التراث القبطي وعلاقته بالثقافة العربية في مصر.. قبل وبعد الإسلام

أيقونة صعود السيد المسيح إلى أعلى السموات فى كنيسة السيدة العذراء والقديس أبانوب شبين القناطر
أيقونة صعود السيد المسيح إلى أعلى السموات فى كنيسة السيدة العذراء والقديس أبانوب شبين القناطر

إن المفهوم الشائع باعتبار التراث القبطى والثقافة العربية نقيضين متصارعين ليعتبر من أكبر مشاكل الفكر والثقافة المصرية. فالمسيحيون المصريون يعتبرون الثقافة العربية دخيلة لا تنتمى للثقافة المصرية، ويربطون بينها وبين الدين الإسلامي. ونفس الأمر ينسحب على موقف المسلمين المصريين ب الثقافة القبطية. ترتب على هذه المفاهيم المغلوطة تفسخاً فى الهوية المصرية وشيوع أفكار خطيرة أقلها أن الشعب المصرى ينقسم لعنصرين وهويتين وشعبين يعيش أحدهما بجوار الآخر. كما صارت الثقافة واللغة والهوية مثار خلاف شديد وتناحر بين الفريقين.. كل منهما يحاول إثبات أولوية فى الوجود على أرض مصر، وأحقية فى ملكية الأرض والارتباط بالجذور القديمة.

أما الطرف الآخر فربما كانوا مجرد «ضيوف» استضافهم أحد الطرفين المتنازعين. وبالطبع تكون الخطوة التالية المنطقية لمثل هذا التناحر على الهوية هو الانفصال وتكوين دويلات مستقلة لكل من هاتين الهويتين والعرقين.. تماماً كما حدث ويحدث فى دول أخرى مجاورة لمصر. يسعى هذا البحث لتفنيد هذه الادعاءات الباطلة بانقسام الهويات.. ويستدعى التاريخ والتراث المشترك للمصريين لتأكيد وحدة العرق المصري، ووحدة الثقافة المشتركة لكل المصريين عبر تاريخهم الطويل قبل وبعد ظهور الأديان السماوية.

اقرأ أيضاً| قصة الميلاد فى معرضين

كما يحاول أن يعيد الاعتبار لمفهوم التراث القبطى نافياً عنه ارتباطه فقط ب المسيحيين المصريين.. لكن باعتباره تراثاً يخص كل مصري. كما تؤكد هذه الدراسة على أن المسيحيين المصريين وتراثهم الثرى جزء لا يتجزأ من الثقافة المصرية.. سواء فى صورته القبطية قبل الإسلام، أو فى إنتاجه العربى بعد الإسلام.. وأنهم قد شاركوا قبل الإسلام وبعده فى تدعيم أواصر الحضارة المصرية العريقة.

يعتقد الكثيرون أنه لاتوجد أدنى علاقة ما بين التراث المصرى القبطى عموماً مع الحضارة والثقافة العربية، بل على العكس يسود الاعتقاد بأن بينهما تنافراً وتناقضاً يصل لدرجة الصراع والتناحر (كمال فريد إسحاق، «محنة الهوية المصرية»، الكتيبة الطيبية، القاهرة، 2001، 4 وما بعدها)، والأدهى من ذلك هو ما ترتب على ذلك من ربط عقائدى تخطى حدود التناقض الثقافي، حيث أنه صار راسخاً فى الإدراك الجمعي، أنه عليك كمصرى أن تحسم أمرك بين خيارين متناقضين: إما أن تكون مسلماً مخلصاً للثقافة العربية رافضاً للتراث القبطي، أو أن تكون مسيحياً منتمياً ل الثقافة المصرية القبطية رافضاً للثقافة العربية ( الأب بيجول باسيلي، «هل رحب الأقباط بالفتح العربي؟»، الكتيبة الطيبية، القاهرة، 2007، 5).

وهنا تحديداً تبدأ واحدة من أخطر إشكاليات الثقافة المصرية التى سببت تفسخاً وانفصاماً فى الهوية لدى الكثيرين حيرة بين هويتين وانتماءين متناقضين حسبما يعتقدون خطأً إن الهوية كما يقول محمد عابد الجابرى ليست كائناً جامداً لكنها تتشكل تبعاً لعوامل عديدة.. لكن عموماً يسبقها الوجود (محمد عابد الجابري، مسألة الهوية، العروبة والإسلام.. والغرب، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2012، 10) فوجود جماعة ما فى مكان ما تحت ظروف معينة يخلق نوعاً من الهوية المشتركة التى تتعمق فى ضمائرهم، وتدفعهم نحو البحث عن صيغة مشتركة لمستقبل أفضل قائم على معطيات الحاضر والوعى بالماضى المشترك.



