74 عاماً على غياب مشرفة موسيقار «الذرة»ّ

د. على مصطفى مشرفة -  كامل الشناوى
د. على مصطفى مشرفة - كامل الشناوى

فى الخامس عشر من يناير 1950 رحل العالم د.على مصطفى مشرفة الملقب بـ «أينشتاين العرب» الذى وصُف بأنه واحد من سبعة علماء يعرفون أسرار الذرة، والكاتب الكبير كامل الشناوى يكشف لنا فى مقالٍ بعنوان «وضعناه فى أكبر المناصب ثم قتلناه! عن الوجه الآخر له، ونقتبس منه أهم ما به من فقرات يقول فيها:
كنت كلما صافحتُه أحسستُ أنى ألمس مجموعة من الأسلاك المكهربة، فلا أكاد أمدُّ إليه يدى حتى تنتابنى رعشة مبُهمة، لعلها رعشة الإجلال له، أو النفور منه ! فقد كان شخصية جليلة مهيبة، ومبعث إجلاله ومهابته تبحُّره فى علومٍ لا يدرك قيمتها إلا الأساتذة المتخصصون فى العلوم التى كانت حدثًا جديدًا بالنسبة إلى العصر كله، ولغزًا غامضًا بالنسبة إلى البلاد المتخلفة، عندما لقيتُ العالم المصرى الذى كان أول مَن دعا إلى وجوب التعاون العالمى لتوجيه العلماء، ونبَّهَ إلى وجود معدن اليورانيوم فى مصر، ولم يكن من اليسير على مجتمعنا المفتون بالسذاجة فى الأدب والمعرفة والفن والسياسة أن يتجاوب مع عالمٍ يحلِّق بدراساته وبحوثه فى أعلى الآفاق، فقد حاضَرَ فى منظماتٍ علمية دولية واحتلَّ اسمه مكانًا كبيرًا بين علماء الرياضة العالميين، وصارت له نظرية خاصة فى النسبية، يتعرَّض لها أساتذة الجامعات فى أوروبا وأمريكا بالمناقشة والجدل، وكان يتبادل الرسائل مع أينشتاين.


التقى كامل الشناوى بالعالم الجليل على مصطفى مشرفة لأول مرة فى منزل الزعيم مكرم عبيد، وأدهشه النقد الذى وجهه إلى مكرم عبيد بملاحظاتٍ هاجَمَ بها الأحزابَ كلها، وكان مكرم عبيد وقتها رئيسًا لحزب الكتلة، بعدما اختلف مع مصطفى النحاس رئيس حزب الوفد، وقال مكرم: « دعونا من الكلام فى السياسة، فقد اجتمعتُ بكم للاحتفال بعيد ميلادى، وأريد أن أنسى السياسة ليلة واحدة كل عام، وانطوى حديث السياسة وأخذنا نستمع للفنان محمد عبد الوهاب، وهو يؤدِّى إحدى أغنياته بالعود، واتجهتُ بكل انتباهى واهتمامى إلى هذا الوقور؛ لأعرف هل يستمتع بالغناء مثلنا ؟
كان رأسه يشبه بكرة من زئبقٍ يختلج ويتوهج بحرارة وإشعاع، كان كل ما فيه لامعًا؛ خاتمه، دبوس ربطة العنق، زِرَّا كمَّيِ القميص، نظارته، ذكاؤه الحاد، كان يتابع النغمات بنقرات أصابعه على المقعد، وبضرباتٍ خفيفة بأطراف قدميه فوق السجادة، وحسبتُ أن حركاته لا علاقةَ لها باللحن، ولما انتهى عبد الوهاب من الغناء، دنوتُ من العالِم المهيب الدكتور على مصطفى مشرفة، وسألته عن رأيه فى الأغنية التى سمعها.


فقال : الأغانى المصرية تمشى فى طريق التطوُّر.


