بأى ذنب قتلوها؟

علاء عبدالكريم
علاء عبدالكريم

‭..‬حتى‭ ‬الكلمات‭ ‬التى‭ ‬نطلقها‭ ‬باللسان‭ ‬أو‭ ‬يكتبها‭ ‬المداد‭ ‬على‭ ‬الورق‭ ‬فى‭ ‬المراثى،‭ ‬تحس‭ ‬أنها‭ ‬منكسة‭ ‬الرؤوس،‭ ‬ذليلة،‭ ‬تلملم‭ ‬أطراف‭ ‬أحرفها‭ ‬وتمسح‭ ‬بالدموع‭..‬؛

وحتى‭ ‬الترنيمة‭ ‬التى‭ ‬ينشدها‭ ‬جماعة‭ ‬من‭ ‬الأتقياء،‭ ‬تشعر‭ ‬وبعد‭ ‬أن‭ ‬امتلأت‭ ‬قلوبهم‭ ‬بالحزن‭ ‬والألم‭ ‬والعزاء،‭ ‬صارت‭ ‬خطواتهم‭ ‬تتلاطم‭ ‬تتعثر‭ ‬فى‭ ‬الأجساد‭ ‬الميتة‭ ‬على‭ ‬الأرض،‭ ‬تغرق‭ ‬فى‭ ‬أنهار‭ ‬الدماء‭ ‬الذى‭ ‬امتلأ‭ ‬به‭ ‬الشرق‭ ‬الأوسط،‭ ‬فلا‭ ‬نكاد‭ ‬نودع‭ ‬شهداء‭ ‬مجزرة‭ ‬فى‭ ‬فلسطين‭ ‬حتى‭ ‬تصدمنا‭ ‬مجزرة‭ ‬أشد،‭ ‬جنازات‭ ‬اصبحنا‭ ‬نمضى‭ ‬الوقت‭ ‬فى‭ ‬رؤيتها‭ ‬وهي‭ ‬توارى‭ ‬الثرى‭ ‬وجثث‭ ‬في‭ ‬أكفانها‭ ‬تراصت‭ ‬بجوار‭ ‬بعضها‭ ‬على‭ ‬الأرض‭ ‬تنتظر‭ ‬دفنها،‭ ‬الكل‭ ‬هناك‭ ‬يهرب‭ ‬من‭ ‬الموت‭ ‬إلى‭ ‬الموت‭.‬

أى‭ ‬طوفان‭ ‬هذا‭ ‬الذى‭ ‬ظنوه‭ ‬نصرًا‭ ‬يتسبب‭ ‬فى‭ ‬مقتل‭ ‬12‭ ‬ألف‭ ‬طفل،‭ ‬أي‭ ‬طوفان‭ ‬هذا‭ ‬ونحن‭ ‬نرى‭ ‬آباءً‭ ‬وأمهات‭ ‬وهم‭ ‬يدفنون‭ ‬أطفالهم‭ ‬بأيديهم‭ ‬وتمنوا‭ ‬لو‭ ‬دفنوا‭ ‬معهم،‭ ‬ألا‭ ‬يستحقون‭ ‬الحياة؟،‭ ‬أي‭ ‬طوفان‭ ‬هذا‭ ‬بعدما‭ ‬تجاوزت‭ ‬حصيلة‭ ‬الشهداء‭ ‬30‭ ‬ألف‭ ‬شهيد‭ ‬وأكثر‭ ‬من‭ ‬100‭ ‬ألف‭ ‬جريح،‭ ‬وعشرات‭ ‬الآلاف‭ ‬لا‭ ‬يزالون‭ ‬بين‭ ‬النار‭ ‬والأنقاض‭ ‬يتم‭ ‬انتشالهم‭ ‬بصعوبة‭ ‬شديدة‭.‬

رعب‭ ‬وجحيم‭ ‬لا‭ ‬تفسير‭ ‬ولا‭ ‬مبرر‭ ‬له؛‭ ‬فهل‭ ‬ننتظر‭ ‬من‭ ‬المحتل‭ ‬الغاصب‭ ‬الرحمة‭ ‬بهم‭ ‬وهم‭ ‬قتلة‭ ‬الأنبياء؟‭!‬

