«يوميات قاض23» قصة قصيرة للكاتب المستشار بهاء المري

صورة موضوعية
صورة موضوعية

مولانا الإمام

 

كُنتُ أعرفهُ، ليس بشَخصِهِ وإنما بصِفته، كم أدَّيتُ الصلاةَ من خلفه في سِنِىّ حياتي الأولى، وكم كانت تُعجبني خُطَبِهِ ودُروسه الدينية المُرقِّقة للقلوب الدَّاعية للتقوَى.

كان إمامًا وخطيبًا للمسجد الكبير المُجاور لمسكن أسرتي، ولكنَّ معرفتي به لم تكن تلك المَعرفة التي تمنعني من نظر الدعوى التي أقامتها أرملته ضد أبنائه من زوجته الراحلة طلبًا لميراثها فيه، لم تَبلغ تلك المعرفة هذه، درجة أن أستَشعرَ الحرَج، فلم يكن بيننا ما يؤدي إلى ذلك. 

كنتُ أراه مِثلما يراه باقي الناس، وَرِعًا، حُلو الحديث ودائمٌ رَبطه بآياتٍ من القرآن وبالسُّنة، مُوجِّهًا إلى حُسن الفَضائل، ناصحًا للناس بمراعاة الحدود والحقوق، دائم التذكير بالموت ومُبالغًا في الحثِّ على الفوز بحُسن الخاتمة، ولم يكن ذا علاقات واسعة، فلم يدَّع أحدٌ حصول معاملةٍ معه تنمُّ عن غير هذه الصورة الظاهرة التي ألفوه عليها.

ماتَ مولانا، وكعادة الوارثين سُرعان ما دَبَّ الخلاف حول الميراث بين أبنائه من زوجته الراحلة، وبين زوجته الثانية، قالوا لها لا شيءَ لكِ، باع لنا والدنا كل ما يَملك من قبل أن يَتزوجكِ، أجابَتهم بِثقة: عُقودُكم مُزورة وتَقَوُّلكم عليه افتراء، ولسَوف تَعلمون، فليس لمثله أن يَفعل هذه الفِعلة الشَّنعاء، ولا أن يأتي ما تتدعون أبدًا.  

تَبسَّمتُ ساخرًا من ادِّعائهم في الصحيفة وأنا أُطالعها، أثارت في دخيلة نفسي عَجبًا على تَصرُّف الأبناء، أإلى هذا الحد يكون إنكار الميراث؟ وإلى هذه الدرجة يَجحد الناسُ قواعدَ تقسيمه التي أنزلها ربُّ العباد من فوق سَبع سماوات؟! أينسبون بهذه البساطة إفكًا لهذا الرجل الصالح الذي لا يَتصور أحدٌ ممن يَعرفونه نِسبة هذه الفِعلة المُشينة إليه؟   

طَعنَتْ الزَّوجة بالتزوير على التوقيعات، ولامَت عليهم سذاجة ما يدَّعون وهم يَعلمون جيدًا أنَّ أباهم كان صالحًا، وليس هو مَن يقترف مثل هذا الإثم.

جاءوا بأوراقٍ شتَّى للمُضاهاة، وكان جُلُّ اهتمامي هو إحضار أوراق غيرها من جهة عمل مولانا في آخر عهده بالوظيفة، وأخرى معاصرة لتاريخ زواجه الأخير، ووثيقة هذا الزواج لإجراء المضاهاة عليها.

مَرَّ الوقت سريعًا حتى حانت تلك الجلسة المرهونة بورود التقرير، تلقَّيتُه بابتسامةٍ ساخرة وعقلي الباطن يُحدِّثني أنَّه لا شكَ سيكشف زَيْف أبناء مولانا، فقد أضاعوا وقتهم وسَيخسرون دعواهم. 

فضَضَتُ المظروف المنطوي على التقرير بتؤدةٍ ودونما فُضول، كنتُ واثقًا في قرارة نفسي من قَناعتي تلك، لن يكون التوقيع أبدًا توقيع مولانا.

مرَرتُ ببصرى سريعًا على المقدمات ومحاضر الأعمال، كنتُ متشوقًا إلى بند النتيجة كأني أريدُ أن أُثبتَ لنفسي أنَّ ظنِّي في مولانا لم يَخِب. 

 وما أن بَلغْتُ النتيجة حتى تَوقَّفتْ حواسِّي أمام السطرين الأخيرين: "التوقيعات حُرِّرَت في ظروف طبيعية وسِياق مُتَّصل، وفى تاريخ يَسبق تاريخ الوثيقة بأسبوع واحد، وجميعها بخط يد مولانا الإمام"!

هالَني ما قرأتُ، واستَحضرَ ذِهني حكاية كان يَرويها لنا والدي في صِغَرنا عن جار لنا اسمه (......) مَنعَ بناته الأربعة الميراث وباع كل ما يمَلك لابنه الوحيد.

كان والدي من جيل مولانا وكانا جارين، وأذكرُ أن سبب روايته تلك الحكاية لنا، أنه وبعض الجيران قد تدخلوا عُرفيًا لإقصاء ذلك الوالد عن فِعلته ولكنهم عجزوا، فصار والدي يتندَّر بها، ويتعجَّب كيف أنَّ ذلك الرجل وهو يقوم وَقتئذٍ على شأن كُتَّاب القرية ويُحفِّظ الأطفال القرآن الكريم يفعل ما فعَل.   

ولستُ أدرى لماذا الآن جادت علىَّ قريحتي باسم ذلك الرجل، كانوا يُلقِّبونه الشيخ (.......)، يا للَمُفارَقة، إنَّ لقب العائلة واحد، سألتُ أحد أبناء مولانا الحاضر بالجلسة:

-هل هو قريبكم؟

 قال:

-هو جَدِّى لوالدي!