يحيي وجدي يكتب : « بطن الحوت ».. دراما جديدة لموضوع قديم

يحيي وجدي
يحيي وجدي

لا‭ ‬توجد‭ ‬نهاية‭ ‬لأي‭ ‬عمل‭ ‬درامي‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تعجب‭ ‬كل‭ ‬المشاهدين‭.‬

المسلسلات‭ ‬مثل‭ ‬مباريات‭ ‬كرة‭ ‬القدم،‭ ‬يتصايح‭ ‬مشاهديها‭ ‬متحدثين‭ ‬للاعبين‭: ‬أهو‭ ‬هناك‭ ‬باصي‭.. ‬باصي‭ ‬يا‭ ‬عم‭. ‬الجون‭ ‬قدامك‭ ‬يا‭ ‬بني‭ ‬آدم‭. ‬شوط‭ ‬ع‭ ‬الزاوية‭.. ‬شوط‭.‬

المسلسلات‭ ‬كذلك،‭ ‬يُحب‭ ‬المشاهد‭ ‬أن‭ ‬تنتهي‭ ‬بما‭ ‬كوّنه‭ ‬من‭ ‬علاقة‭ ‬بالأبطال،‭ ‬وقد‭ ‬يفضل‭ ‬الشرير‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬الطيب،‭ ‬أو‭ ‬ينحاز‭ ‬للانتقام‭ ‬والتنكيل‭ ‬بالشرير‭. ‬قد‭ ‬يحب‭ ‬النهاية‭ ‬السعيدة،‭ ‬أو‭ ‬التي‭ ‬تحمل‭ ‬حكمة‭ ‬وموعظة‭. ‬وقد‭ ‬منحت‭ ‬السوشيال‭ ‬ميديا‭ ‬صوتًا‭ ‬للمُشاهد،‭ ‬كل‭ ‬المشاهدين،‭ ‬ولم‭ ‬يعد‭ ‬الأمر‭ ‬يقتصر‭ ‬على‭ ‬نقاشات‭ ‬ضيقة‭ ‬مباشرة‭ ‬في‭ ‬إطار‭ ‬العائلة‭ ‬وزملاء‭ ‬العمل‭ ‬كما‭ ‬كان‭ ‬سابقًا،‭ ‬فالمشاهد‭ ‬الآن‭ ‬أصبح‭ ‬رقمًا‭ ‬معتبرًا،‭ ‬واتفاق‭ ‬شريحة‭ ‬واسعة‭ ‬على‭ ‬رأي‭ ‬في‭ ‬نهاية‭ ‬عمل‭ ‬درامي‭ ‬أو‭ ‬مستواه‭ ‬ككل،‭ ‬يؤثر‭ ‬حتمًا‭ ‬على‭ ‬العمل‭ ‬ومشاهديه‭ ‬اللاحقين‭.‬

ويبدو‭ ‬أن‭ ‬نهاية‭ ‬مسلسل‭ ‬“بطن‭ ‬الحوت”‭ ‬الذي‭ ‬تعرضه‭ ‬منصة‭ ‬“شاهد”،‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬هي‭ ‬المطلوبة‭ ‬أو‭ ‬المفضلة‭ ‬لنسبة‭ ‬غير‭ ‬قليلة‭ ‬من‭ ‬الذين‭ ‬تابعوه‭ ‬حلقتين‭ ‬بعد‭ ‬حلقتين‭ ‬كل‭ ‬أسبوع،‭ ‬كما‭ ‬كان‭ ‬تتيحه‭ ‬شاهد‭ ‬المنصة‭ . ‬أرادوا‭ ‬نهاية‭ ‬“أقوى”‭ ‬كما‭ ‬كانت‭ ‬بدايته‭ ‬المثيرة،‭ ‬كما‭ ‬لاحظت‭ ‬في‭ ‬التعليقات‭ ‬على‭ ‬الصفحات‭ ‬الفنية‭ ‬المختلفة،‭ ‬وعند‭ ‬بعض‭ ‬الأصدقاء‭.‬

