في البدء كان الجمال| الإنسانية أعلنت ميلادها بالرسم والموسيقى

أحصنة من كهف شوفييه الفرنسي
أحصنة من كهف شوفييه الفرنسي

■ كتب: رشيد غمري

قبل 43 ألف سنة ترك لنا أحدهم رسما لحيوان داخل كهف فى إندونيسيا. وهو ما يعتبره العلماء أمرا خارقا، وشهادة ميلاد لكائن لم تعرف الطبيعة مثيلا له من قبل. لكن الحدث الاستثنائى تكرر.

وعلى مدار أكثر من ثلاثين ألف عام تالية، واصل إنسان العصر الحجرى رسم عشرات الآلاف من الرسوم فى مئات الكهوف عبر العالم، ونحت آلاف التماثيل الحجرية والطينية الصغيرة، بل وصنع آلات موسيقية من عظام الحيوانات والطيور، عندما كان بالكاد يلبى احتياجاته الضرورية. ما يعنى أن الفن كان نشاطا مهما دأب عليه البشر منذ القدم. فهل نبالغ إذا قلنا إنه كان العلامة الفارقة على ميلاد الإنسانية؟

■ من رسوم كهف إلكاستيلو في إسبانيا

◄ الفن ارتبط بالمشاعر الدينية طوال العصور الحجرية

◄ مئات الكهوف تضم إبداعات الإنسان الأول

◄ موسيقى ورسوم وتماثيل عمرها آلاف السنين

■ أحد أقدم رسوم الإنسان الأول في كهف بجنوب أوروبا

ينظر البعض إلى الفن كنشاط ترفيهى، يبرز إلى الاهتمام بعد قطع أشواط من التحضر والاكتفاء الاقتصادى. وصحيح أنه ليس فى مرتبة الطعام والشراب والأمن على سلم الاحتياجات الملحة، لكن من المثير أن يكون حاضرا فى تلك الحقب السحيقة، وأن يكون محملا بكل تلك الرؤى الجمالية، والرموز والأفكار.  

■ من تماثيل الأنثى والخصوبة في العصور الحجرية

◄ ظاهرة عالمية
حتى الآن اكتشف أكثر من 350 كهفا فى كل من فرنسا وإسبانيا فقط. أقدمها «إلكاستلو» شمال إسبانيا، وعمر أقدم رسم فيه 40 ألف سنة. أما ثانى أقدم رسم فهو فى كهف «شوفييه» فى فرنسا، ويرجع إلى 35 ألف سنة. الثيران والخيول والأحصنة وحيوانات الرنة هى أهم الرسوم، مع مشاهد للصيد. وفى كهفى «كوروبونج» و«سوكتشانج» بكوريا الجنوبية عثر على عدد كبير من الرسوم لغزلان وحيوانات الرنة، ومنحوتات من عظام الغزال تعود إلى 40 ألف سنة. وفى شمال أفريقيا آلاف من النقوش الصخرية يرجع بعضها إلى 30 ألف سنة.

وفى شبه القارة الهندية توجد نقوش صخرية فى ملاجئ «بهيم بيتكا»، يرجع أقدمها إلى عشرة آلاف سنة. وفى أذربيجان تضم محمية «جوبوستان» ستة آلاف منحوتة صخرية، ترجع إلى 12 ألف سنة. وتصور أغلبها حيوانات ومشاهد صيد. وضم بعضها رموزا، كانت موضوعا لدراسة مثيرة قامت بها «جينيفيف بيتنزنجر» عالمة الأحافير البشرية من جامعة فيكتوريا فى كندا. وسلطت الضوء على رموز صغيرة مكررة مثل نقاط مرتبة وخطوط ومثلثات ومربعات وشكل السلم، وعلامة «إكس»، وأعمدة عليها سقف منحن، وأشكال ريشية، بلغت 32 علامة. واستنتجت أنها تحمل دلالات معينة، وقد تكون المقدمات الأولى للكتابة.

وهو ما أيده العالم الفرنسى «جان كلوت». واستخلص أن استخدام الرموز كان نقلة على مستوى التواصل، فلأول مرة لم يعد تناقل المعلومات يحتاج إلى التواجد فى المكان نفسه. الباحث «أندريه ليرو جورهان» كان قد استخلص من قبل دلالات بعض الرموز مثل كون الخطوط المستقيمة والخطاطيف علامات ذكورية، مقابل أنثوية الأشكال البيضاوية والمثلثات. 