وعليه فالسؤال الأساسى حينئذ هو: هل كل من الثقافة القبطية والثقافة العربية فى مصر لا يجمعهما ماضٍ مشترك أو جماعة واحدة تعيش متجانسة فى نفس المكان؟ أم أنهما هويتان متناقضتان تخصان جماعتين مختلفتين لا يجمعهما أى قواسم مشتركة عرقية أو مكانية أو حتى تاريخية؟ ويمكن إضافة تساؤلات أخرى مدخلية:

كثيراً ما يوجه للباحث المسلم المهتم بالدراسات القبطية أسئلة استنكارية من نوعية: لماذا تهتم بالتراث القبطى بدلاً من اهتمامك بالتراث الإسلامى مثلاً؟

•وهل يجب على كل مصرى مسلم مخلص للثقافة العربية أن يعادى الثقافة القبطية؟ وإذا كان مسيحياً (أو لا دينياً) منتمياً وفخوراً بالثقافة المصرية القبطية فهل عليه أن يعادى ويخاصم الثقافة العربية والتراث الإسلامي؟

وهل التراث القبطى يخص المسيحيين وحدهم دون غيرهم؟

وهل يمكن تصور التراث المصرى العربى بعد الإسلام بدون مكونه القبطي؟

كما كان البعض يستغرب من ناحية أخرى متسائلاً: لماذا يظهر الأقباط والمسيحيون عموماً أمام المسلمين وكأنهم ينتمون للحضارة الغربية أكثر منهم للشرقية العربية؟ فكثير من الأسماء المسيحية تبدو غريبة على الثقافة العربية (كثيرة هى الأسماء المسيحية التى تبدو غريبة عن الأذن العربية مثل: أرمانيوس، إقلاديوس، اسطفانوس... وغيرها.).. كما أن تراثهم الدينى ولغته الغريبة «ظاهرياً» على العربية: كالقبطية والسريانية والأرمينية واليونانية وغيرها ترجح لدى العامة هذا الطرح التغريبي.

والأدهى من ذلك أن بالفعل غالبية المسيحيين لا يعتبر نفسه عربياً عرقياً وثقافياً باعتبار أن هذه العروبة تخص الجزيرة العربية فقط ولا تخص مصر (سمير خليل اليسوعي، «خصائص التراث العربى المسيحى القديم»، مجلة اللاهوت للشرق الأدنى، بيروت، العدد 2، 1982،  168.).. وهو ما يرسخه أيضاً أن كثيراً من المسلمين يحتكر العروبة لنفسه ويعتبر بالفعل أن غير المسلم من بنى وطنه غير عربي! وهنا تتعمق المأساة.. وهى الربط بين الثقافة والعقيدة.



ولمحاولة الوقوف على حقيقة هذه المسألة المعقدة، وفك الالتباس والاشتباك بين أطرافها المتداخلة يجب مبدئياً استيضاح بعض النقاط كمدخل حيوى للموضوع، يمكن تقسيم الحضارة والثقافة القبطية إلى مرحلتين أساسيتين:

المرحلة الأولى: منذ دخول المسيحية فى القرن الأول الميلادى وحتى الفتح الإسلامى فى القرن السابع الميلادى على يد عمرو بن العاص، مع ملاحظة أن مصر وقتها كانت تنقسم عقائدياً خلال هذه الفترة ما بين الثقافة المسيحية الوافدة والثقافة الوطنية الموروثة (المقريزي: تاريخ الأقباط، تحقيق: جمال أبو زيد و عابد باسيليوس، دار الحرية، القاهرة، 2010، ص ص 55 وما بعدها؛ عمر صابر عبد الجليل: تاريخ مصر ليوحنا النقيوسي، دار عين، القاهرة، 2000، ص 213.)، والتى يسميها البعض وثنية (يعتبر مسمى «العقائد الوثنية» غير دقيق.. حيث لم يعبد المصريون القدماء الأوثان أو التماثيل مطلقاً بالمعنى الشائع؛ انظر:

P. D. Scott-Moncrieff, Paganism and Christianity in Egypt, Cambridge, 1913;

Brooklyn Museum, Pagan and Christian Egypt: Egyptian Art from the First to the Tenth Century A. D, 1941.) مع ملاحظة أنه لم يكن باباوات الإسكندرية مجرد زعماء دينيين لكن قادة وطنيين لعبوا دوراً سياسياً هاماً (جورج قنواتي، المسيحية والحضارة العربية، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، بدون تاريخ، 34.). ومن خصائص هذه الحضارة أنها:

نقلت عن التراث المصرى القديم الموروث باعتبارها معبراً وجسراً بين ثقافتين: وافدة حديثة (المسيحية)، وقديمة موروثة (المصرية القديمة).

