«الأيقونة القبطية».. قيمة جمالية وروحية| كنوز مصرية أبدعها باباوات وفنانون

من روائع التراث القبطي لفن الأيقونة
من روائع التراث القبطي لفن الأيقونة

■ كتب: رشيد غمري

◄ ازدهرت منذ القرن الـ13 وتقتنيها متاحف العالم

◄ رسمها البابوان مكاري الأول وجابرييل الثالث

◄ أشهر فنانيها إبراهيم الناسخ ويوحنا الأرمني وأنسطاسي الرومي

◄ تتعبد برسمها راهبات دير القديسة دميانة بالبراري

للأيقونة القبطية خصوصية لارتباط مصر الوثيق بالمسيحية منذ رحلة العائلة المقدسة، ودور الكنيسة المصرية في تبلور وفهم العقيدة. ومن الناحية الفنية فهى أحد امتدادات تراث مصر الإبداعى الذي تميز بالروحانية طوال أغلب مسيرته.

■ أيقونة الدفن للفنان أنسطاسي الرومي

وتاريخيا كانت الأيقونة مرآة عكست حال الأقباط فى حقب الجزر والمد والتعايش والازدهار، وهى فى المحصلة ثروة جمالية وروحية كبيرة، تستحق أن يعرفها كل مصري كجزء من رصيده الحضاري.

حملت الأيقونة القبطية العقيدة المسيحية، مشبعة بالروح المصرية، وثرية برموز دينية خاصة، لكنها قادرة على مخاطبة الوجدان الإنسانى جماليا ودلاليا، وبحس شعبى لا تخطئه العين. وهى تصور شخص السيد المسيح والسيدة العذراء فى لحظات خالدة، والرسل والقديسين فى مواقف تلخص حيواتهم، وتقدمهم كعظة للمؤمنين، كما تحفل بموضوعات الكتاب المقدس. وهى كفن تتصل بجذور الفن المصري القديم، وتلاقحاته اليونانية والهلنستية، وخصوصا وجوه الفيوم الأيقونية التى كانت توضع على وجوه التوابيت فى الحقبة الرومانية.

■ أيقونة القيامة

◄ تواصل حضاري
منذ البداية عنيت الأيقونة القبطية بإيضاح موضوعات الكتاب المقدس، وكانت ترسم بالشمع على طريقة وجوه الفيوم، وكجداريات بتقنية الفريسك حتى القرن الحادى عشر.

فى جبانة البجوات بالواحات الخارجة والتى ترجع للقرن الخامس عدد من الصلبان على شكل مفتاح الحياة «عنخ»، ما يؤكد مع العديد من الشواهد امتداد الروح المصرية فى الوجدان الشعبى على اختلاف العقائد والفترات.

وقد نقلت الأيقونات المبكرة خلال الحقب الإسلامية إلى أديرة وادى النطرون والمقار البابوية والكنيسة المعلقة وأبى سرجة وأبى سيفين والسيدة العذراء بحارة زويلة ودير سانت كاترين وأديرة وكنائس أخرى، وبعضها اقتنته متاحف عالمية. وبالإضافة لأصالة الأيقونة القبطية، فقد تلاقحت أيضا مع الفنون الكنسية لقبرص، وفينيسيا، والقسطنطينية، والإمارات الصليبية فى الشام خلال العصور الوسطى. كما اكتسبت سمات من الفن البيزنطى، خصوصا تعبيرات الوجوه من حزن وصبر وغيرها.

■ أيقونة قديمة للقديسة دميانة

◄ فن وتعبد
مورس فن الأيقونة القبطية كنوع من التعبد، حتى أن بعض البابوات رسموا الأيقونات، ومنهم البابا «مكارى الأول» في القرن العاشر، والبابا «جابرييل الثالث» فى القرن الثالث عشر، والذى كان قرن ازدهار لهذا الفن.

كما مارسه العديد من الرهبان والراهبات. ووفقا للباحث الدكتور «نادر ألفى ذكرى» فبعض تراث مصر من الأيقونات يرجع إلى القرن الخامس الميلادى، لكن أغلبه يرجع للقرنين الثامن عشر والتاسع عشر.