من‭ ‬منا‭ ‬يستطيع‭ ‬الفرار‭ ‬من‭ ‬حكاية‭ ‬هند،‭ ‬تنزل‭ ‬دموعى‭ ‬بلا‭ ‬توقف‭ ‬حين‭ ‬اتخيل‭ ‬المسكينة‭ ‬ذات‭ ‬السنوات‭ ‬الست‭ ‬وهى‭ ‬تمسك‭ ‬بيدها‭ ‬لعبة‭ ‬متواضعة‭ ‬تأخذها‭ ‬فى‭ ‬أحضانها‭ ‬هى‭ ‬بالنسبة‭ ‬لها‭ ‬الدنيا‭ ‬وما‭ ‬فيها‭ ‬تحدثها‭ ‬فى‭ ‬براءة،‭ ‬حين‭ ‬انهمر‭ ‬رصاص‭ ‬الصهيونى‭ ‬فلم‭ ‬يخطئ‭ ‬الهدف‭ ‬على‭ ‬السيارة‭ ‬التى‭ ‬تقلها‭ ‬هند‭ ‬وقريبتها‭ ‬الصغيرة‭ ‬ويقودها‭ ‬اقرباؤها،‭ ‬انهمر‭ ‬الرصاص‭ ‬كالمطر‭ ‬على‭ ‬السيارة،‭ ‬توقفت‭ ‬السيارة‭ ‬في‭ ‬منتصف‭ ‬الشارع‭ ‬ظنًا‭ ‬من‭ ‬ركابها‭ ‬أن‭ ‬وقوفها‭ ‬سيقيهم‭ ‬الرصاص‭ ‬الذى‭ ‬يتدفق‭ ‬كالسيل،‭ ‬لكنهم‭ ‬كانوا‭ ‬المقصد‭ ‬والهدف،‭ ‬لقى‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬فى‭ ‬السيارة‭ ‬مصرعه،‭ ‬فجأة‭ ‬وجدت‭ ‬هند‭ ‬نفسها‭ ‬وقريبتها‭ ‬الصغيرة‭ ‬باقيتين‭ ‬بين‭ ‬الجثث‭ ‬فى‭ ‬السيارة،‭ ‬سقطت‭ ‬لعبة‭ ‬هند‭ ‬الفقيرة‭ ‬المتواضعة‭ ‬أشد‭ ‬التواضع‭ ‬من‭ ‬يدها‭ ‬بعدما‭ ‬تلونت‭ ‬بدماء‭ ‬من‭ ‬فى‭ ‬السيارة،‭ ‬تبكى‭ ‬هند‭ ‬بحرقة‭ ‬ومعها‭ ‬تبكى‭ ‬الصبية‭ ‬الأخرى،‭ ‬يصرخان،‭ ‬يضيع‭ ‬صدى‭ ‬الصراخ‭ ‬مع‭ ‬أصوات‭ ‬القنابل‭ ‬المنهمرة‭ ‬وطلقات‭ ‬الرصاص‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تتوقف،‭ ‬من‭ ‬يريد‭ ‬محو‭ ‬اسمهما‭ ‬وشطبهما‭ ‬من‭ ‬الحياة‭ ‬لا‭ ‬يزال‭ ‬بالقرب‭ ‬منهما‭ ‬يتلذذ‭ ‬بصراخهما‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يقتلهما‭ ‬بدم‭ ‬بارد‭ ‬أيضًا،‭ ‬هاتف‭ ‬يرن‭ ‬داخل‭ ‬السيارة،‭ ‬تلتقطه‭ ‬هند‭ ‬من‭ ‬جيب‭ ‬من‭ ‬يحمله‭ ‬تفتحه‭ ‬تصرخ‭ ‬فى‭ ‬المتصل‭ ‬تتوسل‭ ‬إليه‭ ‬أن‭ ‬ينقذهما،‭ ‬يطلب‭ ‬منهما‭ ‬المتصل‭ ‬الهدوء،‭ ‬الهلال‭ ‬الأحمر‭ ‬يوفد‭ ‬على‭ ‬وجه‭ ‬السرعة‭ ‬اثنين‭ ‬من‭ ‬رجاله‭ ‬لإنقاذ‭ ‬الصغيرتين،‭ ‬لكن‭ ‬الصهيونى‭ ‬الإرهابى‭ ‬لم‭ ‬يترك‭ ‬الفرصة‭ ‬لنجاتهما،‭ ‬سرعان‭ ‬ما‭ ‬قام‭ ‬بقنصهما‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يصلا‭ ‬إلى‭ ‬سيارة‭ ‬الصغيرتين،‭ ‬ماتت‭ ‬قريبة‭ ‬هند‭ ‬ظلت‭ ‬المسكينة‭ ‬تنزف‭ ‬حتى‭ ‬صعدت‭ ‬روحها‭ ‬البريئة‭ ‬إلى‭ ‬بارئها،‭ ‬وبقيت‭ ‬هند‭ ‬لا‭ ‬تملك‭ ‬إلا‭ ‬الدموع،‭ ‬عاشت‭ ‬أيامًا‭ ‬بين‭ ‬الجثث‭ ‬لا‭ ‬أحد‭ ‬يستطيع‭ ‬أن‭ ‬يصل‭ ‬إليها‭ ‬وينتشلها‭ ‬من‭ ‬قبرها‭ ‬هذا،‭ ‬صاحب‭ ‬النكبات‭ ‬تأكد‭ ‬أن‭ ‬الموت‭ ‬صار‭ ‬قريبًا‭ ‬منها‭ ‬فانصرف،‭ ‬نعم‭ ‬انصرف‭ ‬بعدما‭ ‬سقطت‭ ‬هند‭ ‬جثة‭ ‬بعد‭ ‬12‭ ‬يومًا‭ ‬فوق‭ ‬جثث‭ ‬من‭ ‬فى‭ ‬السيارة‭.‬