أبدعت وأضافت إلى الثقافة الموروثة ولم تستنسخها كما هى بدون وعي.

تأثرت هذه المرحلة بالثقافات الوافدة كاليونانية والبيزنطية وغيرهما (جورج قنواتي، المسيحية والحضارة العربية، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، بدون تاريخ، 34.).

حافظت على الهوية والشخصية المصرية القديمة إلى حد ما، والتى استمر كثير منها حتى اليوم كالرهبنة القبطية التى نشأت فى مصر وانتشرت منها للعالم كله (القس منسى يوحنا، تاريخ الكنيسة القبطية، مكتبة الأسرة، القاهرة، 2015، 71 ومابعدها.). وكانت سبباً مباشراً على سبيل المثال فى حفظ العديد من المهن والحرف الشعبية داخل الأديرة الباخومية (نسبة للأنبا باخوميوس مؤسس رهبنة الشركة) (متى المسكين، الرهبنة القبطية، دير أبو مقار، 2006، 37- 39.)، وكذلك الموسيقى القبطية التى عاشت فى الكنائس والأديرة وجسدت الموروث الفنى المصرى القديم (The Coptic Orthodox Liturgy of St. Basil: With Complete Musical Transcription. Compiled by: Ragheb Moftah; music transcription by: Margit Toth; text ed. By: Martha Roy, AUC Press, Cairo, 1998; Réné Ménard, ‘Une étape de l’art musical égyptien: La musique copte: Recherches actuelles’, in: Revue de Musicologie 36 (1954), 21-38.)، وكذلك اللغة القبطية التى استمرت لليوم فى الكنائس والتى ترتبط بعلاقة وثيقة بالعامية المصرية وتعتبر أساساً قواعدياً ولفظياً لها.

هذا بالإضافة للثقافة الشعبية المصرية كالموالد والاحتفالات الدينية (عصام ستاتي، مقدمة فى الفولكلور القبطي، مكتبة الأسرة، القاهرة، 2014، 111-150.)، وذلك بخلاف العديد من صفات الشخصية المصرية التى حافظت عليها الشخصية القبطية خلال هذه المرحلة كروح المرح والوسطية والتسامح والإيمان الدينى وغيرها كثيراً.

المرحلة الثانية: والتى بدأت منذ الفتح الإسلامى  وحتى اليوم، ومن أهم خصائصها امتزاج التراث القبطى المصرى الموروث بالوافد العربى الإسلامي، وهناك بالطبع العديد من النماذج على هذا الخليط الثقافى الفريد يمكن أن نكتفى منها بنموذج كاشف: وهو العامية المصرية التى هى خليط فريد بين المصرية القديمة والقبطية الموروثة (قواعدياً ولفظياً) مع العربية الوافدة (من أهم الدراسات عن علاقة العامية المصرية بالقبطية الموروثة رسالة الدكتوراه للقس شنودة ماهر (الشماس إميل ماهر سابقاً):

Emile Maher Ishak, The Phonetics and Phonology of the Boairic Dialect of Coptic and the survival of Coptic words in the colloquial and Classical Arabic of Egypt, IV Vols, Unpublished Thesis, Oxford Univ., 1975.): فالقبطية مثلاً لا تعرف نطقاً الحروف اللسانية كالذال والثاء.. لهذا أخضعت العامية المصرية اللغة العربية الوافدة للسان المصرى فأصبحت حروف مثل «ذ» و «ث» تنطق «د» و «ت».. فصار «الثعبان» ينطق فى العامية المصرية «تعبان» و «الذيل» ينطق «ديل».. وهكذا. أما قواعدياً فنذكر مثالين كنماذج: تستخدم اللغة العربية أدوات الإشارة قبل المشار إليه عكس القبطية والمصرية القديمة. لهذا فالعامية المصرية تستخدم تعبير «البنت دي» بدلاً من «هذه البنت».. أما أدوات الصلة فى اللغة العربية فهى تفرق بين المذكر «الذي» والمؤنث «التى» والجمع «الذين أو اللواتى».. عكس القبطية التى تستخدم أداة صلة واحدة لهم جميعاً. لهذا فإن العامية المصرية تأثراً بالقبطية لا تستخدم أيضاً إلا أداة صلة واحدة هى «اللى».. الراجل اللي.. والبنت اللي.. والبنات اللي.... وهكذا (عصام ستاتي، مقدمة فى الفولكلور القبطي، 261 وما بعدها).

