عادل ضرغام يكتب| حرفة الكتابة بين الفكرى والفنى

عبدالوهاب المسيرى، عمار الشريعى وحرمه الإذاعية مرڤت القفاص
عبدالوهاب المسيرى، عمار الشريعى وحرمه الإذاعية مرڤت القفاص

لا أحد ينكر أن منجز الروائى بهاء طاهر منجز كاشف عن حركة المجتمع وتحولاته السياسية والاجتماعية والثقافية، خاصة أن هذا المنجز ولد فى سياقات تاريخية وحضارية تحتم هذا الارتباط، ولا سبيل فى ذلك السياق المتجذِّر فيه للاستجابة للانعزال تحت تأثير أية دعوات فنية تحتفى بجمالية اللغة أو تحتفى بالتجريب، فبهاء فى منجزه أقرب إلى الفرد الواعى أو المثقف العضوى المهموم بإشكاليات وطنه ومجتمعه وتحولاتهما العديدة، بفعل سياق أكبر يغيِّر فى منطلقاتهما. فالكتابة لديه ليست عملا عاديا، وإنما هى فعل من أفعال الوجود، يحاول من خلاله رصد تحولات الوعى الإنسانى بسياقه، ومن ثم تأتى الكتابة لديه مسيجة بهذا الهدف، فتتجلى فى أشكال عديدة، لكنها تبدو مشدودة لبؤرة محورية، وكأنه فى كل كتاباته يقاربها من جميع جوانبها وفق لحظات وعى وإدراك مختلفين لعالمه وسياقه الفردى والجمعى.

وإذا كان بهاء طاهر كاتبا مهموما بوطنه ومجتمعه من خلال أعماله المتوالية، مما يجعل القارئ يشعر أن هناك سننا أيديولوجية أو مناحى فكرية تنتظم فى إبداعه، إلا أن ذلك لا يخلو من عمارة بنائية مائزة فى كل رواية على حدة، عمارة أو تشييد بنائى يجىء متساوقا مع الفكرة أو وجهة النظر التى يحاول أن يمررها فى كل رواية. فالفكرة أو المنحى المعرفى لا يمكن تصوُّر وجود ناجز له قبل عملية التشكيل والبناء، فالبناء منتج ومشكل للفكرة وللتوجه المعرفى. فقيمة بهاء طاهر ترتبط بالكيفية الفنية أو الحرفية التى يقدم بها هذه التحولات بتنويعاتها العديدة، فلدى بهاء طاهر- بالرغم من هذا الارتباط الأيديولوجى المستمر فى أعماله- وعى فائق بالفن وحرفية الكتابة السردية، فى تشكلها الدائم من خلال بنيات فنية تتساوق مع تحولات الرؤية وأشكال التعامل مع الأفكار المعرفية.
ربما يكون أصدق وصف يقدم لأعمال بهاء طاهر يتمثل فى كونها كتابة مصفاة، وللوصول إلى هذه الصيغة الكتابية يحتاج أى كاتب إلى قدر كبير من الحرفية والوعى بحدود لغته ومستوياتها الجمالية من جانب، وإلى قدر كبير من الوعى بسياقه التاريخى والحضارى من جانب آخر، حتى لا يكون هناك خدش لصنعة الكتابة بالرغم مما تحمله من حمولات أيديولوجية، فهذا الوعى يحميه من الأيديولوجية المباشرة الفجة التى نراها لدى كثيرين من الكتَّاب والروائيين. والحرفية هنا تتمثل فى اتكائه فى كل ما كتب على محو كل ما يشير إلى القصدية، وذلك من خلال التوجيه الجزئى المستمر والمتجاوب والمتعانق الذى لا يولِّد لدى القارئ حضورا فاقعا زاعقا، وإنما يولِّد استجابة ترابطية فى التلقى من الجزء إلى الكل، فيبدو البناء مستويا خاليا من النتوءات التى يمكن أن تجرح حدود التوجه المعرفى الذى يؤسس له البناء السردى.
>>>
ويستخدم بهاء لإسدال حدود هذا التوجيه أو التحبيك السردى مجموعة من الآليات الفنية والترميز، وإقامة التشابهات والتماثلات التكوينية داخل العمل السردى للإيحاء بالعوالم والسياقات. ففى روايته الأولى «شرق النخيل» يستند لتصوير حالات الاستلاب وعدم القدرة على الفعل التى يعانيها أفراد أو أبطال الرواية إلى استلاب الأرض، وقد يتكفّل الإيحاء أو الترميز عند حدود عقد هذه المشابهة بين ما يحدث من استلاب لقطعة أرض فى صعيد مصر وأرض الوطن، وكلاهما يكشف عن استلاب، ولكن هذا الاستلاب الكاشف عن عدم القدرة على الفعل يمكن أن يؤدى إلى دلالة أخرى ترتبط بالإنسان أو بالمثقف، فى مناهضته ومقاربته لعالم يغيب فيها العدل والحرية، وكأن هذا الاستلاب الذى يمارس على الإنسان من قبل السلطة لا ينفصل عن سلب الأرض وضياعها.
