الجيش الأبيض على خط النار بطولات الأطقم الطبية فى حرب أكتوبر

الجيش الأبيض
الجيش الأبيض

لم تقتصر بطولات حرب العزة والكرامة فى السادس من أكتوبر عام 1973، على الضباط والجنود الذين يحملون السلاح ويعبرون القناة فقط، بل كان الشعب المصرى بأسره صفًا واحدًا كعادته خلف قيادته وجيشه ليعاونهم على تحقيق الانتصار، فكان الجميع فى كل مجال يقدم كل ما يستطيع لتحقيق النصر وتحرير الأرض.

من بين الذين خاضوا الحرب وقدموا شهداء ومصابين أيضًا ليعاونوا إخوانهم على خط النار، أبطال الجيش الأبيض، من الأطباء والتمريض العسكريين والمدنيين، الذين كان بعضهم على الجبهة لإسعاف المصابين، والبعض الآخر فى غرف العمليات والطوارئ داخل المستشفيات يؤدى دوره فى المعركة كأى ضابط أو جندى.

قدم الجيش الأبيض خلال تلك الفترة بطولة لا تقل فى أهميتها وخطورتها عما يقدمه الجنود على الجبهة، وكانوا كتفًا بكتف مع أبطال الجيش على خط النار، وحققوا الانتصار مع كل جسد قاموا بإسعافه وعلاجه، ومع كل مصاب تم شفاؤه وعاد للوقوف على قدميه مرة أخرى، بل وقدموا أيضًا تضحيات بأنفسهم فمنهم من أصيب ومنهم من استشهد خلال أداء مهمته.

وقد وثقت النقابة العامة للأطباء أسماء 17 شهيدًا من الأطقم الطبية الذين قدموا أرواحهم فداء للوطن فى حرب أكتوبر، وسجلت النقابة أسماءهم على لوحة الشرف وهم الأطباء «لويس نابليون عجايبى، عادل إبراهيم أبوسنة، رشاد مرزوق تادروس، فتحى المتولى حلاوة، حسين صبرى أحمد بشتو، كمال لبيب شنودة، سمير وهبة كراسى، شريف رمزى عباس، نبيل فهمى جورجى، مجدى زكى سعود، صفوت زارع محروس، السيد محمد حسين قاسم، حسن حافظ أحمد شيبوب، حسن محمد مصطفى رشدى، نبيل عبدالحميد الحمامى، محمد أيوب حسين، رضا فؤاد غالى» .

شاركت مئات الفرق الطبية فى حرب أكتوبر، يتسابقون للتواجد فى غرف العمليات والطوارئ لسرعة إنقاذ المصابين، وظل بعضهم يعمل فى موقعه لأكثر من مائة يوم متواصلة دون كلل أو ملل بل كان الجميع يؤدى رسالته كأى جندى فى المعركة.

كان مستشفى السويس العام هو أساس الخدمة الطبية للجيش الثالث الميدانى، وأحد أهم المستشفيات خلال المعركة، حيث كان يستقبل الجرحى والمصابين من السرايا والكتائب الطبية والمستشفيات الميدانية للقوات المسلحة، وقد تم إعداد المستشفى فى وقت سابق للحرب ضمن الخطة الاستراتيجية للتموين الطبى، حيث تم تزويده بمخازن سرية للأدوية والمستلزمات الطبية وبخاصة المحاليل والجلوكوز داخل وخارج المستشفى، لا يعلم عنها شىء سوى مدير عام المستشفى آنذاك، ومدير الصيدلة.

وقد تعرض الأطباء خلال تلك الفترة لمواقف عصيبة، ولم يكن الأمر سهلًا، بل تم محاصرتهم حين تم حصار مدينة السويس وكان هناك ندرة فى المياه، حتى أن مدير المستشفى خرج بنفسه مع المقاومة الشعبية بقيادة الشيخ حافظ سلامة، للقتال ومقاومة العدو الصهيونى، وقد تعرض المستشفى للهجوم من العدو وبداخله 100 طبيب و80 ممرضة و100 آخرين من العاملين بالمستشفى، بخلاف المصابين والجرحى الموجودين لتلقى العلاج، ولكن الفرق الطبية الموجودة استطاعت صد الهجوم والدفاع عن المستشفى، وتم قطع الإمدادات والغذاء عن المستشفى وكانوا يتغذون على محلول الجلوكوز بعد تخفيفه وتناوله لسد جوعهم وعطشهم.