وانطلاقاً مما سبق يمكن تعريف التراث القبطى على أنه: «كل إنتاج حضارى موروث مادى أو شفاهى على يد مصرى قبطى (مسيحى أم غير مسيحي(وثني: مجازاً) قبل الإسلام- أو مسيحى أم مسلم بعد الإسلام).. سواء كان هذا التراث دينيا أو فلسفيا أو أدبيا أو علميا.. وهو بهذا بالطبع لا ينحسر فى التراث اللاهوتى الدينى فقط..  بل كل إنتاج فكرى مصري». كما يجب أن نلفت لأمر هام جداً وهو عدم ارتباط التراث بالعقيدة الدينية، رغم أنها قد تكون أحد روافده العديدة.. لكن التراث فى النهاية شأن وطنى مرتبط بالهوية ويخص كل المصريين.. بمعنى أن التراث لا دين ولا عقيدة له.. لذا لا يجب أن نقصر التراث القبطى على المسيحيين، ولا الإسلامى على المسلمين.. وهكذا.

فاللغة والحضارة العربية مثلاً هى أسبق بالقطع فى الظهور والانتشار عن الدين الإسلامى (الأب سمير خليل اليسوعي، “خصائص التراث العربى المسيحى القديم”، مجلة اللاهوت للشرق الأدنى، بيروت، العدد 2، 1982، 188.). لكن الإسلام والقرآن الكريم تحديداً قد استخدم العربية ولم يخترعها، فأكسبها قدسيتها وخلودها. كما أن الحضارة الإسلامية بمفهومها الشامل جغرافياً أوسع من الحضارة العربية، حيث لا يمثل المسلمون العرب فى أغلب التقديرات أكثر من 20% من مسلمى العالم (http://www.pewforum.org/2015/04/02/muslims: /accessed: 6-2-2018;

الأب سمير خليل اليسوعي، «خصائص التراث العربى المسيحى القديم»، مجلة اللاهوت للشرق الأدنى، بيروت، العدد 2، 1982، 168.)، كما أن المسيحيين العرب وتراثهم يمثلون ركناً أساسياً من الإنتاج الحضارى العربى سواء الدينى أو الأدبى أو العلمى قبل الإسلام (نينا فكتورفنا بيغوليفسكيا، العرب على حدود بيزنطة وإيران من القرن الرابع إلى القرن السادس الميلادي، ترجمة صلاح الدين عثمان هاشم، الكويت، 1985،  311 وما بعدها.) وبعده. ونفس الشئ بالنسبة للمسيحية فى مصر، فهى لم تبتكر اللغة والخط القبطى فى مصر (والذى ظهر منذ القرن الثالث قبل الميلاد (هى أقدم بردية مكتوبة بكلمات قبطية ويونانية ورقمها 414 محفوظة فى متحف هايدلبرج بألمانيا.) وكتبت به نصوص دنيوية وسحرية أيضاً (Stephen Emmel, ‘Previously Unpublished Coptic Texts of Ritual Power in the Beinecke Library, Yale University’, in Marvin Meyer, Richard Smith, and Neal Kelsey (eds.), Ancient Christian Magic: Coptic Texts of Ritual Power, San Francisco, Harper San Francisco, 1994, 345–358). لكن المسيحية استخدمت القبطية وأكسبتها قدسيتها لكتابتها الكتاب المقدس والنصوص الدينية كالليتورجيتات وغيرها بالنسبة للمسيحيين المصريين.

إذن فباختصار.. إن الموقف السلبى لبعض المسلمين من التراث القبطى هو خطأ ثقافى وتاريخي، تماماً كما أن الموقف السلبى لبعض المسيحيين من التراث العربى خطأ لنفس الأسباب. وأن التنافس بين الثقافتين يرسخ لتفسخ الشخصية المصرية ويخدم أعداء المشروع المصرى لبناء المستقبل. إن تلك النظرة المزدوجة للتراثين القبطى والعربى لا تؤدى فقط إلى حالة من الانفصام والتفسخ فى الشخصية المصرية، لكنها تنسحب أيضاً إلى نتائج أكثر خطورة تتعلق بالنظرة  والتعامل السلبى مع التراث، حيث أن النظر إليهما كهويتين منفصلتين ومتناقضتين ينجم عنه بالضرورة استخدام صيغتين مختلفتين: «نحن» و«هم».. وهو المفهوم المدمر للتراث والآثار، حيث يسود مبدأ: «أن كل أصحاب عقيدة يوكل إليهم حماية وحفظ تراثهم وآثارهم»، وبذا لا تصبح حمايته وصيانته مسئولية مؤسسات الدولة. ويجب أن نضع فى الاعتبار أن هناك الكثير من الآيات القرآنية والاحاديث النبوية الصحيحة التى تأمر المسلمين على ود واحترام غير المسلمين. بل أن المسلمين الأوائل قد قدروا الثقافات المختلفة للبلاد التى دخلوها، وهذا ما ساعد على الانتشار الكبير والسريع للإسلام فى هذه البلاد. يكفينا هنا أن الامام الشافعى قد غير الكثير من أرائه وفتواه بعدما جاء إلى مصر.

