يأتى أكتوبر من كل عام .. ويأتى معه سؤال ..هل نحن نحتفل فقط فى هذا الشهر بذكرى انتصارنا المجيد فى حرب أكتوبر 1973 كذكرى مر عليها نصف قرن ؟ يبدو رقم الخمسين عامًا رقمًا مميزًا يستحق فى حد ذاته الاحتفال، لكن الحقيقة أنه لم يكن فى يوم من الأيام الاحتفال بنصر أكتوبر هو احتفال بذكرى ماضية حتى لو مر عليها خمسة عقود، إن استعادة يوم السادس من أكتوبرفى كل عام هو استعادة سلاح من المستقبل صالح دائمًا فى مواجهة حروب وأعداء الأمة المصرية فى الحاضر.
هذه الاستعادة المستقبلية حقيقة وواقع لأن أكتوبر لم يكن عملًا عسكريًا فقط خاضها الرجال على جبهات القتال بالدم والنار لتحقيق الانتصار، بل أن النظر إلى أكتوبر كعمل عسكرى فقط دون النظر إلى ماصنعه هذا الحدث الفذ والفارق فى تاريخ الأمة والشخصية المصرية وعلى المستوى الدولى والإقليمى يعتبر تقليلا من شأن منجز الرجال الأبطال الذين حولوا لحظة انكسار إلى زمن دائم من العزة والقوة.
تمر السنوات والعقود ويظل أكتوبر حدثًا مستقبليًا لا يمكن أن تطويه صفحات التاريخ أو يشاهده العابرون فى المتاحف كأمر مضى، إن ديمومة هذا الحدث ومستقبليته تأتى من طبيعة أثره فى مجرى التاريخ والوجدان المصرى لأن ماقبل أكتوبر شيء وما بعده شيء آخر، فكل حدث مر على الأمة المصرية منذ الساعة الثانية ظهرًا يوم السادس من أكتوبر إلى الآن كان صانع أكتوبر أو العقل المصرى عقل أكتوبر المتفرد بخبراته يتدخل من أجل مواجهة أزمات الحاضر ليديرها لصالح هذا الوطن وينتصر فيها كما حدث على جبهات القتال.
عندما نريد أن نستوعب من أين أتت مستقبلية هذا الحدث الفارق وكيف تأسس عقل أكتوبر الفريد فى تكوينه على يد المؤسسة العسكرية المصرية هذه المؤسسة الموغلة بعملها الفذ فى تاريخ الأمة المصرية يجب تدبر الاستعداد لهذا التأسيس فمنذ اللحظات الأولى التى أعقبت المواجهة مع العدو فى العام 67 انطلقت المرحلة الأولى من التأسيس ويتجاوز العقل المصرى تداعيات المواجهة مستعيدًا جذوره الحضارية وثباته أمام التحديات ثم الانتصار عليها فى ظل أقسى الظروف وكان التطبيق العملى لهذه الانطلاقة والتأسيس حرب الاستنزاف وبناء حائط الصوايخ ليقف العالم مذهولا ومن قبله العدو على قوة وثبات الشخصية والجندى المصرى المقاتل.
لم تكن هذه الانطلاقة أو الـتأسيس ناتجًا عن اندفاع أو عامل وقتى بل كانت هناك محددات هى ماجعلت عقل أكتوبر سلاحًا مستقبليًا دائمًا فى يد الأمة المصرية ويدير حركتها فى كل مواجهات وأزمات الحاضر متجاوزًا كافة التحديات وتتضح هذه المحددات فى عدد من النقاط.
يتميز عقل أكتوبر بأنه عقل ناقد لا يخادع نفسه أو الآخر فلحظة الانتصار عنده هى لحظة الاعتراف بوجود قصور كما حدث عقب. 67
يدير عقل أكتوبر القرار بأسلوب المواجهة للأزمة فلا يراوغ فى الحل ولا يقبل أنصاف الحلول.
يطورعقل أكتوبر الحلول ولا يلجأ إلى ما هو تقليدى بل يكون الحل مبتكرًا وغير متوقع وخير شاهد على هذا تحطيم خط بارليف بأسلوب لم يتوقعه أحد.
لا يلجأ عقل أكتوبر لتجزئة الحل بل يقوم بحل شامل للأزمة التى يواجهها حتى يقتلع أسبابها نهائيًا.
يسير عقل أكتوبر وفق منهج وخطة متدرجة منضبطة ولا يتورط فى اندفاع أوتراجع.
لايتأثر عقل أكتوبر بالأجواء الدعائية المحيطة به ولا تجبره على تغيير قراره نتيجة لما تصنعه من ضباب معلوماتى ذلك لأن هذا العقل ثابت فى رؤيته أما حركته فقائمة على المنهج والخطة فقرار حرب أكتوبر تم حسابه بدقة متناهية ولم يتأثر متخذ القرار بالأجواء المحيطة التى طالبته بالاندفاع دون استعداد.