فمن خلال بنية تناظرية بين مجتمع الجامعة بالشخصيات القريبة والمتداخلة مع الراوى مثل (سوزى، وليلى، وسمير، وعصام)، ومجتمع القرية والصراع على قطعة الأرض، يؤسس للانعزال على نطاقين يجمع بينهما، وكأن كل واحد منهما مرتبط بالآخر ومشدود إليه، فليس هناك فى ظل هذا التصور تحرير للأرض دون وجود فاعلية للفرد، وقدرة على الإسهام بدلا من الانعزال. فقد كشفت الرواية عن تناظر أولى بين الأرض المسلوبة فى الصعيد، والأرض العربية المسلوبة، وتناظر آخر بين غياب الفعل والقدرة عليه بين الشخصيات فى الجانبين، فالرواية تمثل سياق مساءلة لفاعلية المثقف فى بداية السبعينيات من القرن الماضى، ومن ثم كان اللجوء إلى هذه البنية التناظرية كاشفا عن ذلك بوصفه نوعا من التوجيه، وصورة من الترميز للكشف عن طبيعة الشخصيات وخياراتها المكبلة.
وارتباطا بذلك التناظر على مستوى التشابه بين الأرض فى مكانين، يؤسس النص تشابها آخر بين فعل الشخصيات فى الجانبين، ففى الصعيد نجد إطارا يمثله (العم وابنه) فى صراعهما مع عائلة أخرى، فى مقابل موقف الأب الذى يشكل خلخلة للموقف السابق والمؤسس والمستقر، ويكشف عن تسرُّب موقف ومنطق جديدين يرتبطان بالتعايش. ويمارس الراوي- فوق ذلك- عملية توجيه فى تشكيل الشخصيات المتشابهة، فيأتى بحكايات عن أشباهه (عمه وابن عمه) فى الصعيد، و(سمير) داخل مجتمع الجامعة الذى تغيَّر بالتدريج تحت تأثير النمو المعرفى.
وفى سياق آلية التحبيك لا يقف النص الروائى عند عقد المشابهة والتناظر، بل يمارس آليات أخرى، قائمة على فعل (الاختيار) و(التبئير)، وذلك فى تشكيله لشخصيات من طرفى الصراع. ففى تجذيره لوجهة النظر التى يتمحوَّر حولها، وللأنماط الثقافية والسياسية نجده يمارس نوعا من التغييب ضد الأصوات المناوئة التى يمكن- لو تسلمتْ منصة السرد للتعبير عن نفسها- أن تؤثر على البنية الهارمونية للنص ومنطلقه المعرفى. يتجلى ذلك- على سبيل المثال-فى كون النص الروائى لا يمنح صوتا لشخصية تمثل وجهة نظر مغايرة أو نمطا مختلفا، مثل شخصية (ماجدة) التى تمثل الجانب الآخر من الصراع بوصفها نموذجا لعائلة الحاج صالح، فلم يمنحها السرد مساحة للكشف عن نفسها بشكل مباشر، بل على العكس يغيّب وجهة نظرها وصولا لنصاعة النمط أو قيمة الهدف.
>>>
أما فى روايته «قالت ضحى» فإن القارئ سوف يلمح تغيّرا أو تحويرا أو تركيزا فى البناء السردى على آليات محددة استجابة لتوجه جوهرى يشتغل عليه النص. فالهدف الجوهرى يتمثل فى مساءلة ومعاينة الثورة، ومقاربة مدى ابتعادها أو اقترابها من أهدافها، فهناك مساءلة ومعاينة لنتائجها، وهناك إعادة مقاربة لصورة زعيمها (ناصر) بين الثبات على قداستها أو اهتزازها، من خلال حدث يرتبط بتوجه أساسى من منطلقاتها، وهو حرب اليمن.
