«نيتشة العنكبوتي».. قصة قصيرة للكاتبة بسمة يحيى

قصة قصيرة للكاتبة بسمة يحيى
قصة قصيرة للكاتبة بسمة يحيى

ساورني وميض ننخرساج وهي تسرق عدة أوراق من رواية الأقدار التي خَطَها لي شخص مجهول، ثم وضعتها في زجاجة من الخمر المقدس؛ ربما أرادت أن تخفي بعضًا من حبكات حكاياتي، حتی لا تتكسر أجنحتها العذراء بمرور سرب غربان الآلهة.. كان ثمة رموز تهمي علی العباد بغزارة، حتی تصدع القمر.. ظهر نصفيه من بين ثنايا ظلام الكون، ليرتقي حجر قمري ساطع بالماء الفضي المُقَدَس والمُكَدَس بالرموز علی المسافات البينية لذراته.

"كان مكتوب عليه في زمن موغل في القدم أن يسقط علی رأسي" يقول، ثم يكتب ألغازًا أخری: هذا ما سيعرفه الشيخ نيتشة فيما بعد، أری ننخرساج تنسج السطور.. تبدأ رحلة نيتشة في عوالم العقل الباطن أثناء فقده الوعي، عنكبوت الزرقاوي ينسج خيوط الزمان والمكان، ليسافر عبرها كاشفًا فضائح قصور الملك المُطِلَة علی مكان يُسميه الشعب "مذبح النبي علی القمر".

اعترتني قطرات حبر سوداء علی أوراقي البيضاء السرية، ليتردد صوت غامض بداخلي، يخبرني أن كل قوانين الكون وخبايا ثقوبه السوداء مُسجَلَة بذاكرتي التي تجلَّت بجسد أمي، وفي نفس الوقت يتسلل العنكبوت إلی كهف اللاوعي، يدور ويدور.. يكشف السر الخطير وبصوت دفين يقول: كل بينيات الكون وأسرار فك شفرات ثقوبه السوداء وقوانين الخلق الثلاث مُدونَةٌ هُنا، حيث الظلام الضاحك الباكي.. إنها دوامة انهيار الحدود العظمی تشدني من أذرعي المتعددة، ليتوقف الزمان وعندها سُرِق شعوري بمخدر سريع المفعول كسرعة ركض مشاهد الأسطورة الأصلية وطيات أفكاري الخاصة المتلاحقة والمتقافزة علی دائرة اللانهاية.

"هل سأتلي آياتك ثملًا بخمر فردوسك؟ أم سترتلني أحبال ميزانك المقدس؟" قالها ذو الأحد عشر ذراعًا مُقلِبًا نظره بين أوراق التعويذة.

الطبيب: أتذكر هذا المشهد جيدًا، حينما تحول المُسجِل إلی كاميرا صغيرة بعينين تسجل الصراع القائم بين الشعور واللاشعور في اللوح المحفوظ، عندها ضل الزمان السبيل وضاع بين شعاب الماضي والحاضر.

أرادني أن أقص عليه الحكاية الأصلية لبداية الخلق وكأنها لم تعلق بنافذة أذنيه من قبل.. وقف علی المنضدة وصرخ، ثم ضحك بشكل هيستيري.

"لو لم تعصِ الفرعون وتكشف للشعب حقيقة ذقنه الشامخ. لو لم تحرق أسفاره، وتكشف سر خدع معجزاته للموتی، لربما كنت سأراك جالسًا علی العرش بدلًا من أن يُحكَم عليك بالضياع في حواري القمر" قلتها له بعد أن دقت عقارب الساعة علی يده، لتبترها، فتسيل الدماء الخضراء، حتی وصلت إلی قدمي، فنمی له جناح وردي يتجدد كل عام مرتين، حتی اختفی المشهد.

رد الطبيب محاولًا أن يمتلك زمام متاهتي السردية قائلًا:

ـــ هل هذا الشخص يشبهك في الشكل؟

ـــ نعم، لكني لا استطيع أن  ألملم جميع حروفه.