“بطن‭ ‬الحوت”‭ ‬هو‭ ‬العمل‭ ‬الدرامي‭ ‬الأول‭ ‬لأحمد‭ ‬فوزي‭ ‬صالح،‭ ‬سبق‭ ‬وشارك‭ ‬بالكتابة‭ ‬فقط‭ ‬في‭ ‬مسلسل‭ ‬الحرامي،‭ ‬وعلى‭ ‬صعيد‭ ‬الإخراج‭ ‬له‭ ‬فيلمين‭.. ‬“جلد‭ ‬حي”‭ ‬و”ورد‭ ‬مسموم”‭ ‬والعملين‭ ‬ينتميان‭ ‬إلى‭ ‬السينما‭ ‬الجديدة،‭ ‬رغم‭ ‬اختلاف‭ ‬تصنيفهما،‭ ‬فالأول‭ ‬روائي‭ ‬وهو‭ ‬مأخوذ‭ ‬عن‭ ‬رواية‭ ‬للكاتب‭ ‬أحمد‭ ‬زغلول‭ ‬الشيطي،‭ ‬والثاني‭ ‬مصنف‭ ‬كوثائقي‭.‬

أقول‭ ‬الفيلمين‭ ‬ينتميان‭ ‬للسينما‭ ‬الجديدة‭ ‬على‭ ‬صعيد‭ ‬الصورة‭ ‬والرؤية‭ ‬الفنية‭ ‬الإخراجية‭ ‬والإضاءة‭ ‬وخلافه،‭ ‬وهذه‭ ‬الرؤية‭ ‬الجديدة‭ ‬التي‭ ‬جعلت‭ ‬الفيلمين‭ ‬يفوزان‭ ‬بعدة‭ ‬جوائز‭ ‬في‭ ‬مهرجانات‭ ‬مختلفة،‭ ‬كانت‭ ‬حاضرة‭ ‬وبقوة‭ ‬في‭ ‬“بطن‭ ‬الحوت”‭ ‬ومن‭ ‬اللحظة‭ ‬الأولى‭ ‬أو‭ ‬المشهد‭ ‬الأول،‭ ‬فنحن‭ ‬أمام‭ ‬صورة‭ ‬سينمائية‭ ‬في‭ ‬مسلسل‭ ‬درامي،‭ ‬وهذا‭ ‬غير‭ ‬معتاد‭ ‬لجمهور‭ ‬المسلسلات‭.‬

ينطلق‭ ‬“بطن‭ ‬الحوت”‭ ‬من‭ ‬صناعة‭ ‬وتجارة‭ ‬وتهريب‭ ‬المخدرات‭ ‬كأرضية‭ ‬أولية‭ ‬للأحداث،‭ ‬وبالطبع‭ ‬فإن‭ ‬هذه‭ ‬التجارة‭ ‬وما‭ ‬يتصل‭ ‬بها‭ ‬موضوعًا‭ ‬حاضرًا‭ ‬في‭ ‬السينما‭ ‬والدراما‭ ‬المصرية‭ ‬بشكل‭ ‬دائم‭ ‬تقريبًا،‭ ‬كعمود‭ ‬فقري‭ ‬للعمل‭ ‬أو‭ ‬هامشي‭ ‬وموازي‭ ‬للأحداث‭ ‬الرئيسية،‭ ‬غير‭ ‬أن‭ ‬فوزي‭ ‬صالح‭ ‬في‭ ‬“بطن‭ ‬الحوت”‭ ‬قام‭ ‬بزيارة‭ ‬جديدة‭ ‬لهذا‭ ‬الموضوع‭ ‬القديم،‭ ‬أو‭ ‬قدم‭ ‬دراما‭ ‬جديدة‭ ‬برؤية‭ ‬فنية‭ ‬وإخراجية‭ ‬حديثة‭ ‬لهذا‭ ‬الموضوع‭ ‬القديم‭.‬

تتمحور‭ ‬الأحداث‭ ‬حول‭ ‬الشقيقين‭ ‬“هلال”‭ ‬باسم‭ ‬سمرة،‭ ‬و”ضياء”‭ ‬محمد‭ ‬فراج،‭ ‬الأول‭ ‬هو‭ ‬الشقيق‭ ‬الأكبر‭ ‬ويتاجر‭ ‬في‭ ‬المخدرات‭ ‬وله‭ ‬نفوذ‭ ‬واسع‭ ‬في‭ ‬منطقة‭ ‬مصر‭ ‬القديمة‭ ‬التي‭ ‬تشهد‭ ‬الأحداث،‭ ‬والثاني‭ ‬يرفض‭ ‬الانخراط‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬التجارة‭ ‬ويواصل‭ ‬عمل‭ ‬العائلة‭ ‬في‭ ‬صناعة‭ ‬الفخار،‭ ‬ويحقق‭ ‬ذاته‭ ‬التي‭ ‬سحقها‭ ‬الشقيق‭ ‬الأكبر‭ ‬بإظهر‭ ‬التدين‭ ‬والانضمام‭ ‬لمجموعة‭ ‬إسلامية‭ ‬في‭ ‬المنطقة‭.‬

