عصير القلم

أخلاق الكلاب

أحمد الإمام
أحمد الإمام

‭..‬في‭ ‬مذكراته‭ ‬الشخصية‭ ‬التي‭ ‬نشرت‭ ‬بعد‭ ‬وفاته‭ ‬كتب‭ ‬الفنان‭ ‬الراحل‭ ‬نجيب‭ ‬الريحاني‭ ‬فصلا‭ ‬كاملا‭ ‬عن‭ ‬علاقته‭ ‬بكلبته‭ ‬المفضلة‭ ‬‮«‬ريتا‮»‬‭ ‬التي‭ ‬أهدته‭ ‬إياها‭ ‬زوجته‭ ‬بديعة‭ ‬مصابني‭ ‬واحتلت‭ ‬مكانة‭ ‬خاصة‭ ‬في‭ ‬قلبه‭ ‬حيث‭ ‬كان‭ ‬يحبها‭ ‬كابنته،‭ ‬ويراها‭ ‬أفضل‭ ‬صديقة‭ ‬له،‭ ‬وأخلص‭ ‬مخلوقة‭ ‬معه‭.‬

تفهمه‭ ‬دون‭ ‬غيره،‭ ‬وتنفذ‭ ‬طلباته‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يطلب‭ .. ‬تكفيها‭ ‬فقط‭ ‬إشارة‭ ‬منه‭.‬

ومن‭ ‬المفارقات‭ ‬العجيبة‭ ‬أنه‭ ‬توفي‭ ‬بعد‭ ‬وفاتها‭ ‬بـ3‭ ‬أيام‭ ‬وكأنه‭ ‬لم‭ ‬يتحمل‭ ‬أن‭ ‬يعيش‭ ‬بدونها‭.‬

كتب‭ ‬الريحاني‭ ‬عن‭ ‬ريتا‭ : ‬‮«‬هي‭ ‬الأنثى‭ ‬الوحيدة‭ ‬التي‭ ‬تعرف‭ ‬الوفاء‭ ‬والإخلاص،‭ ‬لأنها‭ ‬أعز‭ ‬مخلوق‭ ‬لدي‭ ‬وأقرب‭ ‬صديقاتي‭ ‬إلى‭ ‬قلبى‭ .. ‬كلبتي‭ ‬حيوان‭ ‬أتحدث‭ ‬إليه،‭ ‬يفهم‭ ‬ما‭ ‬أريد‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬أي‭ ‬إنسان،‭ ‬هي‭ ‬أليفتي‭ ‬في‭ ‬المنزل،‭ ‬وصديقتي‭ ‬في‭ ‬الشارع،‭ ‬وزميلتي‭ ‬في‭ ‬العمل،‭ ‬تشاركني‭ ‬في‭ ‬التمثيل،‭ ‬ولا‭ ‬تتعبني‭ ‬فى‭ ‬إخراج‭ ‬دورها،‭ ‬فهي‭ ‬تجيده‭ ‬ولا‭ ‬تنساه‭ ‬ولا‭ ‬تتأخر‭ ‬عن‭ ‬موعد‭ ‬العمل،‭ ‬ومن‭ ‬هنا‭ ‬كانت‭ ‬هي‭ ‬الممثلة‭ ‬الوحيدة‭ ‬التي‭ ‬أبقيت‭ ‬عليها‭ ‬من‭ ‬أفراد‭ ‬فرقتي‭ ‬وعندما‭ ‬سافرت‭ ‬إلى‭ ‬لبنان‭ ‬فارقتها‭ ‬لأول‭ ‬مرة‭ ‬في‭ ‬حياتي،‭ ‬وقد‭ ‬أصيبت‭ ‬بمرض‭ ‬من‭ ‬جراء‭ ‬حزنها‭ ‬العميق،‭ ‬وكنت‭ ‬أراها‭ ‬كثيراً‭ ‬في‭ ‬المنام‭ ‬وبعد‭ ‬عودتي‭ ‬لم‭ ‬تكد‭ ‬تراني‭ ‬بعد‭ ‬غيبة‭ ‬حتى‭ ‬وقفت‭ ‬بعيدة‭ ‬عني،‭ ‬وهي‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تتحرق‭ ‬شوقًا‭ ‬إلى‭ ‬لقائي،‭ ‬واغرورقت‭ ‬عيناها‭ ‬بالدموع‭ ‬وكأنها‭ ‬تقول‭: ‬إخس‭ ‬عليك‭ ‬يا‭ ‬خاين‭ ‬العيش‭ ‬والملح‮»‬‭.‬

كانت‭ ‬ريتا‭ ‬شرسة‭ ‬للغاية‭ ‬في‭ ‬تعاملها‭ ‬مع‭ ‬أي‭ ‬كلب‭ ‬في‭ ‬الشارع‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬عمارة‭ ‬الايموبيليا‭ ‬حيث‭ ‬نسكن‭ ‬لذلك‭ ‬أسميتها‭ ‬‮«‬ريتا‭ ‬العضاضة‮»‬‭.‬