التراث المسيحى وعلاقته بالثقافة العربية

مساهمات غير المسلمين فى الحضارة العربية عموماً قبل الإسلام: الناتج الحضارى للمسيحيين العرب عموماً قبل الإسلام ثابت منذ القرن الرابع الميلادي. فأقدم الكتابات العربية الشمالية مثلاً عثر عليها على أبواب الكنائس فى حلب وحران بسوريا وترجع للقرن السادس الميلادى (صلاح الدين المنجّد، دراسات فى تاريخ الخط العربى منذ بدايته حتى نهاية العصر الأموي، بيروت، دار الكتاب الجديد، 1972، 12- 22؛ جواد علي، المفصل فى تاريخ العرب قبل الإسلام،،بيروت، ط 2، 1978، ج 8،  178- 179.) كما أن الأدب العربى المسيحى فى الجاهلية يرجع لقبائل مسيحية عربية شهيرة كالغساسنة وبنو لخم (لويس شيخو، النصرانية وآدابها بين عرب الجاهلية، بيروت، 1923؛ جواد علي، المفصل فى تاريخ العرب قبل الإسلام،،بيروت، ج 10، 302-303، 310؛

amille Hechaïmé, Louis Cheikho et son livre ‘le christianisme et la littérature chrétienne en Arabie avant l’Islam’, Dar el-Machreq, Beyrouth, 1967.) وكذلك مشاهير الأطباء النصارى كالحارث بن كلدة الثقفى طبيب العرب: توفى 635 م (محمود شكرى الآلوسى البغدادي، بلوغ الأرب فى معرفة أحوال العرب، ط 2، القاهرة، 1924، ج 3،  328- 330؛ جواد علي، المفصل فى تاريخ العرب قبل الإسلام،  381- 383.)

كما تضم موسوعة جورج جراف التى نشرها بالألمانية أسماء حوالى 10 آلاف مخطوطة من الأدب العربى المسيحى وحده (. Graf, Geschichte der christlichen arabischen Literatur. Città del Vaticano, Bibliotheca Apostolica Vaticana, 1944-1953, 5 vols.) هذا بخلاف الإنتاج العلمي، واللاهوتى للمسيحيين العرب. كما أن انتشار الثقافة العربية بين المسيحيين بعد الفتوحات الإسلامية للوطن العربى وحدت مسيحيى المنطقة بعد التشتت،  فالمسيحيون العرب قبل الإسلام كانوا يتكلمون ويصلون بلغات ولهجات شتى: قبطى وسريانى وآشورى وكلدانى ومارونى ويوناني. لكن بعد انتشار العربية، تكلموا وصلوا وتفاهموا بلغة واحدة هى العربية (محمد بهجت قبيسي، ملامح فى فقه اللهجات العربيات.. من الأكادية والكنعانية حتى السبئية والعدنانية، دار شمال، دمشق، 1999، 291 ومابعده؛ مع ملاحظة أن مجمع اللغة العربية الليبى فى طرابلس ورئيسه الراحل العلامة د. على فهمى خشيم اعترف فى دراساته بالثقافات واللهجات المحلية فى الوطن العربى باعتبارها لاتتناقض مع اللغة العربية.. حيث أنها تاريخيا هى بقايا اللهجات القديمة التى تتفق بدورها مع العربية فى الأصل الواحد المشترك.. أنظر مثلاً: على فهمى خشيم وآخرون،  بحوث ندوة “الوحدة والتنوع فى اللهجات العروبية القديمة”، مركز الحضارة العربية، القاهرة، 2005.) 

•ومن ناحية أخرى فإن لهجات المنطقة تمثل ثقافة واحدة بفكر لغوى واحد: فالأكادية والكنعانية والآرامية والكلدانية والنبطية والعدنانية والمصرية (بخطوطها كالهيروغليفية والقبطية) والسيريانية والثمودية والسبئية وغيرها. ماهى إلا لغة واحدة بأنماط كتابية مختلفة وليست لغات مختلفة كما هو شائع (محمد بهجت قبيسي، ملامح فى فقه اللهجات العربيات.. من الأكادية والكنعانية حتى السبئية والعدنانية، دار شمال، دمشق، 1999، 291 ومابعدها؛ مع ملاحظة أن مجمع اللغة العربية الليبى فى طرابلس ورئيسه الراحل العلامة د. على فهمى خشيم اعترف فى دراساته بالثقافات واللهجات المحلية فى الوطن العربى باعتبارها لاتتناقض مع اللغة العربية.. حيث أنها تاريخيا هى بقايا اللهجات القديمة التى تتفق بدورها مع العربية فى الأصل الواحد المشترك.. انظر مثلاً: على فهمى خشيم وآخرون،  بحوث ندوة “الوحدة والتنوع فى اللهجات العروبية القديمة”، مركز الحضارة العربية، القاهرة، 2005.) أو على أقل تقدير إنها جميعاً أتت من لغة أم واحدة.