العلاقة‭ ‬بين‭ ‬الشقيقين‭ ‬هي‭ ‬تطوير‭ ‬درامي‭ ‬وفني‭ ‬لقصة‭ ‬قابيل‭ ‬وهابيل،‭ ‬وهي‭ ‬ليست‭ ‬القصة‭ ‬التراثية‭ ‬الوحيدة‭ ‬التي‭ ‬يستفيد‭ ‬منها‭ ‬مؤلف‭ ‬ومخرج‭ ‬المسلسل،‭ ‬ففي‭ ‬الأحداث‭ ‬المتسارعة‭ ‬حول‭ ‬هذا‭ ‬الصراع‭ ‬بين‭ ‬الشقيقين‭ ‬هناك‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬التفاصيل‭ ‬التي‭ ‬تمت‭ ‬لأساطير‭ ‬إنسانية‭ ‬كبرى‭ ‬مبثوثة‭ ‬داخل‭ ‬العمل‭ ‬وفي‭ ‬ثناياه،‭ ‬وهذه‭ ‬الاستفادة‭ ‬من‭ ‬الميثولوجيا‭ ‬الإنسانية‭ ‬ختم‭ ‬عليها‭ ‬المخرج‭ ‬بالصورة‭ ‬والإضاءة،‭ ‬حيث‭ ‬تبدو‭ ‬أغلب‭ ‬المشاهد‭ ‬وكأنها‭ ‬حلم‭ ‬أو‭ ‬رؤيا‭ ‬لنائم،‭ ‬وكذلك‭ ‬عبر‭ ‬الجرافيتي‭ ‬المرسوم‭ ‬على‭ ‬الحائط‭ ‬والمليء‭ ‬برموز‭ ‬وإشارات‭ ‬مثل‭ ‬الثعابين‭ ‬المتعانقة‭ ‬والجماجم‭.‬

السرد‭ ‬في‭ ‬المسلسل‭ ‬ليس‭ ‬تقليدية‭ ‬خطيًا،‭ ‬فالمؤلف‭ ‬يعود‭ ‬إلى‭ ‬الوراء‭ ‬في‭ ‬مدخل‭ ‬كل‭ ‬حلقة‭ ‬قبل‭ ‬التترات،‭ ‬ثم‭ ‬يبدأ‭ ‬في‭ ‬استكمال‭ ‬الزمن،‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يعود‭ ‬إلى‭ ‬نقطة‭ ‬زمنية‭ ‬أقرب‭ ‬ليفسرها‭ ‬بحدث‭ ‬حالي‭ ‬وهكذا‭.‬

هناك‭ ‬عنصران‭ ‬أيضًا‭ ‬يعكسان‭ ‬الرؤية‭ ‬الجديدة‭ ‬لهذه‭ ‬القضية‭ ‬القديمة‭ (‬تجارة‭ ‬المخدرات‭)‬،‭ ‬الأول‭ ‬العلاقة‭ ‬داخل‭ ‬حواشي‭ ‬المدينة‭ ‬الأم‭ (‬القاهرة‭) ‬وأطراف‭ ‬البلاد‭ (‬السواحل‭) ‬في‭ ‬صناعة‭ ‬وبيع‭ ‬وتهريب‭ ‬المخدرات،‭ ‬وكذلك‭ ‬العلاقة،‭ ‬وهي‭ ‬تطرح‭ ‬لأول‭ ‬مرة‭ ‬في‭ ‬الدراما‭ ‬المصرية،‭ ‬بين‭ ‬الجماعات‭ ‬الإسلامية‭ ‬التي‭ ‬خرجت‭ ‬من‭ ‬بطون‭ ‬العشوائيات‭ ‬وبين‭ ‬تجار‭ ‬المخدرات،‭ ‬والدعم‭ ‬الذي‭ ‬قدمه‭ ‬كل‭ ‬منهما‭ ‬للآخر،‭ ‬وكذلك‭ ‬ذبول‭ ‬نفوذ‭ ‬الجماعات‭ ‬المسلحة‭ ‬أمام‭ ‬جماعة‭ ‬الإخوان‭ ‬التي‭ ‬حصدت‭ ‬ثمار‭ ‬هذا‭ ‬التعاون‭ ‬ووقفت‭ ‬تشاهده‭ ‬حتى‭ ‬سقطت‭ ‬تلك‭ ‬الثمار‭ ‬في‭ ‬حجرها‭.‬

