عبدالحليم قنديل يكتب: آيات النصر الفلسطيني

الكاتب الصحفي عبدالحليم قنديل
الكاتب الصحفي عبدالحليم قنديل

قد لا يستطيع أحد أن يغمض عينيه عن الدمار المروع فى قطاع "غزة" ، وعن محو أكثر من نصف مبانيها ووحداتها السكنية ومدارسها ومساجدها وكنائسها، وعن حرب الإبادة الجماعية الهمجية وتقطيع الأشلاء، واستشهاد ما يزيد على عشرين ألفا من المدنيين العزل، نحو ثلثهم لا يزال مفقودا مدفونا تحت ركام الأنقاض، وأغلبهم من  الأطفال والنساء ، فوق الإفناء المنهجى الإجرامى للحجر والبشر، ونزوح مليون ونصف المليون إنسان من الشمال إلى الجنوب والوسط ، والتوقف شبه الكامل لعمل المستشفيات والمرافق الصحية فى الشمال بالذات، ونفاد أغلب موارد الحياة من الغذاء والدواء والكهرباء والوقود والمياه الصالحة للشرب، وعدم كفاية المساعدات الإنسانية لتلبية الحدود الدنيا من الاحتياجات العاجلة ، برغم التحسن النسبى فى تدفق شاحنات الإغاثة فى أيام الهدنة، التى جرى تمديدها تباعا لأيام ، تستأنف بعدها الحرب وأهوالها .