والرواية فى كل ذلك تحيل الحركة والحدث إلى عملية وعى نام، يرتبط بالإدراك وتغيّره من فترة إلى فترة، فهناك انتقال من الوعى التهويمى الذى لا يدرك التشوهات انطلاقا من الهالة والقداسة، إلى الوعى التجريبى الذى يولِّد الشك فى الهالة المصنوعة للمثال، ومن خلاله تنسرب الأسئلة المتعلقة بالجدوى والقيمة، فكل شىء يتحوَّل إلى نقيضه، خاصة المفاهيم التجريدية مثل العدل والحرية، فقد أصبح هناك شك كبير فى تحقق مثل هذه المفاهيم، بالإضافة إلى تكوُّن طبقة مشابهة بالتدريج للطبقة التى قامت الثورة من أجل القضاء عليها.
يؤسس بهاء طاهر فى «قالت ضحى» بناء مرتبطا بالنمذجة القائمة على تقديم أنماط كاشفة عن مختلف الطبقات أو التكوينات الاجتماعية، مثل الإقطاعيين والرأسماليين، وطبقة البرجوازيين، والعمال والفلاحين، وذلك ارتباطا بفكرة المساءلة لدور الثورة وأهدافها. وهو توجه كتابى أو آلية لافتة ربما نلمح وجودها بشكل ما فى قصة «فى القطار» لمحمود تيمور، وإن أخذت أشكالا أكثر نضجا فى روايات نجيب محفوظ، وخاصة «ميرامار». ففى هذه الرواية- انطلاقا من هدفها وتوجهها المعرفى فى إعادة المقاربة وفق وعى جديد- هناك تمثيل للطبقات الاجتماعية أو الأيديولوجيات.
والشخصيات فى ظل ذلك التوجه الكتابى لا تتحرّك فى النص الروائى بوصفها شخصيات، بل بوصفها نماذج دالة تشير إلى مشابهين ينضوون داخل حدودها المعرفية، ومحصورة داخل السنن الأيديولوجىلكل نمط أو إطار. وهذا يعنى أن الشخصيات فى روايات بهاء طاهر بشكل عام تستجيب لمحددات النمط، بداية من السمات البسيطة إلى السمات الكبرى الكاشفة عن الحركة والتوجه، وهذا ربما يتجلى بشكل واضح وأقرب للاكتمال فى روايته «الحب فى المنفى»، من خلال صناعة الإطارات المختلفة للناصرى والماركسى من جانب، أو الإطارات المرتبطة بنسق الثابتين المهزومين، وإن ابتعدوا عن التأثير والفاعلية، فى مقابل إطار أو نسق المتحوّلين ارتباطا وانشدادا أو مسايرة للتوجه المهيمن والسائد.
فالراوى - انطلاقا من الفكرة السابقة- نموذج لكثيرين يؤمنون بالثورة، وإن كانت النتائج التى يتأملها ويقاربها واقعا لها تأثير كبير فى إصابته بالإحباط والعجز، بسبب انحرافها وابتعادها عن أهدافها وأسسها، خاصة فى ظل عودة البون الشاسع بين الطبقات، ويتجلى حاتم-صديق الراوى- بوصفه نموذجا كاشفا عن قطاع عريض يؤمن بالثوة، ولكن أفراده يتبدَّلون بتبدل السياقات والتوجهات، فنراهم يتخلُّون من خلال ردود أفعالهم وتوجهاتهم، متحوِّلين ومتساوقين مع النسق الجديد.
أما (سيد القناوى) الذى جاء الاهتمام به واضحا ولافتا فى نص الرواية، فقد تجلى بوصفه نموذجا كاشفا عن الرجل العادى البسيط الذى لا يرهقه الفكر، ولا يعنيه الاندماج داخل إطار أيديولوجى مذهبى، ولكن تحرّكه السلطة دائما فى كل أشكالها، المتلاشية القديمة، والمهيمنة الآنية. ومع ثبات حاله فى سياقها القديم والآنى تمارس السلطة قدرتها على تحريكه، وتنقله من مكان إلى مكان تنفيذا لتوجهاتها وأشكالها المتباينة فى كل فترة زمنية أو سياق. وتعدد الوظائف التى قام بها من مناد للسيارات، وساع بالوزارة مرشَّح للجنة العمالية، يكشف عن مشروعية التلقى داخل ذلك الإطار أو النمط الذى يؤمن بالثورة وشعاراتها، ولكن النتيجة-بعد أن فقد ساقه فى حرب اليمن- تكشف عن أن الثورة لم تؤد إلى تغيير حقيقى للبشر المؤمنين بها.