العنصر‭ ‬الثاني،‭ ‬مواقع‭ ‬التصوير‭ ‬الحقيقية‭ ‬التي‭ ‬تحرك‭ ‬فيها‭ ‬فريق‭ ‬العمل،‭ ‬ما‭ ‬أضفى‭ ‬على‭ ‬المسلسل‭ ‬جدية‭ ‬واضحة‭ ‬وواقعية‭ ‬رغم‭ ‬تمثلات‭ ‬الأسطورة،‭ ‬فالكاميرا‭ ‬تتحرك‭ ‬في‭ ‬مساكن‭ ‬وبلوكات‭ ‬الفقراء،‭ ‬ووسط‭ ‬مراكب‭ ‬التهريب‭ ‬في‭ ‬بورسعيد،‭ ‬وداخل‭ ‬قمائن‭ ‬الطوب‭ ‬ومصانع‭ ‬الفخار،‭ ‬وحتى‭ ‬النيابات‭ ‬والمحاكم‭.‬

نجح‭ ‬المخرج‭ ‬أيضًا‭ ‬في‭ ‬الاستفادة‭ ‬من‭ ‬عدد‭ ‬كبير‭ ‬من‭ ‬النجوم،‭ ‬بعضهم‭ ‬كان‭ ‬ضيف‭ ‬شرف‭ ‬لكنه‭ ‬ملأ‭ ‬مساحة‭ ‬دوره‭ ‬على‭ ‬قصرها‭ ‬الزمني‭ ‬في‭ ‬العمل‭ ‬وترك‭ ‬أثرا‭ ‬في‭ ‬المشاهد‭ ‬مثل‭ ‬أحمد‭ ‬فهمي‭ ‬وأحمد‭ ‬داش‭ ‬وأمينة‭ ‬خليل‭ ‬وزينب‭ ‬غريب‭ ‬وتامر‭ ‬حبيب‭ ‬ومجدي‭ ‬فكري‭ ‬وأحمد‭ ‬صادق‭.‬

وبالطبع،‭ ‬النجوم‭ ‬الكبار‭ ‬الذين‭ ‬أعاد‭ ‬فوزي‭ ‬صالح‭ ‬تقديم‭ ‬إمكانياتهم‭ ‬الفنية،‭ ‬عبد‭ ‬العزيز‭ ‬مخيون‭ ‬“موسى‭ ‬القزم”‭ ‬وسماح‭ ‬أنور‭ ‬“أفراح”‭ ‬وعصام‭ ‬عمر‭ ‬“بكر”‭ ‬وأسماء‭ ‬أبو‭ ‬اليزيد‭ ‬“ورد”‭ ‬ويوسف‭ ‬عثمان‭ ‬“الشيخ‭ ‬ياسر”‭ ‬وحسام‭ ‬الحسيني‭ ‬“الشيخ‭ ‬هندي”‭.‬

“بطن‭ ‬الحوت”‭ ‬خطوة‭ ‬مختلفة‭ ‬في‭ ‬طريق‭ ‬الدراما‭ ‬المصرية،‭ ‬بما‭ ‬قدمه‭ ‬من‭ ‬سردية‭ ‬ولغة‭ ‬فنية،‭ ‬لكنه‭ ‬كان‭ ‬ينقصه‭ ‬سد‭ ‬وترميم‭ ‬الثغرات‭ ‬بين‭ ‬الحكاية‭ ‬والصورة‭ ‬،‭ ‬بين‭ ‬الحوار‭ ‬والمشهد‭.‬


 

;