وعدتُ أسأله : هل تهوى الموسيقى ؟
فقال : أهواها وأدرسها !
سألته : هل عندنا ألحان عالمية ؟
قال : عندنا صوت عالمى، هو صوت أم كلثوم.
قلت : ولكنك عالم متخصِّص فى أشياءَ لا تمتُّ إلى الموسيقى بصلة.
قال : فى أعماق كل عالِم فنان، هذا إذا صحَّ أنى عالِم !
ويقول كامل الشناوى: أخذتُ أتعقَّب تاريخَ حياة هذه العبقرية الفذة، ووجدتُنى أعيش فى جوٍّ ساحر يثير العجب والدهشة، فالدكتور مشرفة فرض الحديث عنه فى تلك الأيام من عام ١٩٤٨؛ فقد أقام فى مصر أول معرضٍ علمى للطاقة الذرية لقى اهتمامًا من الهيئات العلمية الدولية، وكان يشغل منصب وكيل جامعة القاهرة، ولم يكن للجامعة مدير، فكان هو مدير الجامعة بالنيابة، ثم دبَّ الخلاف بينه وبين الوزارة، فأقصَتْه عن وكالة الجامعة، وظلَّ محتفظًا بمنصبه عميدًا لكلية العلوم، ولم يكن الدكتور مشرفة يعبأ بأبهة المنصب، لكنه شعر بمرارةٍ فى إقصائه عن إدارة الجامعة، وعانى شعوره المر فى صمتٍ وكبرياء !
وُلد على مصطفى مشرفة فى ١١ يوليو ١٨٩٨، وحصل على البكالوريا «علمى» من المدرسة السعيدية عام ١٩١٤وكان أول الناجحين فى جميع المدارس، وفى عام ١٩١٧ نال إجازة المعلمين العليا، سافر فى بعثةٍ لإنجلترا ليلتحق بجامعة توتنجهام التى حصل منها على بكالوريوس العلوم 1920، وحصل من الكلية الملكية بلندن على دكتوراة الفلسفة فى العلوم ١٩٢٣، وكان أصغر عالم يحصل على الدكتوراة فى العالم عام ١٩٢٤، واشتغل بالتدريس بمدرسة المعلمين العليا، وكان أول أستاذٍ مصرى للرياضة فى كلية العلوم، وظلَّ فى منصبه عشر سنوات، وفى عام ١٩٣٦ أصبح أول عميد مصرى لكلية العلوم، وفى عام ١٩٤٦ عُيِّنَ وكيلًا لجامعة القاهرة، ثم أقصَتْه الحكومة عن هذا المنصب سنة ١٩٤٨، وظلَّ عميدًا لكلية العلوم، وللدكتور مشرفة خمسة وعشرون بحثًا فى نظرية «الكم»، ونظرية النسبية لأينشتاين، والطاقة الذرية، وقد ألَّفَ وحده ومع آخرين ثلاثة عشر كتابًا علميًّا، وهو أول عالِم مصرى دعته أمريكا رسميًّا إلى إلقاء محاضراتٍ عن الذرة فى جامعة برنستون، وأول عالِم مصرى يشترك فى الموسوعة العالمية للشخصيات العلمية طبعة نيويورك وطبعة لندن، والجديد أنه كان عالمًا فى الموسيقى؛ فهو أول مَن قام بدراسة مقارنة لاستخدام «الأوكتاف» والمقام، بين السلم الموسيقى الغربى والسلم الموسيقى الشرقى، وكان رئيسًا لأول جمعية مصرية لهواة الموسيقى والأغانى العالمية، وعضوًا فى المجلس الأعلى لشئون الموسيقى، واللجنة المصرية لتخليد ذكرى شوبان، وفى ١٦ يناير١٩٥٠ وقع الحادث الجلل، احترق الشهاب المشحون علمًا وذكاءً وعبقرية ؛ مات على مصطفى مشرفة وفى رأسه كثيرٌ من العلم، وفى نفسه كثيرٌ من الألم، فقد حزَّتْ فى نفسه محاولةُ إذلالِه بإقصائه عن منصب وكيل الجامعة، ومنعته كبرياؤه من أن يشكو، وكما عاش حياته العلمية فى هدوء، لفَظَ آخِرَ أنفاسه فى هدوء!.
كامل الشناوى
من كتاب «زعماء وفنانون وأدباء»