تابعت السرد قائلًا: أتذكر ملمس الشفرة البكرية الوليدة من تطاحن رمال الصحراء مع الطين الأخضر، هي حقًا مليئة بالتناقضات: بكاء الأم في بطن المحيط، حرارة شمس الأصيل، وربما فلسفات نهر الفِراط بالجنة، أصوات تجانس العناصر الأولی للحياة. شخصت الشفرة في الغروب تطير في فضاءات شبكة الزمان، متحررة من مسارات قواعده، ربما ضاعت وهي تفكر في معنی البقاء.. تسكن بعقل نيتشة، ليتوغل بها العنكبوت كالمجنون الصارخ الباحث عن أحجيات معادلة الجاذبية؛ ليثبت للجميع أن ما آمن به منذ طفولته لم يكن وهمًا، فكان يعتقد أنها الخطوة الأولی لتشكيل صلصال بخضرة الطين وزرقة السماء، فيملك مفاتيح الميزان.

"سقطت سمائي ومالت كفة ميزاني اليُمنی أكثر من اللازم، عندها كان يجب عليّ أن انتحر بهدوء وأترك العالم للأم" قالها الملك وقد انتفض جسده الجهنمي علی الماء، ليتبخر البحر بأكمله.. وبعد أن شعر بالتفاف ثعبان الزمان البطيء حول عنقه كتب تعويذة مسحورة يلتف حولها الخوف ولوعة الإيمان.

كلما نحت فيها رمزًا، يُشَد العنكبوت بيدٍ خفيّة، ليعود إلی عتبات شفرة الطبيعة وقد اغرورقت مسامعه بالنسيان.. تكاد أن تتحجر أذرعه الرمادية الحائرة. أتذكر جيدًا أن وقتها حلقت روحه حول صدی المشهد الأخير من مسرحية ربه التي تلونت بالبُهُوت كما بدی وجه الملك تمامًا.

"اُنظُر هناك! إنه دخان ساحرة ألوانه يحمل صرخات بعيدة لأول فوج من البشر خُلِق بالألوان الطبيعية علی لوحة متوسطة الحجم في مرسم مَنسيّ تابع للإلهة الأم" قالها العنكبوت، ليُترجم الملك تلك الأصوات إلی آيات ذكر ذات أحبار سرية اكتشفها أثناء زيارته لعالم السَحَرَة الغُزاة.

تذكرت أيضًا أن من كان يقود الجمع هي امرأة عجوز حدباء وشعرها أزرق. تحمل في يدها اليُمنی شعلة من نيران الحديد تنير الدرب، لكن سرعان ما تخيلت الإلهة الأم ماء السماء وهو يهطل علی الحديد، فتُخمَد النيران ويحتل الظلام بسقيعه العالم.. يتسرب البروتين مرتطمًا بالحديد والمطر، يضحكان ويبكيان، ليتجسد الخير والشر وتجتمع بصمات قوی الطبيعة في اجتماع القمة مُعلِنةً عن ولادة الحياة، وقتها صدر صوت غريب من المُسجِل يشبه الصَفير المؤلم، لكني لم أبالي ولا أجد له تفسيرًا حتی الآن. هناك مشهد آخر للإلهة الأم، لكن خانتني الذاكرة مرة أخری.

"يبدو أن الملك وضع بالچينات خطوات خجولة بسيطة من أصل عدد لا نهائي من القفزات الزمكانية في الذاكرة؛ حتی لا يكتشف نيتشة وعنكبوته تفاصيل المجرات والكواكب المشتعلة وتلك الباردة، فستكون كارثة حقيقية إن كَشَفَ سر بنات وادي عَبقَر المحدوف في ركن مُتخلخل في أعمق خلية بالذاكرة" يقول العنكبوت مُستنبِطًا، ثم يُعَلل حيلة الملك برغبته في حجب ترددات نغمات آلات حناجر بنات الوادي النفخ وترية الساحرة. وفي هذه الساعة رسم الملك عدة طرائق للعنكبوت، لعله يُرشَد إلی زاوية قد تكشف لغزًا غاب عن روايته، من الواضح أن ننخرساج قد أخفت عنه بعضًا من فصولها القصيرة، بينما كتبت في أول فصل عن دورة حياة العنكبوت، حيث حكمت عليه بأن يَرتجِل حياته من الساعة صفر إلی نهاية خط العمر القصير.