>>>
فى تشكيل النص لشخصية (ضحى) هناك استناد إلى جزئيات تهشم جزءا من واقعيتها، وتجعلها وثيقة الصلة بالأساطير الفرعونية القديمة، مما يفتح الباب فى تلقيها نحو دلالات شديدة الارتباط بالمنحى الرمزى، فى تلبسها بكيان أكبر من محدوديتها الواقعية، وحدودها الزمنية، فهى تنفتح على الموت والانبعاث فى آن، خاصة إذا وضعنا دلالة (الزوج)، وتوزُّعها تجاهه بين القبول والهيام والرفض، مما يؤسس لفكرة الموت والانبعاث الدورى من خلال الرحلة التى تستعيد فيها وجودها من جديد. ترتكز شخصية ضحى على مجموعة من الثنائيات، منها الإقبال والإدبار، والحب والكراهية، والثبات والتحوّل فى تعاملها مع كل الشخصيات الموجودة فى الرواية، وتبدو فى تشكلّها منفتحة على المدنس والمقدّس فى آن، وكأنها من خلال هاتين الصورتين تشير إلى وعى مثالى، ووعى تجريبى، يرتبط المثالى بالمتخيل والحلم والانبعاث، ويرتبط التجريبى بالثقل الواقعى والتفسخ اللذين كشفا عن سقوط الهالة ومسوح القداسة عن مثالية الثورة للوصول إلى واقع الفقر والقمع والتسلط.
إن الرواية ترسم توازيا فى الاهتمام والمساحة بين (سيد القناوى) والشخصية الرئيسة (ضحى)، لكى تشير إلى ثبات الأول مع كل سلطة، فهو ممثل للشريحة التى يقع عليها الفعل دائما قبل الثورة وبعدها، وظلت حاله كما هى، من خلال الصفع أيام الملكية، وفقد الساق فى حرب اليمن فى زمن الثورة، وإلى حركية ضحى، لأنها فى ظل ارتباطها الدلالى وانفتاحها على تكوينات أكبر تتأثر بالتوجه وبالنسق المهيمن، وتكتسب مع كل نسق وجها مغايرا، فتفقد جزءا كبيرا من ملامحها المؤسسة والمستقرة مع كل سلطة جديدة، ولكنها –بالرغم من ذلك- تكشف عن استمرار دورى، وقيامة جديدة كل فترة، فهى أشبه بالكائن الأسطورى الذى يبعث من رماده مع اقترابه من حافة النهاية.
>>>
فى رواية «الحب فى المنفى» هناك اتكاء على التناظر والتوازى بين الماضى والآنى، الماضى الذى يحسُّ الراوى بالارتباط به والحنين إليه، بالرغم من يقينه بتلاشيه وانتهائه على المستوى النظرى، والحاضر الذى يفرق منه، لأنه يتباين مع منطلقاته. وانفتاح الرواية على هذين السياقين وقدرتها على تشكيلهما على هذا النحو، ربما يكون نابعا من اعتمادها الأساسى على تيار الوعى بوصفها الآلية المهيمنة، لأن الرواية معنية فى الأساس بمقاربة ذات داخل حدود وجودها وسياقها، وداخل عالميها القديم والجديد فى آن، حيث تقارن بينهما كاشفة عن مساحة الاختلاف فى مقاربة القضايا الكبرى الخاصة بالمصير والوجود العربى، وكأنها ترصد من خلال هذا الاختلاف مساحات الوعى، بل تقدم مساءلة لافتة لحركة هذا الوعى وانتقاله من حال إلى أخرى.
وإذا كانت الرواية من خلال آلية تيار الوعى تقدم مساءلة للوعى وللإيمان بنسق متلاش غير فاعل إلا من خلال المراقبة بأسى شفيف، يمثل نسق المهزومين فى مقابل نسق المنتصر المهيمن الفاعل والمحرِّك آنيا، فإن هذه الآلية مكنتها من عرض التحولات بين النسقين على المستوى الفردى والجماعى، وعلى المستوى السياسى والاجتماعى، فتقدم الرواية إشارات دالة دون نبرة زاعقة لكل هذه التحولات. ففى الحب فى المنفى هناك إشارات مرجعية مرتبط بالخارج، بداية من الأسماء والأعلام التى يتم ذكرها فى النص مثل أمل دنقل وخليل حاوى وغسان محمود ولوركا، وهى أسماء تشكل إحالات مهمة فى تشكيل الفضاء الخاص بالراوى، وفى تنميط النمط الثقافى الذى يتمُّ اختياره. ومرورا بالأحداث الواقعية التى تمت الإشارة إليها، مثل حرب لبنان فى بدايات الثمانينيات ومذبحة صابرا وشاتيلا.
