عصير القلم

مستشفى أكتوبر العام ..الداخل مفقود

أحمد الإمام
أحمد الإمام

‭  ‬قادتني‭ ‬الصدفة‭ ‬إلى‭ ‬مستشفى‭ ‬اكتوبر‭ ‬العام‭ ‬الأسبوع‭ ‬الماضي‭ ‬عندما‭ ‬تعرض‭ ‬نجلي‭ ‬لإصابة‭ ‬في‭ ‬وجهه‭ ‬أثناء‭ ‬تواجده‭ ‬في‭ ‬الجامعة‭ ‬التي‭ ‬يدرس‭ ‬بها‭ ‬بمدينة‭ ‬السادس‭ ‬من‭ ‬اكتوبر‭.‬

تلقيت‭ ‬اتصالا‭ ‬من‭ ‬زملائه‭ ‬بما‭ ‬حدث‭ ‬وقيامهم‭ ‬بالتوجه‭ ‬إلى‭ ‬مستشفى‭ ‬اكتوبر‭ ‬العام‭ ‬للكشف‭ ‬عليه‭ ‬وعلاج‭ ‬الجرح‭ ‬في‭ ‬وجهه‭.‬

تحركت‭ ‬مسرعًا‭ ‬للحاق‭ ‬بهم‭ ‬في‭ ‬المستشفى‭ ‬وعند‭ ‬وصولي‭ ‬اكتشفت‭ ‬انهم‭ ‬على‭ ‬مدار‭ ‬ساعة‭ ‬كاملة‭ ‬لم‭ ‬يتمكنوا‭ ‬من‭ ‬توقيع‭ ‬الكشف‭ ‬على‭ ‬المصاب‭ ‬لعدم‭ ‬وجود‭ ‬أطباء‭ ‬في‭ ‬الطوارئ‭!‬

دخلت‭ ‬المستشفى‭ ‬وفوجئت‭ ‬بما‭ ‬لا‭ ‬عين‭ ‬رأت‭ ‬ولا‭ ‬أذن‭ ‬سمعت‭ .. ‬فوضى‭ ‬شاملة‭ ‬غير‭ ‬مسبوقة‭.‬

سألت‭ ‬عن‭ ‬مدير‭ ‬المستشفى‭ ‬وأجابوني‭ ‬بأنه‭ ‬غير‭ ‬موجود‭ .. ‬فقلت‭ ‬بمنتهى‭ ‬حسن‭ ‬النية‭ ‬‮«‬‭ ‬طب‭ ‬فين‭ ‬نائب‭ ‬المدير‭ ‬أو‭ ‬رئيس‭ ‬قسم‭ ‬الطوارئ‭ ‬أو‭ ‬أي‭ ‬مسئول‭ ‬بالمستشفى‭ ‬ممكن‭ ‬اتكلم‭ ‬معاه‭ ‬‮«‬‭.‬

كانت‭ ‬الاجابة‭ ‬ابتسامة‭ ‬ساخرة‭ ‬من‭ ‬الممرضة‭ ‬المتواجدة‭ ‬بمكتب‭ ‬التمريض‭ ‬وقالت‭ ‬‮«‬‭ ‬دور‭ ‬عليهم‮»‬‭.‬

سألتها‭ ‬هل‭ ‬من‭ ‬المنطق‭ ‬أن‭ ‬أبحث‭ ‬عن‭ ‬أي‭ ‬مسئول‭ ‬في‭ ‬المستشفى‭ ‬أم‭ ‬أن‭ ‬الطبيعي‭ ‬يحتم‭ ‬أن‭ ‬يتواجد‭ ‬كل‭ ‬مسئول‭ ‬في‭ ‬مكتبه‭ ‬أو‭ ‬مكان‭ ‬عمله‭ ‬يؤدي‭ ‬واجبه‭ ‬وخاصة‭ ‬إذا‭ ‬كان‭ ‬عمله‭ ‬متعلق‭ ‬بحياة‭ ‬بشر‭.‬

أجابتني‭ ‬الممرضة‭ ‬ببرود‭ ‬‮«‬‭ ‬وانا‭ ‬مش‭ ‬شغلتي‭ ‬اني‭ ‬ادور‭ ‬لك‭ ‬عليهم‮»‬‭.‬

تجاهلت‭ ‬برودها‭ ‬وسخافتها‭ ‬وبحثت‭ ‬عن‭ ‬سرير‭ ‬أو‭ ‬حتى‭ ‬كرسي‭ ‬يرتاح‭ ‬عليه‭ ‬المصاب‭ ‬دون‭ ‬جدوى‭.‬

سألت‭ ‬عن‭ ‬طبيب‭ ‬جراح‭ ‬ليفحص‭ ‬المصاب‭ ‬ولكنني‭ ‬كنت‭ ‬أشبه‭ ‬بمن‭ ‬يبحث‭ ‬عن‭ ‬ابرة‭ ‬وسط‭ ‬كومة‭ ‬قش‭!‬

علمت‭ ‬منهم‭ ‬أن‭ ‬هناك‭ ‬طبيبا‭ ‬جراحا‭ ‬واحدا‭ ‬موجودا‭ ‬في‭ ‬المستشفى‭ ‬ولكن‭ ‬مكان‭ ‬تواجده‭ ‬يعتبر‭ ‬لغزا‭ ‬عميقا‭ ‬أصعب‭ ‬من‭ ‬ألغاز‭ ‬نيللي‭ ‬وشريهان‭. ‬