هكذا‭ ‬كانت‭ ‬نهاية‭ ‬المأساة‭ ‬تحدث‭ ‬بها‭ ‬إيهاب‭ ‬حمادة‭ ‬خال‭ ‬الطفلة‭ ‬هند؛‭ ‬‮«‬لا‭ ‬نعرف‭ ‬كيف‭ ‬استشهدت‭ ‬لأن‭ ‬كافة‭ ‬الجثث‭ ‬محللة‭ ‬ونعمل‭ ‬الآن‭ ‬على‭ ‬دفن‭ ‬رفاتهم‭ ‬على‭ ‬جانبى‭ ‬الطريق‭ ‬فى‭ ‬منطقة‭ ‬تل‭ ‬الهوى‭ ‬لصعوبة‭ ‬الوصول‭ ‬إلى‭ ‬المقابر‭ ‬فى‭ ‬ظل‭ ‬القصف‭ ‬الإسرائيلى‭ ‬العنيف‮»‬‭.‬

هل‭ ‬قتلوها‭ ‬لأنها»إرهابية‮»‬‭!‬،‭ ‬شاركت‭ ‬فى‭ ‬طوفان‭ ‬الأقصى‭!‬،‭ ‬ماتت‭ ‬من‭ ‬كان‭ ‬لها‭ ‬الحق‭ ‬فى‭ ‬الحياة،‭ ‬فى‭ ‬أن‭ ‬تمسك‭ ‬بلعبتها‭ ‬الفقيرة‭ ‬المتواضعة،‭ ‬نعم‭ ‬ببساطة‭ ‬ماتت‭ ‬مع‭ ‬قريبتها‭ ‬الصغيرة‭ ‬وأسرتيهما،‭ ‬ماتت‭ ‬من‭ ‬كان‭ ‬لها‭ ‬الحق‭ ‬فى‭ ‬أن‭ ‬تحلم‭ ‬بغد‭ ‬جميل‭ ‬فى‭ ‬مكان‭ ‬تلعب‭ ‬فيه‭ ‬بأمان،‭ ‬تذهب‭ ‬إلى‭ ‬مدرستها،‭ ‬تنام‭ ‬فى‭ ‬وداعة‭ ‬على‭ ‬قدم‭ ‬أمها؛‭ ‬وكما‭ ‬صاغها‭ ‬أحد‭ ‬الكتاب‭ ‬الكبار‭: ‬‮«‬لم‭ ‬اقرأ‭ ‬لعمالقة‭ ‬الرواية‭ ‬مشهدًا‭ ‬أكثر‭ ‬قسوة‭ ‬وإيلامًا‭ ‬من‭ ‬هذا‮»‬،‭ ‬فهل‭ ‬تهز‭ ‬قصتها‭ ‬العالم؟‭!‬،‭ ‬بأي‭ ‬ذنب‭ ‬قتلوكى‭ ‬يا‭ ‬صغيرتى؟‭!‬

