«بحر الذكريات» قصة قصيرة للكاتب أحمد فؤاد الهادي

ارشيفية
ارشيفية

عم الجفاف والجفاء جنبات حياته وهو على مشارف السبعين ، غاص في بحر ذكرياته باحثا عن شيء جميل يؤنس وحدته، أدهشه ما مر به في رحلة الغوص من أفراح وأتراح ومشاهد ومواقف وأماكن وأشخاص اندثروا جميعا وغاصوا في بحر الذكريات، استمر في الغوص حتى لاحت له القيعان، مشاهد من الطفولة غير واضحة المعالم، عاود الطفو قليلا فلمحها، أدهشه ما رأى، فهي بنفس الثوب البسيط والملامح الساحرة بلا تصنع أو افتعال، مازالت ضفائرها التي اختلط فيها الأسود بالبنى منسابة في تلقائية وبساطة على ظهرها، الابتسامة السحرية التي لا تغادر طلعتها، العيون بنظراتها الحانية الجانية التي تصيب كل من تقع علية بالدوار وتصعد به إلى السماء، هو في الخامسة عشر من عمره، على وشك الالتحاق بالصف الأول الثانوي، هيفي الثامنة عشر وقد تركت الدراسة منذ عدة سنوات، لا يدرى لماذا يبحث عنها دائما، لماذا يتمنى أن يجدها في كل الدروب، وما سر هذا الشعور الذى يكتنف خلاياه كلما رآها أو حتى سمع صوتها، جدته العجوز التي جاوزت التسعين تسير متكئة بيسارها على عصاها العتيقة وتلف يمينها على كتفيه محتضنة عنقه، خطاها ثقيلة متعثرة، تلمحهما نادية فتتجه إليهما في خفة ودلال، تصيبه نظراتها فلا يكاد يرى من الكون سواها، تصافح العجوز وتطيب خاطرها بكلمات رقيقة صادقة، تمضى من حيث جاءت، العجوز تحتضن الصبى الحفيد بعينيها الملونتين بالزرقة والخضار، وتفاجئه: البنت دي بتحبك!

اهتز كيانه، لم يكن يدري أن العجائز يعرفون شيئا اسمه الحب، الآن فقط عرف لشعوره اسما، إنه الحب، كهذا الذى يراه في أفلام سعاد حسنى ونادية لطفى التي يشاهدها في سينما توفيق الصيفي.

عندما حضرت نادية إلى بيتهم ناقلة رسالة من أمها لأمه، طلبت من الأم طلبا تعرف أنها سوف تغيب لدقائق حتى تعده لها، هو أمامها وجها لوجه دون شريك لأول مرة، عقد الصمت لسانه، تصفحت قلبه بعينيها، قالت في دلال: مش اللي بيحب واحد يلاغيه؟ فزاد صمته عمقا.

تزوجها على الأعرج ابن الحاج دسوقي البقال هذا الأعرج ذو الوجه الكشر ماذا يفعل بها؟!

لم يكن له فيها أملا سوى أن يراها أو حتى يسمع صوتها، وعندما احتجزها الأعرج في بيته ندرت رؤيتها، وغاب صوتها، ولكنها كانت رابضة هناك ... في قلبه وخياله.

عاود الطفو حتى بلغ السطح، ولكنه لم يعد خاليا، شوق شديد لرؤيتها، أكثر من خمسين عاما بين القاع والسطح، وهي مازالت في خياله صبية.

قرر أن يتحايل ليراها ويعرف أخبارها، سافر إلى البلدة التي شهدت الحب والصبا، سيزور شقيقته التي استوطنت البلدة ولم تبرحها حتى الآن، سيستدرجها في الحديث عن الذكريات والجيران حتى يصيب هدفه وكأنه لا يقصد نادية بالذات، وليحاول أن يراها ولو خلسة، عندما استقبلته أخته تدفق بالفعل حديث الذكريات وتواردت الأسماء والروايات، وقبل أن يدرك غايته قطع حديثهما صوت مكبر الصوت في المسجد: توفيت إلى رحمة الله السيدة نادية أحمد الصياد زوجة الحاج على الأعرج وشقيقة فلان وفلان، انخلع من الوجود ولم يسمع باقي الخبر، ساد الصمت ولم يعد يدرك شيئا مما حوله، لم يستطع أن يكبح جماح دموعه فتدفقت حتى غمرت عينيه وسالت على وجهه حتى بللت لحيته، أخته تربت على كتفيه وتواسيه وتقول كلنا نعلم أنك كنت تحبها وهى كانت تحبك، كنا نقول أنها من فجرت فيك الحب، غفا رغما عنه عاود الغطس حتى وجدها كما هي في أعماق الذاكرة، يقي هناك حتى أعادوه مبتسما وقد فارق الحياة كلها.