وظللنا‭ ‬نبحث‭ ‬عنه‭ ‬لمدة‭ ‬نصف‭ ‬ساعة‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬عثرنا‭ ‬عليه‭ ‬بالمصادفة‭ ‬وهو‭ ‬يتجول‭ ‬في‭ ‬طرقات‭ ‬المستشفى‭.‬

وفحص‭ ‬المصاب‭ ‬على‭ ‬الواقف‭ ‬في‭ ‬الطرقة‭ ‬وطلب‭ ‬منه‭ ‬الانتظار‭ ‬لحين‭ ‬العثور‭ ‬على‭ ‬سرير‭ ‬شاغر‭ ‬لخياطة‭ ‬الجرح‭.‬

سألته‭ ‬عما‭ ‬إذا‭ ‬كانت‭ ‬الخياطة‭ ‬ستترك‭ ‬أثرًا‭ ‬في‭ ‬وجهه‭ ‬فأكد‭ ‬عدم‭ ‬وجود‭ ‬خياطة‭ ‬تجميلية‭ ‬بالمستشفى‭.‬

وهنا‭ ‬كان‭ ‬فصل‭ ‬الختام‭ ‬في‭ ‬رحلتنا‭ ‬القاسية‭ ‬داخل‭ ‬مستشفى‭ ‬اكتوبر‭ ‬العام‭ ‬وهي‭ ‬تجربة‭ ‬مريرة‭ ‬بكل‭ ‬ما‭ ‬تحمله‭ ‬الكلمة‭ ‬من‭ ‬معان‭.‬

لا‭ ‬وجود‭ ‬لأبسط‭ ‬الإجراءات‭ ‬الاحترازية‭ ‬المتعلقة‭ ‬بالنظافة‭ ‬والامان‭ ‬ناهيك‭ ‬عن‭ ‬الفوضى‭ ‬العارمة‭ ‬داخل‭ ‬المستشفى‭ ‬وغياب‭ ‬الاطباء‭ ‬والمسئولين‭.‬

أشك‭ ‬أن‭ ‬هناك‭ ‬زيارات‭ ‬مفاجئة‭ ‬من‭ ‬جانب‭ ‬مسئولي‭ ‬وزارة‭ ‬الصحة‭ ‬لهذا‭ ‬المستشفى‭ ‬وإلا‭ ‬كان‭ ‬هناك‭ ‬قرار‭ ‬بإغلاقه‭ ‬منذ‭ ‬سنوات‭.‬

شكرًا‭ ‬للصدفة‭ ‬الني‭ ‬قادتني‭ ‬الى‭ ‬هناك‭ ‬ومنحتني‭ ‬تجربة‭ ‬واقعية‭ ‬لم‭ ‬أكن‭ ‬أحلم‭ ‬بها‭ ‬لأرى‭ ‬بعيني‭ ‬ما‭ ‬يتعرض‭ ‬له‭ ‬المرضى‭ ‬وذويهم‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المكان‭ ‬الذي‭ ‬يحمل‭ ‬مجازًا‭ ‬اسم‭ ‬مستشفى‭.‬

واصطحبت‭ ‬نجلي‭ ‬وتوجهت‭ ‬الى‭ ‬مستشفى‭ ‬خاص‭ ‬لعلاج‭ ‬جرحه‭ ‬وتساءلت‭ ‬بمرارة‭ ‬بيني‭ ‬وبين‭ ‬نفسي‭ ‬عن‭ ‬موقف‭ ‬أي‭ ‬مريض‭ ‬آخر‭ ‬لا‭ ‬يمتلك‭ ‬القدرة‭ ‬على‭ ‬التوجه‭ ‬إلى‭ ‬أي‭ ‬مستشفى‭ ‬خاص‭.‬

هناك‭ ‬جهود‭ ‬كبيرة‭ ‬تبذلها‭ ‬الدولة‭ ‬لرفع‭ ‬كفاءة‭ ‬المنظومة‭ ‬الصحية‭ ‬بشكل‭ ‬كامل‭ ‬ولكن‭ ‬هذه‭ ‬الجهود‭ ‬يهدرها‭ ‬بعض‭ ‬صغار‭ ‬الاطباء‭ ‬المسئولين‭ ‬عن‭ ‬إدارة‭ ‬هذه‭ ‬المستشفيات‭.‬

ولا‭ ‬أريد‭ ‬أن‭ ‬اسمع‭ ‬العبارات‭ ‬السخيفة‭ ‬اياها‭ ‬من‭ ‬عينة‭ ‬تدني‭ ‬الرواتب‭ ‬وضعف‭ ‬الامكانات‭ ‬،‭ ‬فهناك‭ ‬مستشفيات‭ ‬حكومية‭ ‬اخرى‭ ‬يتقاضى‭ ‬الاطباء‭ ‬العاملون‭ ‬بها‭ ‬نفس‭ ‬الرواتب‭ ‬ويعملون‭ ‬بنفس‭ ‬الإمكانيات‭ ‬ومع‭ ‬ذلك‭ ‬يؤدون‭ ‬عملهم‭ ‬بكفاءة‭ ‬واتقان‭ ‬وضمير‭ ‬يقظ‭ ‬ابتغاء‭ ‬وجه‭ ‬المولى‭ ‬سبحانه‭ ‬وتعالى‭.   ‬


 

;