لم تقتصر بطولات الجيش الأبيض على الأطباء من الرجال فقط، بل كان هناك أطقم طبية من الطبيبات والتمريض سيدات، اصطففن إلى جانب الرجال من الأطباء والتمريض أيضًا لمعاونتهم فى مهمتهم، وكان بينهم ليلى عبدالمولى، رئيس قسم التمريض فى مستشفى غمرة العسكرى برتبة ملازم أول، وكانت ضمن أول دفعة نسائية تخرجت فى كلية التمريض، وتم تكليفها برئاسة قسم التمريض حين صدر قرار من القوات المسلحة المصرية بتوزيع الخريجات من النساء على الجبهة الخارجية لرعاية مصابى الحرب حينها، وكانت «عبد المولى» تعمل بعدة مستشفيات وقت الحرب فى القاهرة والإسكندرية والإسماعيلية. 
وكان ضمن السيدات اللاتى شاركن أيضًا فى المعركة، الممرضة إصلاح محمد، التى كانت تعمل بمستشفى السويس الميدانى وكانت من أولى النساء اللاتى شاركن فى المعركة، وكانت تعمل 24 ساعة متواصلة لإسعاف المصابين ضمن فريق المستشفى البالغ عددهم 20 طبيبًا و78 ممرضة، وسط ظروف الحرب القاسية والقصف المتواصل وندرة المياه، وكانوا يتناولون حصة من المياه لكل فرد لا تتجاوز عدة سنتميترات من المياه يوميًا، ورغم ذلك كانوا يؤدون عملهم بمنتهى الحماس والجدية حبًا فى الوطن.

وضمن البطلات أيضًا، الممرضة سيدة حسن الكمشوشى، التى كانت تعمل بمستشفى السويس العام خلال فترة الحرب، وهى زوجة لبطل أيضًا وهو الراحل حامد دويدار، وقد انتقلت للعمل بالمستشفى قبل الحرب بعام، ووصفت فى تصريحات سابقة ما شاهدته بالمستشفى خلال الحرب بأنه كان «مجزرة» من كثرة الدماء والضحايا الذين كانوا يتوافدون على المستشفى، ورغم ذلك دافع المصابون عن المستشفى حين هاجم العدو الإسرائيلى مستشفى السويس واضطرت الأطقم الطبية إلى صد الهجوم، وانضم إليهم عدد من المصابين رغم شدة إصابتهم بل وإصابة بعضهم بالبتر، إلا أنهم كانوا يحملون السلاح ويتصدون للهجوم بشكل بطولى يفوق الخيال، يدافعون ويقاتلون ودماؤهم الذكية تتساقط فى كل أرجاء المستشفى.

بمناسبة الذكرى الخمسين على حرب أكتوبر المجيدة، وتوثيقًا لدور السيدات اللاتى شاركن فى تلك الملحمة العظيمة، التقت جريدة «الأخبار» بالصول فايقة حنيدق، ابنة الإسماعيلية والتى كانت تعمل بمستشفى «التل الكبير العسكري»، لتروى تفاصيل مشاركتها مع الجيش الأبيض فى معركة الفخر والعزة عام 1973م .

استهلت الصول فايقة حنيدق، حديثها لـ«الأخبار» عن عائلتها ووالدها الذى استشهد إثر انفجار لغم فى سيناء عام 1960، وأنها قضت 45 سنة من حياتها داخل أروقة المستشفيات العسكرية، حضرت وشاهدت أحداث 67، ولحظة الانتصار فى السادس من أكتوبر، موضحة أنها ولدت بمدينة الإسماعيلية وعاصرت ما حدث فى 1967 وكانت حينها فى المرحلة الإعدادية، وشاهدت بعينها لحظة سقوط مقاتلة مصرية، أمام فصلها بالمدرسة، حينها قررت أنها لابد أن تلتحق بالقوات المسلحة لتساعد الأبطال الذين يقاتلون العدو الغاشم دفاعًا عن الوطن.. وأضافت أنها هاجرت مع أسرتها إلى مدينة الزقازيق مثل الكثير من أهالى الإسماعيلية عقب أحداث 67، وبعد حصولها على الإعدادية التحقت بإحدى مدارس التمريض التابعة لوزارة الصحة، وقضت السنة الأولى فى القصاصين، ثم تخرجت فى مدرسة السيد جلال فى باب الشعرية، وعقب تخرجها تحققت أمنيتها فى العمل بالإسماعيلية.