الأقباط ومشاركتهم فى إنجازات

 الحضارة العربية بعد الإسلام

حسم الراحل الجليل جمال حمدان إشكالية العلاقة بين الأصل المصرى (الفرعوني) والعرق العربى الوافد بقوله:” إن مصر ذات أب عربى وجد فرعوني.. والاثنان يتمتعان بأصل واحد مشترك” (جمال حمدان، شخصية مصر.. دراسة فى عبقرية المكان، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، 1970، 320.). فالعلاقة الحضارية والعرقية والتأثيرات المتبادلة بين المصريين وجيرانهم من العرب وغيرهم ثابتة أثرياً وتاريخياً وأنثروبولوجياً منذ العصور القديمة قبل الإسلام (فتحى عبد العزيز الحداد، الصلات الحضارية العربية فى العصور القديمة، هيئة الكتاب، القاهرة، 2014، 194 ومابعدها؛ سعيد بن فايز ابراهيم السعيد، العلاقات الحضارية بين الجزيرة العربية ومصر فى ضوء النقوش العربية القديمة، الرياض، 2003.) وبهذا فلم يتعرب المصريون عرقياً بعد الإسلام وتغير جنسهم.. بل الأصح أن نقول إن مصر قد تعربت فقط ثقافياً بعد دخول الإسلام، وأن العرب الفاتحين قد تمصروا عرقياً وجنسياً.. خاصة إذا عرفنا أن جيش الفاتحين كان تعداده فى حده الأقصى ما يزيد عن 15.500 ألف مقاتل (جاك تاجر، أقباط ومسلمون منذ الفتح العربى إلى عام 1922، هيئة الكتاب، القاهرة، 2010، ص 53.) فى حين كان تعداد المصريين وقتها حوالى عدة ملايين نسمة. فهل يمكن بعد هذا قبول الزعم بأن المصريين المسلمين المحدثين هم من سلالة جيوش عمرو بن العاص، وأنهم ضيوف على البلاد؟ (http://elaph.com/Web/opinion/2010/9/599262.html) بالطبع لا.. لأن الثابت كما ذكرنا أن العرق المصرى واحد، سواء كان مسيحياً أم مسلماً.

أما النظر للإسلام باعتباره ديناً وافداً، فالمسيحية هى بهذا المنطق أيضاً دين وافد على مصر، والتفرقة على أساس دينى لا يجب أن تكون واردة لأن الثقافة المصرية واحدة وهى تضم كل المصريين. ومن إنجازات التراث القبطى على سبيل المثال:

•فى مجال العمارة وأثرها على العمارة الإسلامية: أن المنبر الإسلامى فى المساجد قد تأثر فى الأساس بإنبل الكنائس، وكذلك المئذنة هى فى الأصل منارة الكنيسة ذات الأجراس، والمحراب يعادل الحنية أو التجويف فى الكنيسة، وكذلك تأثر تخطيط المساجد (صحن أوسط يحيط به أروقة أو إيوانات وتتقدمه ظلة المحراب) يطابق ما يعرف بالتخطيط البازيليكى للكنائس (فاطمة مصطفى عامر، تاريخ أهل الذمة فى مصر الإسلامية، ج 2، هيئة الكتاب، القاهرة، 2000، 109 والتى تليها.)

•فى الصناعات: كورق البردى والنسيج..اختص الأقباط واشتهروا بصناعة الكسوة الشريفة منذ عصر الفاطميين (فاطمة مصطفى عامر، تاريخ أهل الذمة فى مصر الإسلامية، 93  114) كما أن اللواء القبطى رزق الفسخانى كان مكلفاً بقيادة آخر طابور للمحمل النبوى  للكسوة الشريفة عام 1963 وسبقه فى هذا الضابط القبطى نجيب مليكة.. كما اشتهر الأقباط فى العصر الإسلامى بتمكنهم فى مجالات صناعة الأخشاب، والمعادن، وشواهد القبور وغيرها.

•المدن العربية: شارك فى بنائها الأقباط، سواء فى مصر (كالمساجد والعمارة الإسلامية: مسجد بن طولون إشراف وتصميم المهندس القبطى سعيد بن كاتب، وكانوا هم غالبية عمال عمائر مدينة الفسطاط أول عاصمة إسلامية فى مصر، أو خارج مصر: يذكر البلاذري، أن  الخليفة الأموى الوليد بن عبد الملك طلب من عامله على المدينة عمر بن عبد العزيز إعادة بناء المسجد النبوى وأن يبعث إليه الأموال ومواد البناء و 80 صانعاً من القبط المصريين لمهارتهم. كما أرسل والى مصر قرة بن شريك عمالاً أقباط لبناء مسجد دمشق (فاطمة مصطفى عامر، تاريخ أهل الذمة فى مصر الإسلامية،  110- 113.)

