيم  .. كيف مات ومتى مات؟ ..

حملته ابنته في تاكسي أجرة في الكرسي الخلفي كأنه نائم .. حتي شقته في قرية صفط اللبن بحي كرداسة وبعدها أعلنوا الوفاة كأنها طبيعية ..  مات وهو يجمع قطرات عرقه في رغيف خبز لبطنه الجائعة .