بمراجعة هذه المحددات التى ميزت عقل أكتوبر نجد أنها صالحة فى كافة المواجهات الخاصة بالحاضر والمستقبل لأنها لم تكن وليدة لحظة معينة بل كانت إعادة لصياغة تفكير أمة وضابط لحركتها التاريخية فى مواجهاتها القادمة لذلك لم يكن مستغربًا أن يكون هذا العقل الفذ حاضرًا بكامل طاقته فى ثورة الـ 30 من يونيو ليدير معركة الأمة المصيرية فى مواجهة الفاشية الإخوانية المدعومة من قوى الاستعمار حتى استطاعت الأمة المصرية الانتصار فى ثورتها منهية هذه الهجمة الاستعمارية الجديدة..
إذ كانت المحددات التى أسست هذا العقل دائمًا حاضرة وتعتبر بوصلة حاكمة لحركة المستقبل فهى فى نفس الوقت قادرة على إعطاء القرار المصرى المزيد من الخبرات والدروس خاصة فى ظل التحديات الدولية والإقليمية التى تتفاعل حولنا وفى منطقتنا وأيضًا فى ظل طفرات تكنولوجية تعيد صياغة تفاعلات المجتمع البشرى مع الأحداث والثوابت التى تتصارع مع رياح التغيير. .
إن هذه الخبرات والدروس هى ماتجعل عقل أكتوبر دائمًا سلاحًا مستقبليًا قادرًا على مواجهة تحديات الحاضر، هل يمكن حصر هذه الخبرات والدروس؟ إن حجم المنجز والحدث الجبار والعقل الذى تولد منه تجعل عملية الحصر تلك شديدة الصعوبة لأنها تحتاج إلى عمل بحثى موسوعى لا تتحمله هذه السطور ولكن يمكن استلهام المفهوم العام لها فى إيجاز.
بداية هذا الأيجاز لاستلهام هذا المفهوم أن الشخصية المصرية القادرة على الفعل لا تعرف حدود المستحيل فى فعلها رغم كافة التحديات التى تواجهها.
القدرة والسرعة الجبارة التى تمتلكها الأمة المصرية فى استيعاب علوم وتكنولوجيا العصر المرتبطة باللحظة التى تخوض فيها معركتها فحرب أكتوبر كانت إشارة النصر الأولى فيها هى قدرة الجندى المصرى الواقف على الجبهة فى استيعاب تكنولوجيا السلاح الذى سيستخدمه فى مواجهة عدوه وفى نفس الوقت فهذا الجندى عندما تعامل مع الحداثة كانت قدرته الاستيعابية ناتجة عن منظومة معرفية مصرية خالصة تأسست فى مدارس وجامعات الدولة المصرية.
إن العلاقة بين متخذ القرار والشعب بكافة طبقاته وشرائحه الذى قرر أن يخوض معركة الوجود وتحقيق الانتصار تحكمها قاعدة الثقة الكاملة بين الطرفين الدولة والمواطن مع إدراك كامل من الطرفين بأن كلا منهما سيبذل أقصى طاقاته من أجل تجاوز هذا التحدى فى تلك اللحظة الفارقة من تاريخ الأمة.
عدم الحكم على المشهد المجتمعى فى الحاضر بنظرة سلبية أو التهوين من قدراته بل يجب دائمًا تذكر الجذر الحضارى وطاقات الوعى التى تمتلكها جماهير هذه الأمة وهى الطاقات التى تتجلى فى الأوقات الحاسمة من تاريخها لتكون المحدد الفاصل الذى ينهى الانكسار ويتخذ طريقه إلى النصر.
يستطيع الإنسان المصرى وتستطيع كافة الأجيال التى تلقت وعيها الحضارى والوجدانى على هذه الأرض تحمل مسئوليتها التاريخية فى مواجهة التحدى وقت أن يحين زمنه، فكافة المواجهات التى خاضتها الأمة المصرية أثبت الجيل الذى حمله القدر عبء المواجهة أنه قادر وبإمكانيات عصره على تحقيق الانتصار مثل جيل أكتوبر العظيم وقد سبق جيل أكتوبر أجيال واجهت الهجمات الاستعمارية الأولى والعدوان حتى قضت على هذا الاستعمار واستردت حقوقها وحقوق الأمة وعلى نفس القدرة وتحمل المسئولية يخوض جيل ثورة يونيو معركته ومازال فى مواجهة الفاشية و الإرهاب وحملات التشكيك والدعاية السوداء المدعومة بالكامل من الاستعمار الحديث حتى يكمل انتصاره ببناء دولته الحديثة بعد نجاح ثورته.
يظل دور الفرد فى هذه التحديات والمعارك الفارقة دورًا محوريًا ومن يتم اختياره لتحمل عبء أكبر فى المسئولية التاريخية ويتقدم إلى الصفوف الأولى للقيادة فى كافة المجالات لا يمكن الشك فى قدراته على إدارة المعركة لأن الاختيار تم وفق قواعد دقيقة أول هذه القواعد مصلحة الوطن والأمة.
لا تتوقف خبرات ودروس أكتوبر العظيم والعقل الفذ الفريد الذى أهداه الرجال الأبطال بوقفتهم الباسلة الصامدة على جبهات القتال وهم يحققون الانتصار إلى الأمة المصرية، لذلك سيظل أكتوبر المجيد بخبراته ودروسه سلاحًا من المستقبل يحمى الأمة المصرية ويجعلها قادرة دائمًا على تحقيق النصر اليوم وغدًا.