■ أقدم رسم بشري لكائن من الطبيعة في أحد كهوف إندونيسيا

◄ مرايا الروح
ينظر علماء «الأنثروبولوجى» إلى المجتمعات البدائية فى العصر الحديث، كدليل تفسيرى لأحوال الإنسان القديم. وفى هذه المجتمعات دون استثناء سنجد حضورا قويا لأشكال من الفنون. وأغلبها وثيق الصلة بالرؤى الروحية والطقوس الدينية، فضلا عن دورها فى المناسبات الاجتماعية، والترفيه. ووفقا لعالمى الحفريات البشرية «أندريه ليروى جورهان» و«أنيت مايكلسون» فالفن القديم تعبير واضح عن النزعة الدينية المبكرة لدى البشر. وهناك إجماع على كون التماثيل الأنثوية الصغيرة التى عثر عليها فى المناطق المحيطة بالبحر المتوسط هى أدلة على تقديس الأنثى. أحد أشهرها عثر عليه فى كهف «هوهل فيلس» جنوب ألمانيا بطول ستة سنتيمترات من عاج الماموث، ويرجع إلى 35 ألف سنة. كما عثر على العشرات منها صنعت من الطين والأحجار فى مناطق شاسعة، وارتبط بالخصوبة والقيادة الروحية للنساء وفق عالمة الآثار «ماريا جيمبوتاس». كما أظهرت حفائر عالم الآثار «جيمس ميلار» فى الأناضول استخدامها لحماية المحاصيل فى عصور ما قبل التاريخ.  

■ أكف تلوح لنا من الماضي السحيق

◄ مصدر للتاريخ
عرف الإنسان الكتابة قبل خمسة آلاف سنة تقريبا. وهنا تبرز الأعمال الفنية ككنز معرفى ثرى بالتفاصيل عن العصور الأقدم. وهو ما يشرحه الباحث فى تاريخ الفن «جويدو ريبيكينى» قائلا: إن الأعمال الفنية القديمة تتواصل معنا بصورة أكثر غموضا ودقة مما نعتقد. فبالنظر إليها سنعرف الأفكار والمعتقدات والمشاعر التى وراءها فضلا عن التطورات التقنية. وعمل مؤرخى الفن يتم فى المسافة بين العمل والأفكار المعقدة وراء إنتاجه. والأعمال القديمة لم تصنع بغرض عرضها فى المتاحف، ولكنها تواصلت مع جمهورها من خلال مساحة اجتماعية، وضمن طقوس وممارسات شكلت هوية تلك القبائل والمجتمعات الصغيرة، وارتبطت بأحداث معينة مثل الميلاد والموت وطقوس الصيد. واعتقدوا أنها تمتلك قوة ما ورائية. وتحديد ذلك يتطلب الكثير من الصبر وربط العديد من المصادر على خلفية البيئة. ولهذا تعددت تخصصات تاريخ الفن على مستوى الحقب الزمنية، وفيما يتعلق بارتباطه بروافد معرفية أخرى مثل الأنثروبولوجيا والآثار وعلوم المجتمعات البدائية وتاريخ الأديان وغيرها. 

■ بقايا آلات نفخ موسيقية من العصور الحجرية

◄ ميلاد الإنسانية
على صخرة فى جنوب أفريقيا عثر على رسم بشرى تجريدى نادر، يرجع إلى 73 ألف سنة. وفى كهوف «أرداليس» جنوب إسبانيا، عثر على رسوم تجريدية يرجع أقدمها إلى 65 ألف سنة. ووفق دراسة لـ«أليستير دبليو جى بايك» رئيس قسم العلوم الأثرية فى جامعة «ساوثامبتون»، نشرت بمجلة «ساينس» عام 2018، فمن المرجح أنها تخص إنسان «نيندرتال» قبل وصول الإنسان العاقل «هوموسابيان» إلى أوروبا بحوالى عشرين ألف سنة. ورغم افتقادها القدرة على تمثيل كائنات الطبيعة، لكنها تنم عن تفكير رمزى واضح.

