محمد شعير: دروس العميد

محمد شعير
محمد شعير

كان يمكن أن يكون طه حسين تاريخاً، مجرد أب روحى للثقافة الحديثة فى مصر، كان يمكن أن تنتهى صلاحية أفكاره، أن تأخذ مكانها فوق أرفف المكتبات، وفى متحف الأفكار، نعود إليها متأملين سؤالاً قديماً تجاوزناه،ولكن ذلك لم يحدث.

لا يزال«العميد» فاعلاً لأن أفكاره لم تجد مجالاً لتطبيقها على أرض الواقع، وأسئلته العديدة لم تزال بلا إجابات. بقيت أفكاره دليلاً على عجز المجتمع.. وظل حلم طه حسين ب«مصر جديدة تظللها المعرفة ويداعبها الرخاء» حلماً بعيد المنال.

اقرأ أيضًا| أدباء نوبل ضد إسرائيل

طرح العميد على المجتمع أسئلة علاها الغبار: أسئلة الهوية، الارتباط بالحداثة، علمنة المجتمع، التعددية، الإصلاح الدينى والسياسي.. وغيرها، ولم يكن المجتمع من قبل قادراً على تجاوزها، إذ كلما عبرنا عتبة أوقفنا جدار.



 

لايزال حاضراً لأنه فى الوقت الذى كانت الثقافة المصرية منشغلة بسؤال الماضي، جاء ليشغلها بسؤال المستقبل، أن يحترف التفكير الحر، وأن يقف فى جانب التجديد.  كان شعاره الدائم: «أنا قلق دائماً، مقلق دائماً، ساخط دائماً، مثير لسخط من حولى»  وكانت منهجه فى الحياة.

هكذا جاء «الضرير» متحدياً عاهته: «ليقود خطانا إلى النور» كما يقول عبدالمعطى حجازى فى قصيدة له.

منذ أن بدأ مشروعه الفكرى وضع العميد الأساس لما يريد، كتب فى مقدمة ترجمته لكتاب «نظام الاثينيين» الصادر عام 1921: «لم أتعلم لأنتفع وحدى بما تعلمت».. كانت العبارة بمثابة عهد سار عليه حتى غيابه الجسدى.

وفى عام 1934 عندما صدر قرار فصله من الجامعة كتب لزوجته: «إننا لا نحيا لكى نكون سعداء».. أبدت دهشتها من العبارة.. وبعد سنوات من تأمل حياتهما معا أدركت كم كان هو من ذلك النوع النادر من الرجال الذى يعيش «ليمنح الفرح للآخرين ويعلمهم الشجاعة ويعطيهم الأمان». كتب لها ذات مرة «إنك تعرفين هذا النوع من الرضى الذى يعقب القيام بالواجب، وذلك الشعور بأن المرء على مستوى الرسالة التى كلف بها رغم المصاعب».

فى تلك الأزمة هاجمه كثيرون، أحرقت كتبه، ودعا البعض إلى مقاطعتها، وهوجم فى البرلمان، طالبه البعض بالاعتذار لكنه كتب مدافعا عن أفكاره: «إنى آسف أشد الأسف لأنى لن أستطيع أن أغيرها أو أعدل عنها لأن الحق آثر عندى من رضى الناس مهما يكونوا، إن الآراء لا تقاوم بمقاطعة الكتب وتحريقها ولا بالنذير والوعيد وإنما تقاوم الآراء بالآراء وإنما خلقت المناظرة والجدال لهذا لا لشيء آخر».

كانت الحرية.. أمراً أساسياً بالنسبة للعميد.. أن تفهم وتطالب بحريتك يعنى أن تسحب الوجود من سلطة تحب العمل فى الظلام.. «الحرية شرط أساسى لنشأة التاريخ الأدبى فى لغتنا العربية، وأنا أريد أن أدرس تاريخ الآداب فى حرية وشرف...»، كما قال أثناء مناقشة أزمة  «فى الشعر الجاهلى». العميد لم يعمل فى الظلام، لقد أراد أن يحرر العقل من الجمود والرتابة، كان الدفاع عن العقل معركته الرئيسية... والتعليم والحرية هما أدواته لتحرير العقل، كما كانت «الرقابة مكروهة مهما يكن الموضوع الذى تراقبه. ولن يكون الأدب حرا إلا إذا كان القلم حراً فى كل ما يطرق من موضوعات».

كان التعليم رهانه.. وخاصة أن المدارس من وجهة نظره: «قد أغلقت أبوابها ونوافذها إغلاقا محكما، فحيل بينها وبين الهواء الطلق. وحيل بينها وبين الضوء الذى يبعث القوة والحركة والحياة».. مضيفا: «إذ يأخذ الطلبة من الكتب المقررة عليهم.. استظهارا يستعينون به على أداء الامتحان. حتى إذا فرغوا من هذا الامتحان انصرفوا عما حفظوا أو انصرف عنهم ما حفظوا: لم ينتفعوا منه بقليل ولا كثير. ولم يتعلموا منه نقدا ولا بحثا، ولم يفيدوا منه ذوقا ولا شيئاً يشبه الذوق.