•فى الحياة العلمية والأدبية: كان الإمام الشافعى (فقيه الدين واللغة) يأتنس ب سرج الغول المصرى القبطى فقيه العربية ويقول «دع لى سرجاً» فيناظره ويعجب بغزارة علمه (فاطمة مصطفى عامر، تاريخ أهل الذمة فى مصر الإسلامية، 233).. كما أن عبد الملك بن مروان طلب من أخيه عبد العزيز أن يوجه لتونس ألف قبطى لإنشاء الآلات وأدوات البحر.

ساويرس بن المقفع (أول من كتب من الأقباط باللغة العربية ق. 9/ 10 م.) (Graf, Geschichte der christlichen arabischen Literatur. Città del Vaticano, Bibliotheca Apostolica Vaticana, Vol. II, 300.) وغيره من المؤلفين الأقباط مثل الواضح بن الواضح بن رجا وعبد المسيح الإسرائيلى وبطرس السدمنتى وأبو صالح الأرمنى وأولاد العسال وشمس الرئاسة أبو البركات بن كبر (Graf, Geschichte der christlichen arabischen Literatur, 18, 338, 351, 387, 438- 445;

•جورج قنواتي، المسيحية والحضارة العربية، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، بدون تاريخ، 199 ومابعدها؛ منسى يوحنا، تاريخ الكنيسة القبطية، مكتبة الأسرة، القاهرة، 2015، 379، 382، 430.).

كما أن جل المسيحيين الشرقيين يعتبرون أنفسهم ينتمون للحضارة العربية العريقة، ويرفضون الحديث عن حضارة غربية مسيحية فى مواجهة الحضارة الإسلامية،  لكونهم ساهموا فى بناء الحضارة العربية التى بدونهم لكانت مكوناتها مختلفة عما هى عليه. إذن فأقباط مصر ومسلموها من ناحية العرق هم أصلاً جنس واحد. وأما من ناحية الثقافة القبطية فهى تمثل فى الأساس امتداداً للثقافة المصرية القديمة وثيقة الصلة بالثقافة العربية منذ ماقبل الإسلام والمسيحية.

أما الثقافة العربية فهى ليست مجرد وافد حديث دخل مصر مع الإسلام.. بل لقد حدث اتصال وتبادل وتأثير حضارى كبير (اقتصادى واجتماعى وديني) بين مصر والجزيرة العربية وثقافتها قبل دخول المسيحية والإسلام مصر بقرون (سعيد بن فايز إبراهيم السعيد، العلاقات الحضارية بين الجزيرة العربية ومصر فى ضوء النقوش العربية القديمة، 111- 140.) ولهذا كان التحول للغة والثقافة العربية سلساً وسريعاً إلى حد ما. فرغم وقوع مصر تحت حكم الاحتلال اليونانى ثم الرومانى والبيزنطى لمدة تصل إلى 11 قرناً من الزمان (من الرابع ق. م. حتى السابع م.)، فلم يتحدث أهل مصر عن بكرة أبيهم لغة المحتل اليونانية أو اللاتينية، ولم يعتنقوا عقيدته التى كانت مخالفة دوماً لأهل البلاد. وعلى النقيض فقد بدأ المصريون بعد قرنين فقط من دخول الإسلام لأرضهم فى التحول الكبير للثقافة واللغة العربية، وما إن حل القرن الحادى عشر حتى أصبحت أجزاء كبيرة من أنحاء مصر تسودها اللغة العربية (ماهر أحمد عيسى، تاريخ اللغة القبطية، سلسلة كراسات قبطية، العدد السابع، مكتبة الإسكندرية، الإسكندرية، 2015،  69.) لأسباب تتعلق فى الأساس بالارتباط الوثيق تاريخياً بين ثقافتهم المحلية المصرية والثقافة العربية منذ ما قبل ظهور الإسلام (على فهمى خشيم، القبطية العربية.. دراسة مقارنة بين لغتين قريبتين شقيقتين، مركز الحضارة العربية، القاهرة، 2003.) وهو الارتباط الذى لم يقتصر على مصر فقط، بل امتد ليشمل اللغات والثقافات المحلية مع اللغة والثقافة العربية فى كافة البلدان العربية (انظر: محمد بهجت قبيسي، ملامح فى فقه اللهجات العربيات.. من الأكادية والكنعانية حتى السبئية والعدنانية، دار شمال، دمشق، 1999.) حيث يلفت الانتباه تساؤل منطقى مفاده: لماذا قبلت بعض البلدان الدين الإسلامى وحده وتمسكت بلغتها وثقافتها المحلية مثل إيران (فارس) وتركيا وغيرهما، بينما قبلت بلدان أخرى كلاً من العقيدة الجديدة واللغة العربية معاً مثل سائر الدول العربية؟ 