ومن‭ ‬شدة‭ ‬شراستها‭ ‬في‭ ‬التعامل‭ ‬مع‭ ‬الكلاب‭ ‬الأخرى‭ ‬كان‭ ‬جميع‭ ‬السكان‭ ‬يتحاشون‭ ‬الخروج‭ ‬بكلابهم‭ ‬في‭ ‬نفس‭ ‬توقيتات‭ ‬نزولي‭ ‬من‭ ‬العمارة‭ ‬وعودتي‭ ‬اليها‭ ‬بعد‭ ‬انتهاء‭ ‬عملي‭ ‬بالمسرح‭.‬

وذات‭ ‬يوم‭ ‬أثناء‭ ‬دخولي‭ ‬الاسانسير‭ ‬وبصحبتي‭ ‬ريتا‭ ‬كالعادة‭ ‬فوجئت‭ ‬بوجود‭ ‬إحدى‭ ‬جاراتي‭ ‬وبصحبتها‭ ‬كلبها‭.‬

التصقت‭ ‬الجارة‭ ‬بحائط‭ ‬الاسانسير‭ ‬وهي‭ ‬تتوقع‭ ‬مذبحة‭ ‬دامية‭ ‬لكلبها‭ ‬،‭ ‬وتوترت‭ ‬أعصابي‭ ‬أيضا‭ ‬خوفا‭ ‬من‭ ‬المعركة‭ ‬المنتظرة‭ ‬،‭ ‬ولكنني‭ ‬وياللعجب‭ ‬شاهدت‭ ‬أغرب‭ ‬مشهد‭ ‬في‭ ‬حياتي‭.‬

ريتا‭ ‬تحركت‭ ‬نحو‭ ‬الكلب‭ ‬الذي‭ ‬لم‭ ‬يحرك‭ ‬ساكنًا‭ ‬وبدلا‭ ‬من‭ ‬غرس‭ ‬انيابها‭ ‬في‭ ‬جسده‭ ‬أخرجت‭ ‬لسانها‭ ‬وبدأت‭ ‬تلعقه‭ ‬بحنان‭ ‬غريب‭ ‬ثم‭ ‬جلست‭ ‬على‭ ‬الارض‭ ‬بجانبه‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬تحرك‭ ‬ساكنا‭.‬

أصابني‭ ‬المشهد‭ ‬بالذهول‭ ‬وظللت‭ ‬أتبادل‭ ‬النظرات‭ ‬الحائرة‭ ‬مع‭ ‬جارتي‭ ‬التي‭ ‬قالت‭ ‬وهي‭ ‬غير‭ ‬مصدقة‭ ‬‮«‬‭ ‬معقولة‭ ‬الكلبة‭ ‬بتاعتك‭ ‬اكتشفت‭ ‬ان‭ ‬كلبي‭ ‬أصيب‭ ‬بالعمى‭ ‬وعشان‭ ‬كده‭ ‬رفضت‭ ‬تهاجمه‮»‬‭.‬

انهمرت‭ ‬الدموع‭ ‬من‭ ‬عيني‭ ‬ولم‭ ‬أصدق‭ ‬أن‭ ‬الكلبة‭ ‬لديها‭ ‬هذه‭ ‬المشاعر‭ ‬الفياضة‭ ‬والرقي‭ ‬لدرجة‭ ‬انها‭ ‬رفضت‭ ‬مهاجمة‭ ‬خصمها‭ ‬بعد‭ ‬اكتشافها‭ ‬عجزه‭ ‬وضعفه‭.‬

بهذه‭ ‬الكلمات‭ ‬الراقية‭ ‬وصف‭ ‬الريحاني‭ ‬سمو‭ ‬أخلاق‭ ‬كلبته‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬سلوكها‭ ‬الراقي‭ ‬مدهشًا‭ ‬بالنسبة‭ ‬لي‭ ‬بنفس‭ ‬القدر‭ ‬الذي‭ ‬أدهش‭ ‬صاحبها‭ ‬الفنان‭ ‬الراحل‭.‬

للأسف‭ ‬لا‭ ‬يمتلك‭ ‬بعض‭ ‬البشر‭ ‬هذا‭ ‬النبل‭ ‬والتسامح‭ ‬في‭ ‬خصومتهم‭ ‬ولا‭ ‬يتوقفون‭ ‬عن‭ ‬توجيه‭ ‬الضربات‭ ‬لخصمهم‭ ‬حتى‭ ‬وهو‭ ‬ملقى‭ ‬على‭ ‬الارض‭ ‬يئن‭ ‬من‭ ‬شدة‭ ‬الألم‭ .. ‬لا‭ ‬يرحمون‭ ‬ضعفه‭ ‬وتوسلاته‭ .. ‬لا‭ ‬يترفعون‭ ‬عن‭ ‬مشاعرهم‭ ‬العدائية‭ ‬نحو‭ ‬خصومهم‭ ‬حتى‭ ‬لو‭ ‬أقعدهم‭ ‬المرض‭ ‬وهزمتهم‭ ‬الأيام‭ ‬والسنين‭.‬

للأسف‭ ‬بعض‭ ‬البشر‭ ‬لا‭ ‬يمتلكون‭ ‬أخلاق‭ ‬الكلاب‭ ‬بكل‭ ‬مافيها‭ ‬من‭ ‬وفاء‭ ‬وإخلاص‭ ‬نادر‭ ‬ومشاعر‭ ‬صادقة‭ ‬لا‭ ‬تتغير‭ ‬ولا‭ ‬تتلون‭ ‬مهما‭ ‬حدث‭.  ‬

;