«الزعر 2» قصة قصيرة للكاتب محمد كمال سالم

محمد كمال سالم
محمد كمال سالم

زلعتان كبيرتان تحتويان على كنز عظيم؛ أسره الفتيان في صرتين كبيرتين تحت ملابسهما وكتبهما وانتويا الهروب، لكنهما آثرا ألا يتركا شقيقتهما الوحيدة مع أبوهما وزوجته المستبدة؛ فاصطحباها معهما.

«وحيدة نفيسة كهاجر المصرية تفتش عن حفنة من ماء؛ ثم صارت أمة»

كأن السماء والأرض عادتا رتقا في تلك الليلة، تتفتق أمامهم خطوة خطوة، وكأنها تخفي خلف أستار الظلام سرا عظيما، لا تريد أن تفصح عنه دفعة واحدة، أو كأنها ستنفرج عن واد مجهول.

لزوجة الأرض الندية تحت أقدامهما، لم تنل من كدهما من أن يعدوا الأرض عدوا بعد أن شمرا جلبابيهما، يحثان الطفلة التي اصطحباها معهما أن تجتهد، أن توسع من خطواتها كي تتناسب مع هرولتهما في محاولة الهروب.

ونفيسة لم تتجاوز عامها الثامن، لا تفهم ماذا يجري، ولم هي ليست في فرشتها جوار الفرن الدافئ، كما هو المعتاد في هذا الوقت من كل ليلة، تخبئ رأسها في غطائها، خوفا من صرير الهواء المتسلل من بين أعواد الحطب على سقف البيت، من صوت نقيق الضفاضع الذي لا يسكت أبدا، كما زوجة أبيها تماما!

لولا ثقتها في أخويها الكبيرين لهالها هذا الطريق الغريب الذي تجاوز البيوت والغيطان ولم يتبق حولهما إلا الفراغ وهذا الظلام المخيف.

رصيف محطة (الكَفْر) عالٍ، وسلم المحطة بعيد وقد أجهدهم طول المسير، يرتقي (بدر) أخوها الأكبر الرصيف ويتناول نفيسة من أخيها (عوض) الذي رفعها بكلتا يديه عاليا حتى يلتقطها من يديها الرقيقتين الواهنتين، ثم يناوله صُرتا الكنز الكبيرة.

يضم عوض أخته نفيسة إلى حضنه في هذه الآلة العظيمة المخيفة، التي تنتهك الأشجار وأعمدة السانافور بسرعة مخيفة، في مشهدية ظلت في مخيلتها عمرها الذي أفنت.

 النوافذ مهشمة، يضع عليها شاله رقيق الحال، هو يعرف أنه لن يدفئها؛ لكن هذا كل ما يمتلك.

 عربة القطار القديمة تتأرجح بانتظام مخيف مع طرقات الفلنكات التي ضجت من الخدمة، وكادت أن تفر هي الأخرى إلى الضياع في المدينة العظمى على وجه الأرض.

يغادرون القطار ثم محطة مصر (القاهرة) لم تعتد عين نفيسة تلك المجسمات الضخمة من قبل، ولا هذه الأبهة، وسيارات معدنية تنهش الأرض أعظم من البقرة تنفث الدخان، سَمِعَت آخر صفرة للقطار وهم يخطون أول خطوة في الشارع، على غير هدى، سار الفتيان لا يعرفون وجهة بعينها يقصدونها، ومع ولادة صبح جديد تكثفت حبات الندى فوق كل شيء كحبات الؤلؤ، وفي عالم جديد فطن عوض أن قضبان ذلك القطار الصغير الآن (الترام)، لابد وأنه سيوصلهم إلى حيث يغيبون ويذوبون في غمرة زحام البشر.

دكة خشبية عظيمة، تمتلك ناصية منطقة سكنية تبدو عليها العراقة والثراء، ارتاحوا عليها بعد أن ساروا طويلا، لكن أهل هذا الحي ما زالوا في سبات إلا قلة قليلة بدأت في السعي إلى حاجتها أبرزهم صاحب عربة (الفول المدمس).

بدر هو من أخبرهم بهذا، هو فقط من خبر هذه الحرفة، فقد شاهدها في البندر من قبل (عاصمة المحافظة)

  استبد بهم التعب وغلبهم الإرهاق، كادت نفيسة أن تنام في حِجْر أخيها عوض، فإذا بشخص عظيم البنية يقف عند رأسها يحدث أخويها:

_«قوم فز منك ليه من هنا، إزاي تتجرأوا وتقعدوا مكان المعلم الزعر يا غجر»