حديث الأسبوع

العالم لم يعد يستحق اليقين فيه

عبدالله البقالى
عبدالله البقالى

عبدالله البقالى

لم يكن كافيًا أن تخبر المديرة العامة لمنظمة التجارة العالمية السيدة نغوزى أوكونجو إيويالا، الرأى العام العالمى بتراجع حجم التجارة العالمية لعام 2023 مقارنة بالتوقعات المعلن عنها سابقًا، حيث كشفت فى الخطاب الذى ساهمت به فى أشغال الجلسة الافتتاحية للمؤتمر الوزارى للمنظمة، الذى احتضنته عاصمة الإمارات العربية المتحدة قبل أيام قليلة من اليوم «ألا يبلغ حجم التجارة العالمية هذا العام توقعات المنظمة للنمو»، ولم تغفل التنبيه من ظهور مؤشرات على ما وصفته بـ«تشرذم» فى الاقتصاد العالمى، الذى تهدده التوترات الجيواستراتيجية.

ولا حتى تبرير هذا التراجع بـ«حالة اللايقين وانعدام الأمن» الذى اعتمدته إطارًا حاضنًا ومتسببًا فى حالة اللا يقين وانعدام الأمن. وواضح أن المسئولة الأولى فى أكبر وأهم منظمة للتجارة الدولية، لاقت إحراجًا كبيرًا فى الكشف عن الأسباب الحقيقية لانهيار اليقين العالمي، واضطرت إلى الاحتماء وراء التحفظ على ذكر أسماء الدول المتسببة مباشرة فيما يفضى إلى الانهيار المتواصل لحالة اللايقين فى العالم، فيما اكتفت بالتلميح إلى التوترات المحتدمة بين أمريكا وأوروبا من جهة، وروسيا والصين من جهة ثانية خلال السنوات القليلة الماضية. بما يعنى أنها حصرت أسباب الانهيار فى احتدام المنافسة الجيواستراتيجية بين القوى العظمى.


وإذا كان من المنطقى تفهم دواعى تحفظ المسئولة الأولى على منظمة التجارة العالمية فى حديثها عن ظاهرة تراجع منسوب الثقة فى الأوضاع العالمية، وارتفاع معدلات سيادة حالة اللا يقين فى العالم، بسبب إكراهات المنصب، فإن الأسباب الحقيقية لما يحدث لم تعد خافية على عامة الناس وليس فقط على الخبراء المتخصصين.
وبالعودة إلى التفاصيل، فإن رصد مؤشرات حالة اللا يقين وانعدام الأمن، تكشف أن حالة عدم اليقين العالمى بلغت مستويات متدنية قياسية مع بداية تفشى جائحة كورونا، لكن وبعد تجاوز هذه المرحلة الصعبة والدقيقة التى اجتازها العالم، تأكد أن نسب عدم اليقين العالمى لم تتحسن بالحجم الذى كان متوقعًَا، وبدا واضحًا أن الجائحة لم تكن المتهمة الوحيدة فى تدهور حالة اليقين، وأنه وقع ما يشبه التكتم على الأسباب الحقيقية، ليتم تقديم الجائحة كمتهمة وحيدة وبالتالى إدانتها. لكن الحقائق السائدة على أرض الواقع كشفت أن هناك أسبابًا أخرى ومتهمين آخرين يقع التستر عليهم عن تعمد وسبق إصرار.وهكذا، يمكن القول بأن مصدر تدهور حالة اليقين يتحدد أساسًا فى الدول المالكة للاقتصادات القوية، ومن هناك تنتقل العدوى والتداعيات إلى باقى اقتصاديات العالم، بمعنى انتقال حالة عدم اليقين من الاقتصادات الأساسية والقوية المؤثرة فى النظام الاقتصادى العالمى وانتشارها فى باقى المساحات الاقتصادية والجيواستراتيجية فى العالم. فمثلًا، تكشف المعطيات الدقيقة أن الولايات المتحدة الأمريكية تواجه حالة لايقين كلى، وأنها ظلت مصدرًا رئيسيًا لهذه الظاهرة على المستوى العالمى، ثم تليها كل من الصين وفرنسا وإيطاليا وألمانيا وكندا واليابان وبريطانيا التى تقاسم الولايات المتحدة الأمريكية مصدر الوباء، وإن كان ذلك بنسب ضئيلة. وتكشف هذه المعطيات المتعلقة بالظاهرة على أن استمرار ارتفاع معدلات التضخم وأسعار الفائدة يرخى بظلاله على الأوضاع الاقتصادية العالمية ويلقى بمخاوف حقيقية من تعميق الركود الاقتصادى العالمى.
هذا من حيث الشكل، أو من حيث القراءة البسيطة ومحدودة المدى لما يحدث ويجرى، بيد أن القراءة العميقة تحتم الحديث والكشف عن الأسباب الحقيقية لتدهور، ليس مؤشرات الثقة فى الأوضاع العالمية السائدة فحسب، بل تراجع منسوب الثقة فى المستقبل المنظور على الأقل، إذا لم يكن حتى البعيد منه.
إن انهيار منسوب الثقة وارتفاع معدل انعدامها يعود بالأساس إلى ارتفاع حدة المواجهة بين الدول العظمى وبين التقاطبات العالمية، التى وصلت حد المواجهات المسلحة المباشرة والتى عمرت لحد اليوم لأكثر من سنتين دون أن يتمكن طرف ما من حسمها لصالحه، بما يعنى استمرارها، وبالتالى من الطبيعى أن تزداد حدة حالة عدم اليقين فى الأوضاع العالمية. وهكذا فإن السبب الرئيسى فى استمرار انعدام الثقة فى الأوضاع العالمية هو الارتباط المباشر بين الصدام العنيف بين القوى المتنفذة فى العالم والمصالح الاقتصادية، بما يترتب عن ذلك من تداعيات تجبر باقى سكان العالم على دفع تكلفة أوضاع لا ذنب لهم فيما آلت إليه.
حالة عدم اليقين مرتبطة أساسا بانعدام العدل والاستقرار فى العالم، لأن الأوضاع السائدة حاليا، لا يمكن أن تكون محل ثقة ولا تقدير ولا حتى احترام حينما تشن حرب عالمية حقيقية على مدينة واحدة ويباد شعب بأكمله ولا من يجرؤ، ليس على العمل على وقف الإبادة فقط، بل حتى على الكلام.