وقد لا يصح أن نغفل عن ماجرى ويجرى من مآسى مفزعة للفلسطينيين المدنيين العزل، لكن الوجه المأساوى الظاهر فى قلب الصورة ، لا يصح له أن يحجب، ولا أن يجور على جوانب البطولة الاستثنائية ، ولا على الصمود الأسطورى للشعب الفلسطينى فى قلب المحرقة غير المسبوقة ، ولا على عقيدة القتال المذهلة عند جماعات المقاومة ، التى والت انتصاراتها فى ميادين الصدام وجها لوجه ، وبمقدرة عبقرية وأسلحة مصنوعة ذاتيا ، وحطمت كل الروايات المروجة عن قوة العدو الموهومة ، ولم تكتف بما فعلته صباح هجوم السابع من أكتوبر المزلزل ، بل واصلت الأداء الباهر فى معارك الدفاع بعد الهجوم ، برغم غياب أى معنى للتكافؤ الحسابى المادى العسكرى ، وعدم حيازتها لشئ مما يملكه العدو من طائرات ودبابات ومدافع وقنابل ثقيلة وسلاح بحرى ، أضيفت إليه أضعاف قوته بالمدد والجسور الجوية الأمريكية ، وبالدعم الميدانى المباشر من جنرالات وقوات النخبة الأمريكية والغربية عموما ، وطلعات "الأواكس" والمراقبة اللحظية بتكنولوجيا أحدث الطائرات المسيرة ، وأجواء الترهيب بحشد حاملات الطائرات والمدمرات النووية ، وفى حروب الميدان "الغزاوى" ، تهاوت كل أصنام القوة ، ومن المسافة صفر القاتلة ، توالى تحطيم مئات الدبابات والمدرعات وناقلات الجند البالغة التطور ، وسقط المئات من ضباط العدو وجنوده فى مدينة "غزة" ومخيماتها وجوارها ، تكتم كيان الاحتلال على هلاك أغلبهم ، واكتفى قبل الهدنة بإعلان مقتل أكثر من سبعين جنديا وضابطا "إسرائيليا" ، ثم مع انكشاف الغبار قليلا فى أيام الهدنة الموقوتة ، اكتفى العدو بتسريب جانب من الحقيقة المغيبة ، وأعلن عن جرح ألف ضابط وجندى "إسرائيلى" فى معارك شمال "غزة" ، بينهم أكثر من مائتين ، أصيبوا بجروح خطيرة ، واجراء أكثر من 650 عملية بتر للأطراف ، وسوف تكشف الأيام المقبلة عن مزيد من خسائر العدو ، الذى تفر سراياه وقادتها من القتال الضارى ، وتواصل انتقامها الجبان بقصف المدنيين العزل ، وتحجب عن "الإسرائيليين" حقيقة ما جرى ويجرى ، وهو ما أكد المصداقية الفائقة لبيانات "أبو عبيدة" الناطق العسكرى باسم "كتائب القسام" ، وأحاديثه الواثقة الموثقة بالصوت والصورة عن الأعداد الهائلة من قتلى العدو ومصابيه ، وتحديه لجيش الاحتلال أن يعلن الحقيقة ، فيما لم تخف "حماس" ما أصاب مقاتليها ، وأعلنت بوضوح  وفخرعن استشهاد عدد من أعضاء مجلسها العسكرى ، وإحلال القادة البدلاء على الفور ، واعتراف العدو نفسه بمحدودية خسائر "القسام" وفصائل المقاومة الفلسطينية الأخرى ، وأن البنية التحتية العسكرية لجماعات المقاومة لم تصب بسوء يذكر ، وأن شبكة أنفاق المقاومة ومدنها تحت الأرض لا تزال على كفاءتها وانتظامها ، ومن دون أن تفقد قيادات المقاومة سيطرتها وتحكمها بكل ما يجرى ، وهو ما توالت أماراته الساطعة فى عمليات تبادل الأسرى ، التى فرضت فيها المقاومة شروطها كاملة ، وأصابت العدو وحكومته وجيشه بما يشبه "جنون البقر" ، وأظهرت انضباطها الصارم وتفوقها العسكرى والأمنى والأخلاقى ، فلم يلحظ أحد ولا كشف واحدة من عمليات إطلاق "حماس" لسراح الأسرى وقت وقوعها ، ولا من أين جاءوا بالأسرى المطلق سراحهم ؟ ، إلا بعد أن تنشق الأرض فجأة عن فيديوهات مصورة ، صنعتها "كتائب القسام" بحرفية واقتدار بارع ، وأذاعتها بعد ساعات من عمليات الإطلاق ، وقد تمت كلها على أرقى صورة ممكنة ، وتنوعت أماكنها بين وسط وجنوب قطاع "غزة" ، وحتى فى شمال "غزة" ، ومن قلب "ميدان فلسطين" فى وسط مدينة "غزة" ، وعلى مسافة أمتار من الدبابات "الإسرائيلية" ، وبدت تصرفات المقاتلين المكلفين بعمليات الإطلاق مهيبة وبهية ، تصرف المقاتلون بأريحية وثقة وهدوء سابغ ، وبروح إنسانية مبدعة مثيرة للإعجاب ، وسلموا الأسيرات والأطفال إلى سيارات الصليب الأحمر الدولى ، ومن دون أن تغيب الابتسامة من وراء لثام الوجوه ، وبدت علاقاتهم مع الأسرى المفرج عنهم ، وكأنها علاقات صداقة ومودة وألفة مرئية ، فلم يصب أى أسير "إسرائيلى" بخدش ، ولا بدت على وجوههم علامات تعب فى أسر الخمسين يوما ، فقد عوملوا كضيوف لا كأسرى حرب ، وتبادلوا تحيات الوداع مع مقاتلى ومقاتلات "القسام" على الهواء ، ومن دون أن يعرفوا أين كانوا يقيمون وقت الأسر ؟ ، وهل كانوا فى بيوت فوق الأرض أم تحتها ، وحملوا معهم مشاعر الامتنان لحراسهم الفلسطينيين وقت الأسر ، واضطر العدو لحجب أسراه العائدين وراء الأسوار ، ومنعهم من الكلام العلنى فى وسائل الإعلام ، وإن تسربت انطباعات بعضهم إلى قنوات التليفزيون "الإسرائيلية" ، وحكت إحداهن عن زيارة "يحيى السنوار" ـ  قائد "حماس" فى "غزة"  ـ  لها ولغيرها فى مكان الحجز ، وهو يجيد اللغة العبرية ، التى تعلمها وقت سجنه الطويل السابق ، وخاطبهم ببساطة آسرة ، قال لهم "لا تخافوا .. فأنتم ضيوفنا" ، ولم تستطع "إسرائيل" أن تفتح فمها بكلمة ولا بشبهة ادعاء إساءة معاملة تعرض لها أسراها ، بينما هى تضرب وتعذب وتنكل بالأسرى والأسيرات الفلسطينيات ، وهو ما بدا ظاهرا فى شهادات المفرج عنهم والمفرج عنهن إلى منازلهم فى القدس ومدن الضفة الغربية ، وحرمان أسر المفرج عنهم وعنهن من الاحتفال بعودة ذويهم ، وسرقة جيش الاحتلال حتى لعلب الحلويات ، فقد كانت عمليات التبادل كاشفة لحضارة وثقافة كل طرف ، وبان الفارق الهائل لصالح ثقافة الفلسطينيين العربية الإسلامية ، وهكذا حققت المقاومة نصرها الإضافى "الثقافى" ، بعد النصر المدوى فى ميادين القتال ، بينما بدت همجية العدو ووحشيته ودناءته وانحطاطه ظاهرة للعيان ، وانكشف طابعه الإرهابى البربرى اللصوصى المحض ، وتفوقت الرواية والسردية الفلسطينية ، المدعومة بالحقائق والصور وذكاء السلوك والتصرف ودقة الحساب البارع ، بينما سقطت الروايات الصهيونية الكاذبة كلها ، والمفبركة برداءة ، حتى فى عقول الجمهور الغربى المسيطر "صهيونيا" على سمعه وبصره ووجدانه لعقود ، وتوسعت دوائر التعاطف مع الحق الفلسطينى والدم الفلسطينى ، فى مظاهرات حاشدة شارك بها الملايين فى عواصم الغرب الكبرى ، وهو ما راكم ضغطا هائلا عل كثير من الحكومات ، اضطر بعضها للتخفف من ذنوب وأعباء المساندة المطلقة العمياء لكيان الاحتلال الإسرائيلى ومذابحه ، وتكرار الدعوات إلى وقف العدوان الوحشى .

