«عندما لا يأتي المساء» قصة قصيرة للكاتب كريم سليمان متولي

كريم سليمان متولي
كريم سليمان متولي

دخل (البار) الذي اعتاد السهر فيه لعله يخرج آخر الليل مع إحداهن.

دخان السجائر يحدُّ من الرؤية، ورائحة الكحول الرخيص تشبه رائحة الموت، بل هي رائحة الموت نفسه.

فمن يرتاد مثل هذا المكان هو ميت، أو يسعى إلى الموت. نظر يمينًا ويسارًا، لم يشاهد جديدًا.نَفْس الوجوه التي اعتاد رؤيتها.

أكوام من اللحم مختلف الألوان، وإن كان الطعم واحد.نَفْس الوجوه الشاحبة التي ترتسم عليها علامات اللامبالاة وتعتليها مسحة من البلاهة نتيجة الوقوع تحت تأثير الكحول، أوظروف الحياة، أو كلاهما معًا.نَفْس (البار مان). سأل نفسه، ثم ضحك بصوت عالٍ حين أجاب نفسه:طبعًا نَفْس الرجل!أليس هو صاحب البار.هل سيطرد نفسه! ثم واصل الضحك على بلاهته.

الرجل يعرفه حق المعرفة؛ لذلك قدَّم له نفس المشروب الذي اعتاد أن يطلبه؛ (زجاجةبيرة) مصحوبة بطبق يحتوي على قطع الخضار؛(جزر وخيار وجرجير).

البارمان يرتدي قميصًاأبيض ناصع البياض، ورابطة عنق صغيرة سوداء لا تتناسب مع قذارة المكان، وتحمل عيناه نظرة لا تعني أي شيء؛ فهما عينان لرجل ميت، أو بضاعته الموتى،وعلى الرغم من ذلك يحتفظ بابتسامته التي تُظهر إحدى أسنانه الذهبية.

وبالرغم من الأضواء الخافتةإلَّا أنه استطاع أن يميزها.جالسة على إحدى الطاولات،ترتديالأسود، وينسدل على كتفيها غطاء رأس غير معقود،كأنها خلعته عنها حين قدِمت المكان، لكنها مستعدة لارتدائه حين تهم بالخروج.

تبادل معها النظرات وكأنه يسألها إن كانت وحيدة؟ لم تُجِب عن سؤاله الذي سأله لها بعينيه.لعلها لم تفهم.ولماذا هي هنا إن لم تكن تفهم لغة العيون؟لعلها واقعة تحت تأثير الكحول، أو ظروف الحياة، أو كلاهما معًا؟

أخرج من جيبه بضع ورقاتمالية وألقاها غير مبالٍ إلى البار مان الذي لم يزل محتفظًابابتسامته،وقبل أن يشكره على المبلغ الإضافي الذي يزيد علي ثمن مشروبه،أشار إليه بأصبعه نحو الرَّفِّ الذي خلفه، ففهم البار مان أنه يريد زجاجةأخرى؛ فحملها وتوجَّه نحوها، وجلس بجوارها.لم تحرِّك ساكنًا وكأنه لم يجلس.

(صفاء)هكذا أجابته حين سألها عن اسمها.لم يبالِ؛ فهو معتاد على أن تجيبه مثلها بأي اسم غير اسمها الحقيقي. قدَّمَ لها الزجاجة في إشارةأن تشربها،أزاحتها بيديها نحوه لعله يفهم أنها لاتشرب، فلم يبالِ وتجرع مافيها جرعةً واحدةً، ثم أصدر صوتًا نتيجة اختلاط الكحول بهواء المعدة،أعقبه بضحكة عالية، ثم تفحَّصها من أسفل إلىأعلى، ولم يلحظ ارتباكها.

أخرج من جيبه ورقة مالية بقيمة مئة جنيه، وألقى بها علىالطاولةفاقتنصتها، وتمتمت بكلمات لم يسمعها، لكنه فهم أنها تريد المزيد،ففكر لدقيقةبعدما أعاد تفحُّصها،ثم أخرج ورقةأخرى وألقاها إليها،ثم قام فأعاد لفَّ غطاء الرأس بعدما وضعت هيالورقةالثانية داخل ملابسها، واتجها معًا نحو الباب، وقبل أن يخرجا ألقى للبار مان ورقة مالية دون أن ينظر إليه؛ فهو لايحب النظر إلىالموتى، أو إلى من يتجار فيهم.

كانت تسير معه على استحياء، وتتلفَّت يمينًا ويسارًا، وحين أخرج مفاتيحالدراجة البخارية أشار إليها بالركوب خلفه.لم يطلب منها أن تتمسك به جيدًا، فلماذا يبالي؟

أشار إليها بألَّا تصدر صوتًاحتى لا ينتبه إليها الجيران؛ فالتزمت الصمت حتى دخلا إلىالشقة،ثم أشار إلى الحمَّام، فدخلت، ولم تمضِدقائق حتى خرجت مرتدية نفس العباءة السوداء التي كانت ترتديها، وقبل أن يقوم بتوجيه السؤال لها،أسرعت بإخراج النقود التي أعطاهاإياها حين كانا بالبار. لم يفهم لماذا أعادتها، فحين همَّأن يسألها عن السبب وجدها تبكي، وكأنها تقول لا أستطيع رغم حاجتي للمال، فسألها أَهِي المرة الأولى؟ فأجابت دون أن تتفوَّه بكلمةغيرها: (نعم).

كان تأثير الكحول قد بدأ في الزوال.فسألها: متزوجة؟أجابت بنعم، فسألها: وأين هو؟ لم تُجب، لكنَّ صَمْتَها أجاب عنها.سألها: ألديكِ صغار؟

أجابت هذه المرة بسرعة: نعم، طفلان وهما بحاجة إلى الطعام؛ قالتها وهي تبتسم لذِكر الطفلين، لكن ابتسامتها كانت ابتسامة المستجدِي، واستطردتْ قائلة: أعلمتْنِي إحدى صديقاتي أنه عندما يأتي المساء أستطيع الحصول على ما يسد جوع أطفالي،فسألها وهو يفتح لها باب الشقة: وإذا لم يأتِ المساء؟

اقرأ أيضاً|«العيادة» قصة قصيرة للكاتب حسن عبد الرحمن