إحداها تمثل طباعة بالصبغة حول كف بشرى فى تجويف بالكهف يصعب الوصول إليه. ما يعنى أن من قام به أعد مسبقا الصباغ، ومصدر الضوء قبل أن يدخل عميقا إلى حيث ترك بصمة كفه. ويرجح هذا البعد الرمزى امتلاك نوع ما من اللغة. وهو ما يؤكده أيضا أستاذ اللغويات اليابانى «شيغيرو مياغاوا»، والذى يربط القدرة على الترميز باللغة المنطوقة. وفى عام 2022 أعلن عن مكتشفات مغارة «بيزمون» على ساحل الأطلسى،  قرب مدينة الصويرة المغربية، والتى ترجع إلى حوالى 150 ألف سنة.

وكانت أهم آثارها حليا مصنوعة من أصداف «تريتيا جبوسولا»، جرى ثقبها، وتلوينها. وهى تشبه آثارا عديدة تنتمى إلى المائة وعشرين ألف سنة التالية، عثر عليها فى شمال أفريقيا وشرق المتوسط، واستخدمت النوع نفسه من الأصداف، رغم وجود عشرات الأنواع الأخرى، ما يعنى وجود دلالة ثقافية، جرى تناقلها طوال حقبة طويلة. وهى دلائل مبكرة للغاية على مفهوم الثقافة الإنسانية.

■ جزء من نزمار بدائي من العظم

◄ فَجر الموسيقى
فى عام 2021 أجريت تجربة عملية لسماع صوت محارة استخدمت كآلة موسيقية قبل 18 ألف سنة، وعثر عليها فى كهف جنوب غرب فرنسا. عالمة الآثار «كارول فريتز»، نشرت مقالا فى مجلة «ساينس أدفانسس» أوضحت فيه أن المحارة جرى تعديلها من قبل الإنسان البدائى بإحداث فتحات وإدخال أسطوانة من العظم لإحداث الأصوات. ويعتقد أنها تنتمى إلى عائلة من الآلات استمرت لدى الشعوب البدائية فى «بلونيزيا» و«أمريكا الجنوبية». وقد أنتجت المحارة محل الدراسة ثلاثة أصوات قريبة من سلم «دى»، «دى دييز»، «رى». كما تشير آثار العصور الحجرية إلى وجود عديد من آلات موسيقية، ومنها «مزمار «ديفيجى بيب» الذى يرجع إلى حوالى 40 ألف سنة، وهو مصنوع من عظمة فخذ دب بها ثقوب جانبية. كما عثر فى وادى السند على ناى له سبعة ثقوب، وعدة آلات وترية. كما عثر فى ليبيا ومناطق من جنوب أفريقيا على نايات ومزامير عظمية ترجع إلى العصور الحجرية. وفى الصين عثر على مجموعة من المزامير من عظام طائر «الكركى» ترجع إلى تسعة آلاف سنة، وأحدها ما زال يعمل، ووجد أنه يستطيع عزف السلمين الخماسى والسباعى بالإضافة إلى السلم السداسى الصينى القديم. وتؤكد الأبحاث أن الموسيقى كانت نشاطا بشريا قديما، وارتبطت بالطقوس والممارسات العملية مثل سيناريوهات الصيد.

العالم «جومبريتش» نهاية الخمسينيات برهن على أن الفن لا يظهر بشكل مفاجئ، بل يرتبط بتقاليد سابقة، وهو يتطور بالتفاعل مع الجمهور، مما يعنى وجود بدايات أقدم لما وصل إلينا. وهو ما دعمه العالمان «ماكبريتى» و«بروكس» مطلع الألفية، عندما استعانا بفنون من كهوف فى جنوب أفريقيا، وربطاها بممارسات تجميلية أقدم ترجع إلى أكثر من 160 ألف سنة. وهو ما يشير إلى تدرج القدرات الإبداعية للبشر، وتطورها على مدى زمنى واسع. كما تؤكد على أنه على الأغلب لم يوجد بشر لم يمارسوا لونا من الفنون. وهو أمر يرجعه البعض إلى اعتبارات بيولوجية، حيث تستطيع العين والدماغ البشريان التمييز بين سبعة إلى عشرة ملايين لون، ما لا يقارن مع كائن آخر.  

حضور الفن إلى هذا الحد منذ البداية يعنى أنه كان إحدى أهم علامات ميلاد الإنسانية، وأن الكائن البشرى جبل على تذوق الجمال وإبداعه. وهو احتياج عميق، تتلاقى جذوره مع النزعة الروحية الأصيلة لدى البشر. 

■ رسوم من كهف لاسكو بإسبانيا