تتفاعل الأحداث فى الشرق الأوسط فى تسارع، تتغير كل صباح الاتجاهات والولاءات وتتولد المصطلحات التى تحاول طلاء الحقائق الصادمة والثابتة بألوان وردية، تتقافز المشروعات فى حلبة السيرك السياسى الدولى مابين ممرات خضراء وصفراء وحمراء محاولة أن تضفى البهجة على المشاهدين بألوانها الزاهية ولكنها تخفى داخلها ماتخفى من ألوان قاتمة وسوداوية.
لامانع وسط هذه التفاعلات الصاخبة أن تشن حملات الهجوم وتدوى أصوات مدافع الشائعات والتشكيك وتتشكل دوائر الحصار حول كل ماهو شريف وثابت ووطنى، وتتساءل هل وراء ما يشن ويدوى ويتشكل أصدقاء الأمس أعداء اليوم أم أن حقيقة الجميع أنهم الأعداء فى الأمس واليوم والغد أيضا.
هناك من يرى حدوث هذا الصخب الأوسطى مفاجأة غير سارة متمنيًا الاختباء فى هدوء حتى تمر العاصفة أو أن يسلم مقدراته لصانعى الصخب والسير فى ركابهم.
بالنسبة للأمم الكبرى العريقة فى حضارتها فهى لاتعرف ولا تعترف بهذا التسليم ولن تصفق للصغار صانعى الصخب بل معاركها وتاريخها شاهدين على أنها دائمًا صاحبة الكلمة والمواجهة الأخيرة ليعود بعدها الصغار إلى هدوئهم وينهى السيرك ومن يديرونه دوليًا ألعابهم بعد دفع الصغار ثمن التذاكر أضعاف مضاعفة متخيلين أنهم مشاركين فى اللعبة والحقيقة أنهم هم اللعبة.
نعود إلى هذه "الفجأة " التى يتصورها البعض ظانين أن هذه الأحداث الصاخبة قذفها علينا طقس سياسى دولى عاصف دون مقدمات ولاحيلة فيمن تورط فيها تعفيه من المساءلة لماذا تشارك فى الصخب بل وتفتح الأبواب للعواصف كى تتوجه إلى من كانوا يضعونك فى خانة الأصدقاء؟
الحقيقة أن كل من شارك ويشارك فى هذا الصخب ذهب بإرادته ولم يكتف بالذهاب لكنه تزاحم على الذهاب مدركًا جيدًا حجم ما يفعله ومدى التأثير الضار لفعله.
لا يحتاج الوصول إلى هذه الحقيقة العثور على وثائق سرية أو اللقاء بمصادر مطلعة عليمة ببواطن الأمور، تكمن تفاصيل الحقيقة كلها فى كتاب قديم صدر قبل عقدين من الزمان بعنوان " الشرق الأوسط الجديد " تأليف شيمون بيريز التلميذ النجيب لبن جوريون مؤسس إسرائيل ومدير وزارة الدفاع ووزير الخارجية ورئيس الوزراء وأخيرًا رئيس إسرائيل قبل وفاته فى العام 2016.
تكمن أهمية هذا الكتاب لأن بيريز لم يكن شخصًا عاديًا فى تاريخ إسرائيل بل هو المخطط لكافة القفزات الكبرى لها منذ تم زرعها فى المنطقة لعام 1948 ويؤمن بأن اسرائيل يجب أن تسيطر على الشرق الأوسط سواء بالحرب أو مايسمى بالسلم الذى هو فى جوهره هيمنة استعمارية عن طريق فرض نظام إقليمى بالمعاهدات والاتفاقات السياسية / الاقتصادية مع كافة الدول العربية خاصة التى تتركز فيها الثروات الريعية.
