«فراشات بلا أجنحة» قصة قصيرة للكاتب عبدالنبي النديم

الكاتب عبد النبي النديم
الكاتب عبد النبي النديم

الظلام يغطي السماء ..تلمع  النجوم بالنور في أبراجها .. يتطلع إليها العشاق يشكون بثهم وسهدهم، ولوعة الإشتياق وكسرة قلوبهم..
هناك ..بجوار عمود إنارة على ناصية الشارع، يستند بكتفه إليه، يشغل حيزا داخل دائرة ضوء مصباح عمود الإنارة ..بعد أن أسدل ستارة ضوءه، يرسم دائرة تفترش الأرض، كأنها تحارب هجوم الظلام من كل محيطها ..تتساقط عليه ضحايا أسراب الفراشات التي تتعبد داخل دائرة ضوء المصباح في حركات عشوائية.
تتباعد الفراشات عن سهام الضوء تهرب منها .. لكن سريعا تشتاق إليها ..تعود بلهفة .. تكره الظلام مضطربة، كأن الأشباح تطاردها، ليستغل الضوء ذاكرة السمك لديها، وتنسى أشلاء باقي الفراشات التي إحترقت أجنحتها داخل دائرة الضوء، مجذوبه المصباح معتقده أنها تستمد أنفاسها منه، في حالة عشق بينها وبين الضوء لا تنتهي بتعاقب أجيالها، لتسقط صريعة فداء لهذا العشق القاتل.
كعادته - منذ رآها لأول مرة - يقف أسفل عمود الإنارة ..يطل بنظره إلى الشباك المغلق بالدور الأرضي المقابل لعمود الإنارة، شباك حجرتها يتسلل منه خيوط الضوء من بين ثناياه..
خطفت قلبة بطلتِها أول مرة رآها من شباك غرفتها المفتوح ..حسناء بوجه صبوح.. سهام عيونها السوداء تفتك بكل جوارحه ..جدائل شعرها الذهبية تنساب على كتفيها يزين جيدها، في لوحة فنية أبدع في حسنها الخالق، تتلألأ في طلتها لتنير وجدانه ليقع صريعا في محراب عشقها.
كانت نظرتها قاتلة سحبته إلى محراب جمالها ..عاشق ولهان بلا أمل ..تتلاعب نسمات هادئة بخصلات شعرها الذهبية، هربت من ضفائرها تتطاير، ويتطاير معها خفقان قلبه العاشق ..تغمض عينيها تحجب سهام العشق القاتلة عن صريع محراب حسنها.
تفتح ذراعيها ..تستقبل النسمات الطرية التي تتصارع للدخول في أحضانهما ..والسكون داخل صدرها، تفوق من نشوتها مسرعة، تحبس النسمات المنتحرة داخل صدرها ..تسحب معها شباك غرفتها تغلقه، لتترك صريع هواها في دوامة من الجنون بها، يفكر في كيفية بناء جسور الوصول إلى قلبها، ومد أوصال المحبة في هواها.
لم يتبق للعاشق سوى فتحات شيش الشباك الصغيرة، تتسرب منها أنوار حجرتها ..تمر خلفه ذهاباً وإياباً ليجسم الضوء صورتها على جدرانه، يرسم صورتها على جدران قلبه.
نشوة تجتاح كيانه ينظر إلى خيالاتها خلف الشباك ..ملاك آت من الجنة ينثر جماله على كل البشر ..يغرق العاشقين في الطواف حول حرم الجمال، كما تقع الفراشات صريعة في حب الضوء ..ليخترق جمالها الحوائط الصامتة التي تحبس جمالها.
متطفلون ..تحجروا أمام شباكها ..قطعوا على نسمات العليل الاستمتاع بأحضانها،
وقت طويل مر منذ طلتها وما زال هناك يعاني من الوقوع في شباك حسنها.
نسمات الهوى تعلن تذمرها، تطالب بالاستقرار فى أحضان الملاك، التى تتحرك خيالاته خلف فتحات قطع الشباك المتراصة التى تنفذ من خلالها أنوار الحجرة لتلاقي طيف أضواء عمود الإنارة الذى يتوسط دائرته.
يمر الليل ببطء ..الفراشات ما زالت تحوم حول المصباح، فوق رأسه أعلي العمود الذي اتخذته سندا لكتفه, ليخبرها الضوء بعاشق ينتظر طلة من عيونها ليغوص بها فى أحلامه.
الفراشات تتباعد .. تتلاقي .. تتراص في دوائر مسرعة حول المصباح ..بعضها يحاول أن يلفت انتباه العاشق عن شباك الهوى، يهشها عن مسار نظرات عينيه نحو شباك غرامه، بعضها يتهاوى صريعا لعشق للضوء ..لا يدرى لماذا تقترب هذه الفراشات من الضوء القاتل؟ وتناسى أنه يحوم معهم في عشقه داخل دائرة الضوء.