والإجابة بالقطع ليست بسبب ضعف الثقافات المحلية لتلك الدول العربية، أو بسبب ضغوط سياسية مارسها الحكام المسلمون بعد الفتح على تلك الشعوب كما قد يعتقد البعض. لكن بالطبع يكمن التفسير فى الروابط بل والقرابة الحضارية الوثيقة تاريخياً وجغرافياً بين الثقافات المحلية لهذه الشعوب المفتوحة والثقافة العربية التى تدثر بها الدين الإسلامى الوليد (انظر: فتحى عبد العزيز الحداد، الصلات الحضارية العربية فى العصور القديمة، هيئة الكتاب، القاهرة، 2014.) فقبلتهما معاً.

فالعروبة إذن لا تشير إلى جنسية أو عصبية، كما لا تشير إلى دين. وإنما تشير إلى ثقافة وحضارة مشتركة، وإلى تاريخ مشترك، وإلى مصير مشترك (سمير خليل اليسوعي، خصائص التراث العربى المسيحى القديم، مجلة اللاهوت للشرق الأدنى، بيروت، العدد 2، 1982،  168). وباختصار نقول إذن إن توثيق العلاقة بين التراث القبطى والحضارة العربية يؤدى إلى إثراء للفكر المسيحى وتراثه العريق المجهول بالعربية الذى يمثل تاريخياً حوالى ثلثى الفترة الزمنية التى قضتها المسيحية فى مصر منذ دخولها. بالإضافة إلى إغناء للتراث العربى المشترك بين المصريين من المسلمين والمسيحيين المادى والشفاهى لما يزيد على 14 قرناً من الزمان. أما قطيعة المسيحيين مع الثقافة العربية فلن يكون مجرد تجاهل للإسلام لكنه فى الواقع، قطيعة مع تراث لاهوتى قبطى غزير مكتوب بالعربية يعتبر فقداناً للشخصية القبطية. وقطيعة مع الذات ومع العيش المشترك مع المسلمين. بل هى مخاصمة للمستقبل وتكريساً لواقع الاحتقان البغيض بين أبناء الوطن الواحد. والأهم من ذلك تخلى عن إسهامات علمية وأدبية مسيحية ضخمة فى بناء الحضارة العربية.

وأخيراً يجدر ذكر موقف العرب والمسلمين الأوائل ورأيهم فى المصريين القبط.. حيث يذكر المقريزى نقلاً عن عبد الله بن عمرو:  «إن قبطة مصر هم أكرم الساكنين خارج الجزيرة العربية كلهم وأسمحهم يداً، وأفضلهم عنصراً. ومن أراد أن يذكر الفردوس أو ينظر إلى مثلها فى الدنيا فلينظر إلى أرض مصر حين يخضر زرعها وتنور ثمارها» (خطط المقريزي، كتاب المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار، دار التحرير، القاهرة، 1967،  45.). إن التراث المسيحيى عموماً والقبطى خصوصاً ,, تاريخياً وأثرياً، لايتعارض مع التراث العربى الإسلامي. بل على العكس تماماً، فهو تراث مصرى الأصل والطابع، عربى الهوى والثقافة. بلا أدنى تناقض أو صراع (وهو جزء من تراث المنطقة المحيطة به حضارياً.. أثر فيها وتأثر بها). والتراث القبطى أنتجه كافة المصريين، المسيحيون وغير المسيحيين (الوثنيين: مجازاً) قبل الإسلام، والمسيحيون والمسلمون بل واليهود بعد الإسلام. وعليه فعلى كل مصرى بصرف النظر عن عقيدته أن يعتز بكل من ثقافته المحلية المصرية وكذلك انتماءاته العربية معاً. وهى ليست رؤية تلفيقية مختلقة، بل حقائق منهجية مستمدة من ومبنية على اعتبارات تاريخية وأثرية. وهو اعتزاز يجب أن ينسحب على كل عربى يعانى من تفسخ وهمى مصطنع بين هويته المحلية وانتماءاته العربية. وعليه فيجب الاجتهاد فى إزالة هذا الالتباس المدمر الذى يزرع فى النفوس عداءً مصطنعاً ومواجهة واختلافاً وهمياً. وأن ندرك أن العداء عموماً بين الثقافتين: الوطنية المحلية (المصرية أو غيرها فى وطننا العربي) مع الثقافة العربية يرسخ لفقدان الهوية وانقسام المجتمع.