  وفى قابل الأيام ، سنرى على الأرجح عودة للحرب ، ولكن بمعنويات أكثر انخفاضا لحكومة العدو وجيشه وجنرالاته المجرمين ، وبثقة شبه معدومة يائسة من إمكان تحقيق أهداف معلنة ، ثبت أنها غير قابلة للتحقق ، فليس بوسع العدو مهما خرب ودمر ، أن يقضى على حركة "حماس" وأخواتها ، ولا أن يكتشف خرائط وألغاز الأنفاق ، ولا أن يستعيد ما تبقى من أسراه بالقوة المسلحة ، بل سوف تتضاعف خسائره البشرية العسكرية على الأغلب ، وهذه هى نقطة ضعف العدو الكبرى فى الحروب التى تطول ، وهو ما بدا ملموسا حتى فى تصريحات جنرالاته وقياداته ، وزير حرب العدو "يوآف جالانت" مثلا ، كان يقول فى البداية أنهم مستعدون للحرب لسنوات ، وعاد مع بدء الهدنة المنقضية أيامها ليعدل أقواله ، وقال أن الحرب قد تستمر لشهرين ـ فقط ـ بعد استئنافها ، وهو ما يعنى إدراكا فعليا متزايدا ، بأن المهمة صارت أصعب ، وأن قتال الخمسين يوما الأولى ، قد ينتهى استئنافه حتى قبل مرور الخمسين يوما الثانية ، وأن العدو قد يكتفى من الغنيمة بالإياب ، وافتعال صورة نصر فشل فى تحقيقه ، بينما المقاومة العنيدة المقتدرة ، تحمل فى يدها كل أوراق النصر ومفاتيحه وآياته بإذن الله ، وهى تعرف الطريق لإيقاع أكبر قدر ممكن من الخسائر فى صفوف جنود العدو وضباطه المذعورين ، وكيف تضيف لكنز أسرى العدو العسكريين فى المعارك ، وكيف تفاوض وتضغط بما تملك ، وكيف ترغم العدو على وقف شامل للعدوان ولإطلاق النار ، وكيف تنتصر لشعبها على طريقة "الكل مقابل الكل" ، وكيف تفرغ السجون "الإسرائيلية" من كل الأسرى الفلسطينيين .

[email protected]