■ أيقونة للفنان إبراهيم الناسخ

◄ اقرأ أيضًا | المصريين الأحرار بالسويس يهنئ الكاثوليك اللاتين بعيد الميلاد المجيد ورأس السنة

وقد اشتهر عدد من فنانيها على مر تلك العصور، ومنهم الفنان «يسر بن يلج» من القرن الثانى عشر، وبغدادى أبوالسعد من القرن الثامن عشر، واهتمت الأيقونة القبطية برسم الموضوعات الكبرى كالميلاد ورحلة العائلة المقدسة والعماد والميل إلى الخلاصة الروحية ولم تغرق كغيرها فى التصوير الإسهابى الميلودرامى للعذابات والأهوال التى لاقاها القديسون كالأيقونات الغربية.

■ أيقونة للفنان جورج ناعوم في إبراشية فرنسا

وهى لا تلتزم بالواقعية ولا حدود الزمان والمكان، حيث يمكن أن يجتمع فيها أشخاص يفصل بينهم قرون عديدة، فالمقصود هو حياتهم الروحية غير المقيدة بالزمن والمتجاوزة للقوانين الأرضية. ويتسم منظورها بالمرونة، وتختلف الأحجام داخلها وفق الأهمية الرمزية، وليس البعد والقرب فى المنظور الواقعى.

كما لم تقم بتذهيب الأجسام برقائق المعدن النفيس كالفن البيزنطى، وقصرته على الخلفية السماوية والهالات النورانية.

وللألوان دلالات فى هذا الفن فالذهبى مُلك ونور إلهى وملكوت سماوى، والأبيض نقاء وغلبة ونصرة للخير، والأحمر تضحية وخلاص ومجد وسلطان، والأزرق صفاء وطهارة وهو بدرجاته يمثل «الماندورلا» أى العالم العلوى، بما فيها من سماوات متعددة. كما يعبر الأسود عن عالم الواقع والعدالة، والبنى للأرض والجسد. 

■ رسم جداري من القرن السادس بالمتحف القبطي

◄ تاريخ حافل
امتد تاريخ الأيقونة القبطية طوال ألفى سنة، وشهد حقبا من الازدهار مثل القرن 13 والقرنين الـ18 والـ19، بينما تراجع خلال الفترة من القرنين الـ14، والـ17. وغالبا ما ارتبط الأمر بأحوال الأقباط صعودا وهبوطا على المستويات السياسية والاقتصادية.

ويعتبر الفنان إبراهيم الناسخ واحدا من أشهر رسامى الأيقونة القبطية على مر العصور. وقد عاش خلال القرن الثامن عشر بحارة الروم بالدرب الأحمر. وقام بإعادة رسم أيقونات أثرية قديمة مثل العذراء تحمل الطفل وعماد المسيح بكنيسة العذراء الدمشيرية بمصر القديمة. وله ثمانى أيقونات بالمتحف القبطى، واحدة منها موقعة بالحروف القبطية، وسبع بالحروف العربية. ومنها أيقونة للقديسة دميانة والراهبات، وأيقونة تتسم بالغرابة لشخصين برأسى حيوان محاطين بهالة القداسة، وهو أمر غير مألوف، ويذكرنا ببعض الرسوم المصرية القديمة.

وهى منسوخة على الأغلب من أيقونة ترجع إلى القرن الخامس الميلادى، استنادا للملابس بها. وكتب عليهما «أهرقاس وأوغنى رءوس الكلاب» وهما اسمان وردا فى مخطوطة تحدثت عن الشهيد «أبى سيفين» ومعجزته فى هداية قوم من آكلى لحوم البشر، والذين رسموا على هذه الهيئة تذكيرا بماضيهم. وهو يذكر بأيقونة بيزنطية قديمة صورت القديس «كريستوفر» على نحو مشابه حيث كان ينتمى قبل الهداية إلى قوم من أكلة لحوم البشر. وأيضا بأيقونة القديس «أندراوس» بكنيسة السيدة العذراء بدير السيريان، حيث يقف شخصان بهذه الهيئة أمام القديس، ولكن دون هالتى التقديس. 