الحلول التى يقدمها العميد واضحة، ويمكن اعتبارها حلا لكل زمان: «أن تلجأ وزارة المعارف إلى طائفة من الفنيين الذين يدرسون الأدب العربى فى ذوق.. ويقرأون اللغة فى فهم وفقه.. ويتخذون منهما ومن العناية بهما لذة ومتعة، لا وسيلة إلى العيش وقبض الراتب آخر الشهر». ليست المناهج وحدها هى الحل.. وإنما طريقة التدريس: «البحث العلمى الصحيح قد يستلزم النقد والتكذيب والإنكار والشك على أقل تقدير..»، وهذا هو الأسلوب الذى استخدمه فى بحثه سواء فى كتابه «فى الشعر الجاهلي» أو «مستقبل الثقافة فى مصر»..، حتى فى روايته الشهيرة «دعاء الكروان» التى يراها فيصل دراج مدينة العميد الفاضلة التى تمجّد قدرة الإنسان الشغوف بالمعرفة على التحرّر.

ربما كانت عبارته الشهيرة «التعليم كالماء والهواء»، هى الأشهر، ولكنها ليست كل ما ترك لنا. لم يكن همه فقط التركيز على التعليم ما قبل الجامعى، وإنما كان همه أيضا «جامعة دينها العلم».. لأن «العلم حر بطبيعته». يقول فى محاضرة له ألقاها عام 1941: «كنا أحرارا مع أساتذتنا، فنحضر إلى دروسهم، ونسمع منهم، وأؤكد لكم أننا كنا نعذبهم كما كانوا يعذبوننا، كنا نناقشهم ونطيل عليهم، وأذكر أن بعض أساتذتنا عندما كنت أناقشه يرفع يديه إلى السماء ويقول «الله حكم بينى وبينك يوم القيامة». ويضيف: لم نكن أحرارا فى مناقشاتنا فحسب، وإنما كنا أحرارا فيما نتحدث فيه إلى أساتذتنا، فنقول كل ما يخطر ببالنا، وكثيرا مما نقول سخفا كثيرا، وكان أساتذتنا يقولون سخفا كثيراً أيضا..».

وعن معنى الجامعة يضيف: «إن امتازت الجامعة لدى بشيء فإنما تمتاز بأنها لا تحب السكون والركود، وإنما هى فى حركة دائمة وتجديد مستمر، فالذين يلتمسون المحافظة والإبقاء على القديم يمكنهم أن يطلبوه فى غير الجامعة، والذين يلتمسون التطور والانتقال بالحياة العقلية يجب أن يتخذوا هذا فى الجامعة». الأساتذة أحرار من وجهة نظر العميد فيما يختارون من مواد، وأحرار فى اختيار طريقة الدرس، والطلبة أحرار أمام الجامعة، بشرط أن يتحملوا تبعاتهم، فالأهم أن يكون: «الإقبال على العلم والدرس ناشئاً عن الحب والرغبة لا الخضوع والطاعة فليس فى ذلك خير».

وبعد الحرية.. توجد حرية النظام يكتب: «ولو كنت أشرع للجامعة نظمها لغيرت كثيراً، ومعنى هذا أن القوانين يجب أن تقوم على فكرة تيسير العلم وتمكين الأستاذ من أن يعيش ويعلم كما ينبغي، وتمكين الطالب من أن يعيش ويتعلم كما ينبغى أيضا». ربما كان كتابه «مستقبل الثقافة فى مصر» دستورا ثقافيا اقترب فيه، بعقلانية وشجاعة، من كثير من الأسئلة الممنوعة التى تعيد اكتشاف التاريخ العربى الإسلامى بعيدا عن الأسطورة والبلاغة والتمجيد الذاتى الفارغ، مطالبا بالتحرر من الغيبيات والتربية العقلية العقيمة... وكان الكتاب يرفض توظيف الثقافة لخدمة الأيديولوجيا، وتأسيس الدولة على مفهوم دينى للهوية. وهذا ما أربك الجميع وقتها.

كما احتلت الديموقراطية مكانا كبيرا فى فكره، كانت هى القضية الجوهرية. يقول العميد: «الذى يشهد تاريخ البشرية وينظر للمجتمعات وتطورها يرى أنه كان هناك دائما اقتران بين الدين والاستبداد والفلسفة والديموقراطية، فالحاكم المستبد يلجأ للدين أما الحكم الديموقراطى الذى يؤمن بالتغير والتعدد فإنه يلجأ للفلسفة».

أسئلة العميد هى أسئلتنا للأسف حتى الآن. ولكن بدون إجابات. فى الذكرى الخمسون لرحيله، نقدم فى هذا الملف محاولة أولى متواضعة للسباحة فى بحر العميد، بل فى محيطه الواسع، محاولة لتقديم بعض من وجوهه المتعددة، ولكنه بالطبع يستحق أكبر من ذلك بكثير.