قلب وقلم

عبد الهادي عباس يكتب: مكاتب تحفيظ الفيزياء!

عبد الهادي عباس
عبد الهادي عباس

من حقنا أن نتساءل عن انجراف الذهنية العلمية في الأمة العربية في مقابل التركيز على الأدبيات الدينية والإنسانية وكأنها المنهاج الوحيد الصالح للحياة العربية التي اعتادت على تداول اللمحات القرآنية الخاطفة وأبيات الشعر الرائقة؛ إذ اللغة العربية فاتنة للقلوب بأسلوبها الموسيقي الساحر؛ غير أن ذلك يدفع دائمًا إلى تساؤل يكدّ ذهني منذ الصغر رغم أنه يصطدم بواقع خبا وهجه هو الآخر، وهو: لماذا نحمل ذلك الاهتمام الغامر بتلقين أبنائنا القرآن الكريم والعلوم الدينية دون باقي العلوم الأخرى؛ بل إنه حتى في هذا العصر يُطلق لفظ العالم عندنا على الدارس للعلوم الشرعية فقط؛ وكأنه الوحيد الذي يستحق التبجيل والتقدير بحكم أن ما يدرسه مُقدّس ومُبجّل، ومن ثم يُضفي على متلقيه أنوار القداسة والتبجيل!

في محافظة المنوفية، حيث نشأتُ، التعليم عامة، وحفظ القرآن خاصة، خط أحمر وأولوية قصوى تحرص عليها العائلات كلها، صغيرها وكبيرها، فليس هناك مجال للتراخي فيه أو التكاسل عنه؛ ليس لأنه مقياس لمكانة الفرد الاجتماعية فقط، بل لأنه الباب الوحيد نحو المستقبل، إذ لا تسمح مساحة الأرض الزراعية الضيقة سوى بعمل فرد أو اثنين فقط والباقي يجتهدون في التعليم الذي هو المنجاة لهم من غوائل المستقبل؛ غير أنني كنتُ أتساءل: لماذا لا توجد مكاتب لتدريس الفيزياء والأحياء والرياضيات، مثلما توجد مكاتب لتحفيظ القرآن مثلًا؟ بل إن هذا السؤال لا يزال يؤرقني حتى الآن وأنا أبحث لابني عن مكان جيّد يتعلم فيه هذه العلوم بصورة منهجية تُقربه منها وتقربها منه، بعيدًا عن كلاسيكيات المدرسة وروتينها المملّ وامتحاناتها المرعبة؟! لماذا لا تنتشر في القرى أكاديميات للتدريب على أسس الفيزياء والأحياء والخوارزميات، ولو في مكان مخصص بمراكز الشباب وبدورات مجانية أو بأثمان زهيدة، مثلما تنتشر حلقات تعليم الرسم والدومينو وأكاديميات كرة القدم التي أسهمت- بلا شك- في تفريغ طاقات الشباب وزيادة لياقتهم البدنية، ولكنها قلبت أولوياتهم أيضًا وأغرقتهم في بحار من العصبية الممقوتة؟!

مبكرًا جدا انتبه المفكر البريطاني (سي بي سنو) إلى الغرق في لجة الدراسات الإنسانية على حساب العلوم التجريبية، وألقى خطابًا في 7 مايو 1959م بكامبريدج وتم نشره بعد ذلك بعنوان: (الثقافتان والثورة العلمية)، وصار أحد أشهر مئة كتاب عالمي؛ وملخص رأيه: أنك إذا سألت عددًا من الناس عن الكتب التي قرأها لشكسبير مثلًا فستجد ردودًا كثيرة ومتباينة؛ لأن الناس تعرف شكسبير وتعرف كتبه؛ بخلاف إذا ما سألتهم عن القانون الثاني للديناميكا الحرارية، أو قانون الكتلة، أو التسارع مثلًا، فإن واحدًا من عشرة أشخاص هو الذي سيفهم أنك تتحدث اللغة نفسها!

هذا حال مفكر ينعى على بلده، الذي هو أحد أبرز الدول العالمية في التقدم العلمي والتكنولوجي، اهتمامه الكبير بالدراسات الإنسانية على حساب العلوم، ويدعوه إلى تعديل هذا الخلل؛ فماذا نصنع نحن والخلل موجود في الناحيتين: الإنسانية والعلمية؟ ولماذا لا نركز على رواد العلم التجريبي العربي، مثل: ابن سينا وابن الهيثم والخوارزمي والبيروني، ومئات غيرهم، ليكونوا القدوة في الجمع بين الفقه والتجريب، بين المعمل وحلقات الذكر، بين مكاتب تحفيظ القرآن ومكاتب تدريس الفيزياء؛ وأعتقد أن كتاتيب القرى قديمًا كان تُدرس الحساب مع القرآن في لوح واحد.

إننا نحتاج إلى حملات توعية مشتركة من رجال الدين والمثقفين والرياضيين لتوجيه أبنائنا إلى الدراسات العلمية منذ الصغر، حتى لا يجدوا هذا العنت عند دراستها في المدارس؛ وعندها ربما نجد أجيالًا جديدة تسري العلوم في دمائها فتخترع، وتصنّع، وتُصدّر، مثلما نرى أطفال الصين واليابان.