تضطرب قدماه من طول الانتظار ..يفتح حقيبته يخرج فراش وغطاء ..ليسقط بجسده المنهك وسط الفراشات المتساقطة صريعة عشق الضوء ..
يتابع الشباك المقفول وخيالاته ..تلك القبلة التي أسرت قلبه.
الفراشات صريعة الهوى ما زالت تتساقط فوق رأسه، يستند بظهره إلي عمود الإنارة، يسحب غطاءه علي قدميه حتى لا تلفظ الفراشات أنفاسها الأخيرة على جسده، يستحضر بعض الدفء ..عيناه تأبى أن ترمش ..قلبه معلق بالشباك المغلق ..يتابع أسراب الضوء المرسومة المتسللة من بين ثنايا الشباك على الأرض ..تصنع شباكًا أكبر من الضوء ينافس دائرة ضوء مصباح عمود الإنارة .. ينظر إلي ظل الشباك علي الأرض ..يطل خلاله وجهها المليح ..تتطاير من خلاله خصلات شعرها الذهبية ..تداعبها بأناملها تبعدها عن عينيها ..تتباهي أمام مرآتها بجمالها ..تفخر بحمرة خديها وسواد عينيها ..يطير معها في السماء المظلمة فتنير الأفق.
يجذب نورها فراشات الضوء من حول مصباح عمود الإنارة، تطوف بحلقات الضوء الساطعة من نورها ..ما أحلى الموت صريعا لضيائها.
ما زالت ضحايا الضوء تتساقط على رأسه ..يبٌعدها عن فراشه ..مؤمنا أنه الأولى أن يموت فى محراب جمال ضياء عشقها ..يحاول أن يبعد بها عن حلقات الضوء ..الفراشات تلاحقهم ..تظل في طوافها ..فهي نبع الضوء وأصل الجمال .
تغوص الفراشات في ضيائها ..تلامسها تتحول لحورية من نبع جمالها ..تتكاثر حولها الحوريات ..تطير إلي السماء تلحق بالنجوم تلاحقها باقى الفراشات ..تطلب سحر لمستها.
يفيق من غفوته علي سقوط فراشة محترقة يستقبلها براحته ..ينظر إليها مشفقا .. يحاول أن يعيدها إلي دورانها حول الضوء .. لا يستطيع.. فقد احترقت أجنحتها .. لترسو علي الأرض ويسكن عشقها ..
يحملها متمنيًا لقلبه عشق الفراشة للضوء .. فراشة تفقد أجنحتها من أجل الإقتراب من النور..
ينظر إلي شقيقاتها تحاول أن تصل إلى كمال عشقها .. تفقد جناحيها قربانا للضوء ..فالقرب من الضوء لها هو الحياة..
        يحترق جناحاها ..
               لا تنقطع قرابين الضوء..  
                    تستمر طقوس العشق ..الفراشات ..الضوء ..النهاية..
يسحب الغطاء إلي صدره .. لسعات البرد تؤرقه .. يخشي الاحتراق .. أم يخشي البرد ؟!!
الشباك ما زال مغلقًا ..يتمني أن يفتح لنظرة واحدة ويحترق بعدها ..
كلب ضال يستعرض حبه حول وليفته، يخرق الأرض مختالاً بمشيته بجوارها .. يبحث عن قربانا لقلبها .. يقطع وصال العشق بين شباكي على الأرض وشباكها ..يغوص فى الظلام بعيداً يخرج بصيد ثمين يلقيه بين قدميها .. يدخلان إلي دائرة الضوء .. تفتح قلبها تعاين صيده .. تتيح له الفرصة فى اصطياد عشقها .. يعوى .. يلهث فوقها .. يخرجا من دائرة الضوء.
يعود إلى شباكها ..يمني نفسه برؤيتها, هل تعلم بوجوده؟
يقفز إلي داخل دائرة الضوء ..يضطرب من اقترابه من عمود الإنارة .. يسحب الغطاء علي رأسه.. أين وليفته ؟!!
إنه يقصدني .. هل فرغ عشقه؟
لن يفرغ عشقه .. فأجنحة عشقه تحترق..
يقترب بشدة.. يتشبث بغطائه .. ينفض فراشه يزيل آثار المتطفل.
يعود للشباك المغلق .. ما زال الضوء هناك ينبض بالحياة داخل الغرفة .. تعلو الضحكات .. يعتدل في جلسته.
الشمس توسع دائرة الضوء لتشمل الأفق بأركانه .. تتلاشى دائرة الضوء
تختفي الفراشات المحترقة داخل دائرة الشمس .. ليحترق وهما..