وأوضحت أنها بعد أن عملت بالإسماعيلية، أعلنت القوات المسلحة عن حاجتها لعدد من الممرضات للعمل بالمستشفى العسكرى، وبالفعل التحقت للعمل بمستشفى التل الكبير العسكرى فى الأول من يناير 1973، وكانت تصل الليل بالنهار فى عملها حيث كانت تعمل نهارًا بالمستشفى، وتقضى فترة الليل داخل القطار الحربى المخصص لنقل المصابين جراء غارات العدو المتكررة من الجبهة إلى المستشفى العسكرى.

وعن ذكرياتها مع حرب أكتوبر المجيدة، قالت «حنيدق» إنهم تلقوا أمرًا بإخلاء مستشفى التل الكبير العسكرى عند بداية الحرب نتيجة قصف العدو لمطار أبو حماد الحربى الذى كان قريبًا من المستشفى، وتذكر أن القصف كان شديدًا جدًا فى تلك الليلة وسيارات الإسعاف تهرول إلى منطقة القصف لنقل المصابين والجرحى من الطيارين والجنود، وكانت هى حكيمة العمليات والمسئولة الوحيدة فى تلك الليلة المظلمة، وتصف ما حدث بأنها كانت مشاهد مؤلمة مستحيل أن تنساها للطيارين والجنود الشهداء والجرحى والمصابين، بالإضافة إلى الأطفال والمدنيين الذين استشهدوا وأصيبوا أيضًا جراء قصف السوق المجاور للمطار، وعقب إخلاء المستشفى تم نقلهم لمكان آخر يبعد عن الجبهة بمسافة ساعة أو يزيد وعندما عبرت قواتنا الباسلة بدأت مهمة الأطقم الطبية بشكل مختلف وأقوى من ذى قبل، وقالت كنا نعمل دون أن نشعر بالتوقيت ولا نشعر هل نحن نهارا أم ليلا فقد كان شغلنا الشاغل هو تضميد جراح الأبطال والعمل قدر المستطاع على علاجهم.

وتحدثت الصول فايقة حنيدق، عن دورها فى علاج الجرحى والمصابين، حيث قالت إن تلك الفترة كانت عصيبة جدًا شاهدت خلالها ما لا يستطيع تحمله أحد، وشاهدت بطولات لا يكفيها آلاف الكتب والصفحات لتتحدث عنها، حيث كانت تستقبل يوميًا العشرات من أبطال القوات المسلحة البواسل، مصابين بإصابات بالغة وجروح شديدة ومنهم من فقد عينه ومن فقد ذراعه ومن فقد قدمه ورغم ذلك كانت معنوياتهم مرتفعة ويريدون العلاج للعودة مرة أخرى للحاق بزملائهم على الجبهة، وكانت هى وزملاؤها وزميلاتها من الأطقم الطبية يستقلون القطار الحربى المعد لنقل الجرحى والمصابين يوميًا، وقد كان هذا القطار غير القطارات التقليدية التى نعرفها، فقد كان عبارة عن عربات فارغة بها أسرة متعددة الطوابق معدة لنقل الجرحى والمصابين، وبه غرف مجهزة تجهيزات بسيطة تؤدى الغرض فى العمليات البسيطة كتجبير الكسور وتضميد وخياطة الجروح ووقف نزيف البتر حتى نقل البطل المصاب لأقرب مستشفى معد للعلاج.

وعن أكثر المواقف التى أثرت فيها، قالت إنها تتذكر جيدًا أحد الأبطال وهو شاب عشرينى لا تفارق صورته وصوته مخيلتها حتى الآن، حيث كان يستعد لزفافه وكان سعيدًا جدًا ويداعب الجميع بقوله «كلها أسبوع وأتجوز»، ولكنها فوجئت به بين المصابين بعد أن فقد إحدى قدميه وأصيب فى عينيه أيضًا، وقد أثر هذا الموقف فيها وفى زملائها جدًا لدرجة أنها لا تنسى هذا الشاب حتى الآن وتتذكر ضحكاته قبل الإصابة ومشهد ما بعد الإصابة..

واختتمت حديثها فى الذكرى الخمسين لانتصار أكتوبر، بأن فترة عملها حكيمة عمليات فى المستشفى الميدانى خلال الحرب هى أعظم فترة فى حياتها وتفتخر بها حتى الآن، وتعتبرها ميراث الفخر الذى ستورثه لأبنائها وأحفادها، وقد كرمها الرئيس الراحل محمد أنور السادات وعدة قيادات أخرى بالدولة فى العديد من الاحتفالات بذكرى معركة الشرف والعزة، مؤكدة أن هذه الملحمة ستظل درسا لكل من تسول له نفسه المساس بأرض الوطن، وأن مصر ستظل دائما وأبدًا قوية بأبنائها المخلصين وجيشها العظيم.