بخطوات مترددة تحسس العنكبوت تفصيلات وتلافيف دماغ نيتشة الفيلسوف الملعون، حتی بلغ الزاوية المُعلَقَة. شاهد بها كائنات عجائبية الألوان والأشكال أصل موطنها كان مَثَار جدل وحديث مفتوح النهايات بعدة تخيلات: قد تكون بنات وادي عَبقَر المُخَلَدات، هذه الكائنات هي الآلهة الأصلية، البرودة والظلام سلفنا المشترك.

يلتف الجميع حول شجرة واحدة تتدلی منها كواعب العنب الأحمر الخمري. ظل سر خالقها حبيسًا في رأسي.

تتساقط منها حبات العنب ليلتقطها أطفال من وادي مسحور وقد ارتدوا رداءًا حريريًا بلون السماء الأولی.. يرتقي العنكبوت إلی العَمَدِ، ثم إلی السماء الثانية. لم يستطع رؤية ألوانها من شدة الظلام وقسوة سقيعه.. وبعد عدة ساعات من الصمت سمع صوت انفجارات لضوء مثلث معدني عملاق مُنَار باللهب الفضي وحوله الكون شديد السواد وبداخله دائرة حمراء تنبض بها الدماء، فتتمدد الدائرة وتزداد حرارتها وتلامس المثلث بحوافه الثلاث من العمق. علی اليمين في منتصف ضلع المثلث الرقم ثلاثة، ثم علی اليسار في منتصف الضلع التالي الرقم ستة وعلی القاعدة الرقم تسعة يحرسه رأس المثلث المعقوف، ثم علی جذع شجرة ذبيح في بقية الكون المُظلم الفسيح جلست لأناجي حرارة الطريق.

"البداية كانت بالبرودة والظلام، ثم علی اليمين الرقم ثلاثة وتدور الدائرة مرورًا بالرقم ستة، حتی الرقم تسعة في القاعدة الأساسية.. حتی الآن أنا تائه يبحث عن معنی العدم والوجود" قلتها مُتخبِطًا بين أفكاري العبثية ولطمات رمزيات أرقام المثلث برأسه المعقوف. وسرعان ما سجل الملك تلك الأرقام ونسج معادلته الخاصة معتمدًا علی مصباح كهربائي وقلم مغناطيسي يجذب ويحيك الأشياء المختلفة علی طريقته الخاصة.

"كانت السماء الثانية مجرد خدعة وضعتها ننخرساج للملك بحنكة العالمة بأسرار قوی الطبيعة" هذا ما سيعرفه الملك فيما بعد وتحديدًا قبل عودة العرش بثلاث ساعات فقط.

لو لم يُلمِّح الملك في مخيلته أنه مجرد شخص عادي أو فصل من فصول رواية قديمة نسي الراوي أن يضع لطياتها نهاية، ثم مات وحيدًا، حيث خطفته عصابة الديدان الزرقاء إلی عالم الموتی بأوامر من الجان، ما كان لحكاية السماء الثانية أن تكون.

"وقتها لم أعرف أن عقارب الساعة قد انكسرت علی جبال الأبدية" قلتها، ثم تابعت السرد قائلًا: لو لم يُسرَق العرش من الأم، لربما ما كان لحكاية العنكبوت ونيتشة الفيلسوف أن تكون.

"يروقني أن أخُطك بجسدي، أن أكتبك: حيرةً، يقينًا، شكًا، كُفرًا، وثمالةً من إيمان نهر قد سلمته الأم لعناق شاطيء نوراني" يقول الشيخ نيتشة للعنكبوت، ثم تتطاير الرؤی مُجددًا.