■ سقف الكنيسة الأثرية بدير الأنبا أنطونيوس من مواقع التواصل

اكتسب الناسخ لقبه من عمله فى نسخ المخطوطات إلى جانب الرسم والزخرفة. وغالبا ما يرتبط اسمه باسم رسام آخر معاصر له وهو «يوحنا الأرمنى» والذى اشترك معه فى رسم العديد من الأيقونات مثل السيدة العذراء تحمل السيد المسيح على حجاب الهيكل الأوسط المطعم بالعاج بكنيسة العذراء الدمشيرية، وعلى جانبيها أيقونات لاثنى عشر رسولا. وكان هذا الفنان قد نشأ فى القدس، واطلع على الفن البيزنطى فى كنيستى يوحنا المعمدان والقيامة وغيرهما، ما أثرى رؤيته.

كذلك تأثر بالفن الأرمينى بسبب أصول أم زوجته. وتميز بغزارة الإنتاج منذ تتلمذه على يد «الناسخ، وعاش بمنطقة المغربلين، بجوار جامع الصالح طلائع، حيث كان بيته وورشته. وله أعمال بالعديد من الكنائس وبالمتحف القبطى، وعشرات الأيقونات المشتركة مع «الناسخ»، أشهرها «المسيح الجالس على العرش» بالمتحف القبطى. وترك 115 أيقونة رسمها بمفرده أشهرها للقديس «مارمينا».

وتزين العديد من أعماله الكنيسة المعلقة بالفسطاط. ولا يمكننا أن نغادر القرن الثامن عشر دون الإشارة إلى القمص «مارقريوس جرجس» كاهن كنيسة «أبى سيفين» بمصر القديمة، والذى كان أحد راسمى الأيقونات وناسخى المخطوطات خلال النصف الثانى من ذلك القرن. 

■ قبة من دير الأنبا بولا من مواقع التواصل

◄ تواصل
يعتبر الفنان «أنسطاسي الرومي» من أواخر الكبار المحافظين على التقاليد القديمة للفن. وقد عاش فى القرن التاسع عشر، ومثل يوحنا الأرمنى أتى من القدس، وتميز بإنتاجه الوفير، وكان مقربا للبابا كيرلس الرابع. وقع أعماله بالعربية مع تاريخ رسمها. وله أيقونات فى أغلب الكنائس والأديرة، ومنها دير المحرق، وكنيسة العذراء الدمشيرية، وكنيسة العذراء بدير السريان، ودير العذراء بجبل الطير. وإمعانا فى التواضع وقع بعض أيقوناته باسم «الحقير أنسطاسى الرومى المصوراتى القدسى» كما فى أيقونة القديس أبانوب بكنيسة سمنود، وبعض أيقونات كنيسة العذراء بحارة زويلة. واهتم برحلة العائلة المقدسة إلى مصر، والأماكن التى مرت بها.

■ من سقف كنيسة دير الأنبا أنطونيوس من مواقع التواصل

ولم ينقطع العطاء عن فن الأيقونة القبطية حيث عرف عدد من الفنانين فى العصر الحديث أتقنوا هذا الفن وبرعوا فيه، ومنهم مارجريت نخلة، ويوسف جرجس عياد، وفيكتور فاخورى، وحنا سعيد، ومجدى وليام، وعادل نصيف، وجرجس لطفى، وسميرة لمعى، وإرميا القطشة، وراهبات مرسم دير القديسة دميانة بالبرارى. والزوجان الراحلان بدور لطيف، ويوسف نصيف اللذان أشاد بعملهما البابا شنودة.

وكذلك الدكتور «إيزاك فانوس» الذى رسم العديد من الأيقونات داخل مصر وخارجها، والفنان جورج نعوم.
يمثل فن الأيقونة تراثا مصريا، يحتاج إلى اهتمام عام وتعريف لعموم المصريين، وهو الأنسب لدعم مسار رحلة العائلة المقدسة من خلال أعمال فنية تذكارية للسائحين. وهو حلقة مهمة ضمن مسيرة الفن المصرى، ويحمل من القيم الجمالية والروحية ما يستحق الاعتزاز.