فآلية تيار الوعى لها دور فاعل فى تصوير هذا الانشطار أو التوزُّع بين عالمين، عالم منته يرقبه فى أسى وحنين، وعالم حاضر يفرق منه ويرفضه، لأنه يمثل تحديا لقناعاته، ولها دور أيضا فى استبطان الغائر المخبوء الذى لا يمكن الوصول إليه بالسرد الكلاسيكى الخطى. فتصوير التناقضات فى المواقف والتوجهات لا يمكن الإمساك به فى ظل سردية عادية، تتسم بالنمو والتصاعد، وإنما من خلال بنية دائرية تقطع خطية الزمن، وتجمع بين لحظاته فى بؤرة واحدة، خاصة إذا كانت الرواية تحدث تبئيرا لافتا، يتضمن مسئولية المتغيرات المتلاحقة عن النتائج الآنية على المستوى الفردى والجماعى.
>>>
يرصد بهاء طاهر فى «الحب فى المنفى» نتائج التحوُّل الذى أفضى إلى تقسيم الوجود العربى إلى كيانات صغيرة يسهل التهامها بالتدريج، خاصة إذا كان الزمن الروائى يتماس ويتجاوب مع زمن الحرب على بيروت. وفى سبيل ذلك تمارس آلية تيار الوعى تأثيرها فى كون (أنا) المتكلم/الراوى تحتل منصة السرد، وتصبح مركزا مهما للتوجيه السردى، محكومة فى ذلك السياق بالسنن الأيديولوجى الذى تنطلق منه، فتشكيل العالم الروائى يمرُّ من خلال هذا الصوت فى تحديد المسارات، وتشكيل المنطلقات السردية للكتابة.
تبدو مركزية الأنا الساردة/ الراوى واضحة من خلال فعل الاختيار والتوجيه، فالوقوف عند الاجتياح الإسرائيلى وصابرا وشاتيلا لا يخلو من توجيه فى ظل وجود مقارنة حادة بين نسقين. فالفكرة التى يمررها النص من خلال هذا التبئير والتوجيه الزمنى، والوقوف أمام صورة عبدالناصر متسائلة، تتجلى فى سؤال مؤداه: هل كان اجتياح لبنان يتمُّ بهذا الشكل فى ظل سيادة النظام المتلاشى السابق؟ فالنسق الجديد من وجهة نظر ومنطق النص الروائى - نتيجة لتحييد الدور المصرى - كان سببا أساسيا فى تجلى الهزائم المتراكمة بهذا الشكل.
والأنا الساردة فى تأصيل وجهة نظرها، وتشكيل إطارها الوجودى والمعرفى، لا تكتفى بالخطاب المباشر الكاشف عن فاعلية المتكلم، وإنما تتكاتف مع جزئيات أخرى تشكلها، وربما جاء ذلك إسدالا لديمقراطية زائفة فى النص الروائى، أو تثبيتا لجوانبها، يتمثل ذلك فى انحيازها إلى الأنماط والنماذج الكاشفة والمنفتحة على تأسيس خارجى، يولِّد استجابة فورية لدى المتلقى أثناء القراءة مثل نموذج إبراهيم الماركسى أو الأمير حامد الخليجى، أو نمط المتحوِّلين من نسق إلى آخر. فكلها أنماط ونماذج ثقافية ملتحمة بتوجهات سياسية.
>>>
ثمة جزئية أخيرة، يمارسها الراوى المستولى والمهيمن على منصة السرد، وهى جزئية لا تكتفى بالاختيار أو التشكيل، وإنما تتخطى ذلك من خلال إضفاء المشروعية على نمطها أو إطارها، حتى لو أصبح فى حكم المتلاشى. وفى أثناء تجذيرها لمشروعية توجهها تمارس نوعا من التشويه لكل الأنماط الأخرى المقابلة التى نبتت وأصبح لها وجود فاعل فى ظل سيادة النسق الجديد، والتشويه ضد هذه الأنماط لا يتمُّ بشكل مباشر، ولكن من خلال تقديم الصورتين للقارئ ليدرك–خاصة فى تصوير نمط المتحوِّلين- حجم المفارقة والتغيير استجابة للحظة آنية مهيمنة، على نحو ما يمكن أن نرى فى تصويره (لشادية) من خلال البون الشاسع بين تمسكها بالمثل فى صورتها الأولى، والتخلى عنها فى صورتها الأخيرة، أو على الأقل فقد الإيمان بها، ويمكن أن نرى فى الإطار ذاته صورة (منار) فى استجابتها وتحرّكها من منطق ونمط الثورة إلى المنطق الاستهلاكى البرجماتى.