«النعسانة» قصة قصيرة للكاتب الدكتور فراج أبو الليل

فراج أبو الليل
فراج أبو الليل

المدينة قاتلة مأجورة .. تطل بوجهٍ مزيفة ابتسامته .. يذبل العمر الأخضر بين يديها .. وفي لحظة خاطفة تجف الأوراق وتسقط الثمار علي الأرض العقيمة.. هكذا سحبت مني جزءاً ليس بقليل من حرارة الجسد مع مرور سنوات الدراسة الجامعية.. تركت رمالاً صفراء جافة ومهزومة تقاوم رياح الصحراء الجدباء.. باردة حروفها.. قتلتني بكلماتها الخرساء .. ما عدتُ " يحيى" الذي يرجوا الحياة.. كم تمنيت أن يزورني الموت الهادئ بلا ألم.

لماذا تتألم أرواح العشاق؟ .. عشقتها طيبة ودافئة القلب .. كنا نلعب خلف فناء منزلنا الطيني.. حيث عاش الأجداد قريباً من ترعة "الناصرية".. الشمس الحامية منحت وجه "حياة" بعض من احمرار الخدود الطرية.. طراوة الجبنة الطازجة .. تتمايل في فمي ذبدة صفراء سائحة من بقرتنا الحلوب ..

تستيقظ في الصباح الباكر علي خطوات أمي .. تسمع شخب الحليب الصابح .. تتسلل عيناي من الشباك الخلفي المطل علي البساط الأخضر الممدود  في سكون البراح  .. أسرق منها نظرة وضحكة نقية .. أشدُّ اللحاف القطني وأنام .. لعلها تزورني كما تفعل كل مرة .. ولكن هيهات للنوم أن يأتي ثانياً ..

استيقظت علي وخذ في جسدي بخيزرانة أبي صائحاً .. لماذا جلبت معك كسل المدينة ؟ .. الجوعى لا ينامون الليل حتى الصباح .. اذهب لحقل البرسيم .. كيف تنام وصوت البهائم ينادي العشب الأخضر .. مرات كثيرة أقاوم رقصات الصمت علي كتفي الأرض الرخوة.. تسرب شعاع أسود لقلب الأرض .. صرخت تطلب ماء النيل الفائض .. كيف جف حلق الأرض في مدينة الأسمنت ؟ .. هنا على شاشات التلفاز .. تحتضر الأشجار .. صعد الكذب يجر الحقيقة من ذيلها .. سكب الخواء في الأفواه الفارغة .. امتلأت العقول بالطنين الصامت .. هكذا قطعت ألسنة الكلام ..

بعت مرغماً تلك القراريط التي ورثتها عن أبي بعد موته في زلزال التسعينات .. تهدم البيت علي روؤسنا حينها .. ماتت أمي بعده بشهور متأثرة بجراحها في مستشفي قرية "النعسانة" ..  طبيب هزيل يحاول تضميد جراح القرية ونجوعها .. افترشت البلاط مع المرضى في طرقات  المستشفي قليلة الإمكانيات .

عندما توسل  بعض الناس "الحاج عساف" طالبين بعض من الأمل في الخلاص من مرض البلهارسيا ذو الدم المتقيح .. دعاهم لوليمة بها أطباق من قطع اللحم المشوي علي عظام الصابرين .. جلب له خادمه "مطيع" بغله الضخم والطويل أيضاً.. يستطيع ذلك البغل حمل مقدار ما يحمله أربعة من حمير القرية .. زجره وطلب  حمارته القصيرة .. هي تشبة خروف بنغالي مربع الأركان .. كانت معشوقته المفضلة  .. لا يسير إلا بها .. يتركها ترعى في حقول القرية ..  مطلوقة لا يستطيع أحد من الفلاحين منعها عن أرضه  ..

عندما تسير تلك المربعة  لا تقترب منها .. فهي ترفس الأغنام الجائعة بعنف .. زاد احمرار وجهه في تلك الليلة حيث فرح ابنته  "حياة" .. ربطت حماري بجوار حمارته بعفوية .. لم يكن هناك إلا عمود إنارة واحد أمام منزله .. والطريق مظلم علي امتداد النظر ناحية الجبل الأصفر .. وحصل ما أحبه الحمير وكرهه هو ..  كان غضبه سريعاً ..فمنع الأكل عن الحمار حتى نفق  .. بينما تمردت حمارته  وقيل رفسته  ذات مرة  فصمم علي أن يتركها بلا مقابل لبائع الجاز .. شاهدته بعدها يسير على قدميه .. تاركاً البغل حيث لم يستطع أن يحمله خادمه "مطيع" حتى يركب على ظهره المرتفع.. فظهر قصيراً ومربعاً كحمارته .

عندما لمست يداي خطاب الوظيفة في إحدى مدارس مدينة الأسمنت .. لم أكن سعيد حينها بكيت "حياة" بحرقة .. علي قدر ما تمنيت الهروب من تلك القرية البائسة .. تلك القرية الساكنة كأن الدهر لا يمر من هناك.. بائسة كأن الفرح لا يزورها.. الناس هناك بين التيه واليقظة .. في مرات كثيرة أحسبهم موتي .. يتحركون في رتابة وثبات مملل .. الكلمات مقطوعة .. فقط تسمع _ ربك كريم _ الصبر جميل _ هانت .. لا أعلم كيف هانت؟ .. ومتي هانت ؟ .. ولماذا هانت ؟ .. أعود مع الليل البهيم حزيناً ووحيداً وصامتاً .. تهاجمني الذكري .. كيف تزوجت "حياة " من المسافر العائد بالريالات النفطية .. لهذا السبب عدت بعدها ليلاً لمدينة الأسمنت الصامتة .. باتت حياتي تلف وتدور في خلاط الخرسانة بلا توقف..  هكذا تكورت داخل زلطة صماء .. ومازلت في جوفها حيث لا أسمع إلا صوتها ولا أري إلا صورتها.. فقط انتظر الموت الهادئ  .. هناك علي صدرها اللين  في سكون قرية "النعسانة".