لا توجد نهاية لأي عمل درامي يمكن أن تعجب كل المشاهدين.
المسلسلات مثل مباريات كرة القدم، يتصايح مشاهديها متحدثين للاعبين: أهو هناك باصي.. باصي يا عم. الجون قدامك يا بني آدم. شوط ع الزاوية.. شوط.
المسلسلات كذلك، يُحب المشاهد أن تنتهي بما كوّنه من علاقة بالأبطال، وقد يفضل الشرير أكثر من الطيب، أو ينحاز للانتقام والتنكيل بالشرير. قد يحب النهاية السعيدة، أو التي تحمل حكمة وموعظة. وقد منحت السوشيال ميديا صوتًا للمُشاهد، كل المشاهدين، ولم يعد الأمر يقتصر على نقاشات ضيقة مباشرة في إطار العائلة وزملاء العمل كما كان سابقًا، فالمشاهد الآن أصبح رقمًا معتبرًا، واتفاق شريحة واسعة على رأي في نهاية عمل درامي أو مستواه ككل، يؤثر حتمًا على العمل ومشاهديه اللاحقين.
ويبدو أن نهاية مسلسل “بطن الحوت” الذي تعرضه منصة “شاهد”، لم تكن هي المطلوبة أو المفضلة لنسبة غير قليلة من الذين تابعوه حلقتين بعد حلقتين كل أسبوع، كما كان تتيحه شاهد المنصة . أرادوا نهاية “أقوى” كما كانت بدايته المثيرة، كما لاحظت في التعليقات على الصفحات الفنية المختلفة، وعند بعض الأصدقاء.
“بطن الحوت” هو العمل الدرامي الأول لأحمد فوزي صالح، سبق وشارك بالكتابة فقط في مسلسل الحرامي، وعلى صعيد الإخراج له فيلمين.. “جلد حي” و”ورد مسموم” والعملين ينتميان إلى السينما الجديدة، رغم اختلاف تصنيفهما، فالأول روائي وهو مأخوذ عن رواية للكاتب أحمد زغلول الشيطي، والثاني مصنف كوثائقي.
أقول الفيلمين ينتميان للسينما الجديدة على صعيد الصورة والرؤية الفنية الإخراجية والإضاءة وخلافه، وهذه الرؤية الجديدة التي جعلت الفيلمين يفوزان بعدة جوائز في مهرجانات مختلفة، كانت حاضرة وبقوة في “بطن الحوت” ومن اللحظة الأولى أو المشهد الأول، فنحن أمام صورة سينمائية في مسلسل درامي، وهذا غير معتاد لجمهور المسلسلات.
ينطلق “بطن الحوت” من صناعة وتجارة وتهريب المخدرات كأرضية أولية للأحداث، وبالطبع فإن هذه التجارة وما يتصل بها موضوعًا حاضرًا في السينما والدراما المصرية بشكل دائم تقريبًا، كعمود فقري للعمل أو هامشي وموازي للأحداث الرئيسية، غير أن فوزي صالح في “بطن الحوت” قام بزيارة جديدة لهذا الموضوع القديم، أو قدم دراما جديدة برؤية فنية وإخراجية حديثة لهذا الموضوع القديم.
تتمحور الأحداث حول الشقيقين “هلال” باسم سمرة، و”ضياء” محمد فراج، الأول هو الشقيق الأكبر ويتاجر في المخدرات وله نفوذ واسع في منطقة مصر القديمة التي تشهد الأحداث، والثاني يرفض الانخراط في هذه التجارة ويواصل عمل العائلة في صناعة الفخار، ويحقق ذاته التي سحقها الشقيق الأكبر بإظهر التدين والانضمام لمجموعة إسلامية في المنطقة.
العلاقة بين الشقيقين هي تطوير درامي وفني لقصة قابيل وهابيل، وهي ليست القصة التراثية الوحيدة التي يستفيد منها مؤلف ومخرج المسلسل، ففي الأحداث المتسارعة حول هذا الصراع بين الشقيقين هناك العديد من التفاصيل التي تمت لأساطير إنسانية كبرى مبثوثة داخل العمل وفي ثناياه، وهذه الاستفادة من الميثولوجيا الإنسانية ختم عليها المخرج بالصورة والإضاءة، حيث تبدو أغلب المشاهد وكأنها حلم أو رؤيا لنائم، وكذلك عبر الجرافيتي المرسوم على الحائط والمليء برموز وإشارات مثل الثعابين المتعانقة والجماجم.
السرد في المسلسل ليس تقليدية خطيًا، فالمؤلف يعود إلى الوراء في مدخل كل حلقة قبل التترات، ثم يبدأ في استكمال الزمن، قبل أن يعود إلى نقطة زمنية أقرب ليفسرها بحدث حالي وهكذا.
هناك عنصران أيضًا يعكسان الرؤية الجديدة لهذه القضية القديمة (تجارة المخدرات)، الأول العلاقة داخل حواشي المدينة الأم (القاهرة) وأطراف البلاد (السواحل) في صناعة وبيع وتهريب المخدرات، وكذلك العلاقة، وهي تطرح لأول مرة في الدراما المصرية، بين الجماعات الإسلامية التي خرجت من بطون العشوائيات وبين تجار المخدرات، والدعم الذي قدمه كل منهما للآخر، وكذلك ذبول نفوذ الجماعات المسلحة أمام جماعة الإخوان التي حصدت ثمار هذا التعاون ووقفت تشاهده حتى سقطت تلك الثمار في حجرها.
العنصر الثاني، مواقع التصوير الحقيقية التي تحرك فيها فريق العمل، ما أضفى على المسلسل جدية واضحة وواقعية رغم تمثلات الأسطورة، فالكاميرا تتحرك في مساكن وبلوكات الفقراء، ووسط مراكب التهريب في بورسعيد، وداخل قمائن الطوب ومصانع الفخار، وحتى النيابات والمحاكم.
نجح المخرج أيضًا في الاستفادة من عدد كبير من النجوم، بعضهم كان ضيف شرف لكنه ملأ مساحة دوره على قصرها الزمني في العمل وترك أثرا في المشاهد مثل أحمد فهمي وأحمد داش وأمينة خليل وزينب غريب وتامر حبيب ومجدي فكري وأحمد صادق.
وبالطبع، النجوم الكبار الذين أعاد فوزي صالح تقديم إمكانياتهم الفنية، عبد العزيز مخيون “موسى القزم” وسماح أنور “أفراح” وعصام عمر “بكر” وأسماء أبو اليزيد “ورد” ويوسف عثمان “الشيخ ياسر” وحسام الحسيني “الشيخ هندي”.
“بطن الحوت” خطوة مختلفة في طريق الدراما المصرية، بما قدمه من سردية ولغة فنية، لكنه كان ينقصه سد وترميم الثغرات بين الحكاية والصورة ، بين الحوار والمشهد.