«يوم شوربة عدس».. قصة قصيرة للكاتب محمد كمال سالم

محمد كمال سالم
محمد كمال سالم

هدير  ماء البحر، أمواج تتلاحق، موسيقى حالمة تدغدغ أذني ومشاعري، أفتح عيني بصعوبة، أحاول أن أنتبه ماهذا؟

آااه

إنه منبه التليفون، يبدو أني ضبطته أمس، رحم الله منبهنا القديم في بيت العائلة، كان يخلعني ويبعثرني أشلاء في الغرفة، وكنت أعاني حتى ألملمها من جديد.

لماذا إذاً ضبطت هذا المنبه بدري هكذا، لماذا؟!

آاااه؛ ياخبر!

إنها جنازة ابنة عمي، أبلغوني بها مساء رحمها الله، لابد أن أتحرك سريعا.

السيارة الأجرة تطوي الأرض طيا، وأنا أراقب الطريق شارد الذهن، وكأني لم أطوه ألف مرة، أفكر في بنت عمي هذه التي لم أرها في حياتي ولا مرة، وهذه المفارقة العجيبة، وترتيب القدر أول لقاء بيننا، بالتأكيد لم أكن أنا أو هي المسئولين عن ذلك؛ سامحهم الله كيف سمحوا لهذا أن يحدث، وتحت أي من المبررات؛ فعلوا هذا بأبنائهم؟!

انتهينا من إجراءات الدفن، بعد أحضان الشوق بين أفراد العائلة ودموع وبعض من الذكريات الشاحبة والدعاء لميتنا ولمن سبقهم من العائلة، وافترقنا على وعد ككل مرة؛ بألا ننتظر ميتا جديدا من بيننا حتى نلتقي.

 

شعرت للحظات في طريق عودتي، أني تُهتْ في المقابر وفقدت الطريق، وتجمع سحاب أسود ثقيل في السماء، مما جعلني أشعر بالخوف، لما وجدتني وحيدا بين شواهد القبور يصفر في أذني ضجيج الموت ونذير مطر قريب.

اهتديت إلى ان أبحث في جوجل، فقط أكتب شارع صلاح سالم، الإشارة ضعيفة وأنا أنظر لشاشة الهاتف في ترقب، فإذا بِشيء ينقض عليِّ ويمسكني من خلفي، فزعت بشدة واتسعت حدقتاي ونظرت فاغرا فاهي...من؟!

_ ماذا تفعل هنا يابن الطيبين هههههه

_ أه...سامحك الله ياصديقي، كدت أن تقتلني رعبا!

_ تخاف في عز النهار ههه، الآن علمت لم كل قصصك مرتعشة ههه

_ سامحك الله، فقط فقدت الطريق وأنا من يحفظ القرافة كما أحفظ بيتنا، وتوترت قليلا.

_ كيف تتوه وأنت على بعد خطوات من صلاح سالم، وأشار بسبابته في الجهة المقابلة، فإذا بالشارع فعلا على مرمى البصر واضح جليّ.

 

دفعني صديقي على أول مقعد في(الميكروباص) ثم جلس إلى جواري وحشرني بينه وبين امرأة بدينة، وجعلاني كإصبع كفتة بين شاطر ومشطور، نظرت المرأة إلينا مرتابة، ثم رفعت حقيبة كانت أمامها ووضعتها بيني وبينها، تحاشيا لأي فرصة للتلامس، ثم بدأ صاحبي يكيل لي النصائح:

_ يجب أن تكون صاحب رؤية وموقف، اكتب في الشأن العام ودعك من هذه الترهات التي تصدعنا بها ليل نهار.

أنظر إليه في دهشة، هل يتكلم عني أنا، أهم أن أدفع عن نفسي...لكنه استطرد:

ومن أين حصلت على كل هذا القدر من المنافقين يمدحون و...

أنقذني من لسانه رنين هاتفي:

_ أالوا، كانت زوجتي:

_ أين أنت؟

_ عائد في الطريق من القرافة.

_ ماذا ستأكل اليوم، أنا زهقت، ثم ارتفع صوتها (ماتقولش أي حاجة دي)

نظرت عن يميني لصاحبي! ابتسامته الماكرة أرشدتني أنه يتصنت، نظرت على يساري فإذا بالمرأة تكاد تدعم زوجتي جهرا، هكذا قالت حركة شفتيها الممتعضة تجاهي.

_لم لا ترد،  نظرت أمامي فالتقت عيني بعيني السائق الذي كان ينتظر ردي على زوجتي، همست لها:

_ اعملي لحمة بالبصل وأرز.

_ يا نهار إسود (انت عارف البصل بكام واللحمة بكام؟)

_ اعملي مكرونة وفراخ.

_ إيه؟

_ مكرونة وبانيه، مكرونة بس... اعملي أي حاجة.

_ ماتقولش أي حاجة، أنا حأعمل شوربة عدس.

يقهقه صاحبي ويضحك السائق، تضحك المرأة البدينة، السيارة كلها تضج بالضحك.

أغلقت الهاتف، نظرت للمرأة عن يساري وقلت: لما هي أخدت قرار بالفعل على شوربة العدس، لم كانت تسألني؟!

أحد الركاب من خلفي: كلهن هكذا يا أستاذ.

آخر: كل يوم نكد بسبب الأكل.

المرأة البدينة: (هو انتو يا رجالة داريانين بحاجة) تضرب حقيبتها بيدها ثم تضيف بانفعال: أهو كيلو السكر وباكو الشاي بميت جنيه، وأول مابسلامته يدخل من الباب يزعق ويقول (فييين الشااي)!

السائق يصفق بكفيه متهللا: أهي حاتنطر اهي؛ محلاه العدس، أنا جاي معاك يا أستاذ آكل عدس ها ها ها

_ أهلا وسهلا.

المرأة البدينة: وانا كمان هئ هئ

_وانا كمان ها ها ها

آخر: معقول يا جماعة يعزمنا كلنا على شوربة العدس ها ها ها

دارت بيَّ الدنيا ومادت بي السيارة وما عدت أعرف بماذا أجيبهم، يرن هاتفي مرة أخرى:

_إحم إحم...آالوا.

_ عدي اشتريلنا عيش محمص علشان شوربة العدس.

_ حاضر.

_باقولك؛ هات بعددنا علشان مانرميش عيش.

أغلقت الهاتف، ثار صديقي فجأة غاضبا:

_ على جنب ياسطاا، ثم يقول لي وهو يغادر الباص:

_ مافيش فايدة تفضل طول عمرك بلا رأي بلا رؤية بلا قرار، أنا بقى قررت ماجيش معاك يا ابو شوربة العدس إشبع بيها.

تضج السيارة بالضحك، ألتفت إليهم أشاركهم الضحك مجبرا، أتذكر أمر العيش المحمص، أبدأ في العد بداية من السائق؛ واحد، اتنين، أربعة، تسعة...