لا‭ ‬أدرى‭ ‬لماذا‭ ‬ذكرتنى‭ ‬حكاية‭ ‬هند‭ ‬هذه‭ ‬بجريمة‭ ‬تجار‭ ‬الدين‭ ‬والدم،‭ ‬جماعة‭ ‬‮«‬الإخوان‭ ‬الإرهابية»؟؛‭ ‬حين‭ ‬خطط‭ ‬السندى‭ ‬لاغتيال‭ ‬السيد‭ ‬فايز‭ ‬وشقيقه‭ ‬الصغير‭ ‬بعلبة‭ ‬حلاوة‭ ‬المولد،‭ ‬ربما‭ ‬لأن‭ ‬فكر‭ ‬هذه‭ ‬الجماعة‭ ‬ومن‭ ‬على‭ ‬شاكلتها‭ ‬من‭ ‬المتسلفة‭ ‬لا‭ ‬يختلفون‭ ‬فكريًا‭ ‬وعقائديًا‭ ‬عن‭ ‬فكر‭ ‬اليهود،‭ ‬فالأثنان‭ ‬يشتركان‭ ‬فى‭ ‬شىء‭ ‬واحد؛‭ ‬هو‭ ‬سفك‭ ‬الدماء‭ ‬والإرهاب‭ ‬والخسة‭ ‬والنذالة‭.‬

فلا‭ ‬رهان‭ ‬على‭ ‬فكر‭ ‬هذه‭ ‬الجماعة،‭ ‬الذي‭ ‬هو‭ ‬بمثابة‭ ‬وضع‭ ‬السم‭ ‬فى‭ ‬الشراب،‭ ‬وعلى‭ ‬طريقة‭ ‬صانع‭ ‬السم‭ ‬لا‭ ‬يذوقه،‭ ‬فقد‭ ‬تعمدوا‭ ‬أن‭ ‬يتركوه‭ ‬للآخرين‭ ‬ليتجرعوه؛فمثلما‭ ‬انطلقت‭ ‬الصهيونية‭ ‬من‭ ‬دعوة‭ ‬توراتية‭ ‬كاذبة‭ ‬كانت‭ ‬السبب‭ ‬فى‭ ‬تعبئة‭ ‬وحشد‭ ‬اليهود‭ ‬فى‭ ‬الشتات‭ ‬وربطه‭ ‬زعمًا‭ ‬‮«‬بأرض‭ ‬الميعاد‮»‬‭ ‬والعودة‭ ‬إلى‭ ‬فلسطين‭ ‬لقيام‭ ‬الدولة‭ ‬الصهيونية؛‭ ‬نشأت‭ ‬جماعة‭ ‬الإخوان‭ ‬الإرهابية،‭ ‬وغيرها‭ ‬من‭ ‬جماعات‭ ‬الإسلام‭ ‬السياسى‭ ‬فى‭ ‬مصر‭ ‬بشعار‭ ‬رفعه‭ ‬أمير‭ ‬شجرة‭ ‬الإرهاب‭ ‬فى‭ ‬العالم‭ ‬الساعاتى‭ ‬اليهودى‭ ‬حسن‭ ‬البنا‭ ‬حين‭ ‬قال‭: ‬‮«‬الإسلام‭ ‬دين‭ ‬ودولة،‭ ‬ومصحف‭ ‬وسيف‮»‬،‭ ‬لا‭ ‬فرق‭ ‬بين‭ ‬الصهاينة‭ ‬وبينهم؛‭ ‬الأثنان‭ ‬ينتظران‭ ‬لحظة‭ ‬سانحة‭ ‬ليغرسان‭ ‬أنيابهما‭ ‬فى‭ ‬قلوب‭ ‬غضة‭ ‬بريئة‭.‬

بلا‭ ‬شك‭ ‬الفلسطينيون‭ ‬الآن‭ ‬يحبسون‭ ‬أنفاسهم‭ ‬كلهم‭ ‬أمل‭ ‬فى‭ ‬مسعى‭ ‬القاهرة‭ ‬ليل‭ ‬نهار،‭ ‬يسابق‭ ‬الزمن‭ ‬للتوصل‭ ‬إلى‭ ‬هدنة‭ ‬بغزة‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬تتحول‭ ‬رفح‭ ‬إلى‭ ‬نهر‭ ‬من‭ ‬الجثث‭.‬

;