فى النصف الأول من حياة بيريز وقت استخدام الحرب لفرض الهيمنة، عندما كان شابًا وعضوًا فى منظمة الهاجناه تم تكليفه بجمع السلاح من أى مكان فى العالم استعدادًا لحرب 48 وخاصة الطائرات، ثم كان مهندس العدوان الثلاثى على مصر فى 1956 مع الانجليز والفرنسيين حيث وضع الخطة كاملة لهذا العدوان فى بلدة " سيفر " بالقرب من باريس بمشاركة حلفائه بريطانيا وفرنسا، يبدأ العدوان بالهجوم الإسرائيلى على سيناء يعقبه تدخل انجليزى فرنسى بحجة عدم قدرة مصر على حماية القناة.
يقفز بيريز من محطة العدوان إلى إصراره على امتلاك إسرائيل للقوة النووية حتى تردع كل من حولها ويستطيع باتفاق فرنسى وتمويل من أثرياء اليهود فى العالم إنشاء مفاعل ديمونة بصحراء النقب ولم يكن بيريز ينظر إلى الطاقة النووية كعامل سلمى بل إلى سلاح يمكن استخدامه ضد كل الدول المحيطة بإسرائيل.
نظرة بيريز من أجل فرض الهيمنة الإسرائيلية على المنطقة بقوة السلاح التقليدى والنووى لم تكن تحليلات بل هو ما قاله بنفسه من خلال فيلم وثائقى على منصة نتفيلكس عرضته العام الماضى وضم حوارات مسجلة معه قبل وفاته ودائمًا ماتفاخر "رجل السلام" أثناء هذه الحوارات بهذه القدرة الإسرائيلية فى الهيمنة والتى أسهم بقدر كبير فى صناعتها.
عندما نعود إلى كتاب شيمون بيريز "الشرق الأوسط ألجديد" أو "الكتالوج" المفسر للصخب الحالى والممرات ذات الألوان الخضراء والحمراء، نجد أن المترجم فى النسخة العربية يضع تحذيرًا قبل القراءة وهو أن قراءة مابين سطور هذا الكتاب هو الأهم وأن طرح بيريز الموضوعى ما هو إلا فرض الهيمنة الإسرائيلية بالاقتصاد والبضاعة بدلا من الدبابة بعد أن تشبعت إسرائيل بالسلاح ولكن خيار الحرب أصبح مكلفًا على الأجيال الإسرائيلية الحالية التى قد ترفض دفعه.
الأمر الآخر الذى جعل بيريز يضع هذا " الكتالوج " للهيمنة الإسرائيلية بأسلوب جديد فيتعلق بسقوط مفهوم العمق الاستراتيجى نتيجة لتطور الصواريخ البالستية التى تستطيع الانطلاق من أى مكان فتسقط الأمن الإسرائيلى.
عندما تبدأ فى قراءة ما بين السطور كنصيحة المترجم تظهر أول التفسيرات لحالة التحركات العدائية الدائمة تجاه مصر والتى تكون إسرائيل وداعميها خلفها مباشرة أو يتم إدارتها من خلف الستار، فبيريز فى خبث يتكلم عن السلام مع مصر كتعايش ولكنه يعلم أنه سلام تحقق نتيجة عجز إسرائيل عن تحقيق أى مكاسب بالحرب ولذلك فهو يرى أن الحرب مع مصر يجب تجنبها أو تجنب مصر بالكامل وتحييدها ففى الفصل الثاني بعنوان (على مفترق طرق) يقول يجب الانتقال من الحرب والسلاح إلى المعاهدات والاتفاقات الثنائية والمتعددة والتي تتجاوز حدود البلدان ذات الصلة وتغطي كافة المناطق التي تعتبر المدى الذي تصله الصواريخ القاتلة، السؤال هنا ماهى البلدان ذات الصلة التى يجب تجاوزها يالمعاهدات والاتفاقيات الثنائية ؟ بالتأكيد الإجابة معروفة.
تتضح الصورة أكثر عندما يتكلم بيريز بغيظ ومرارة عن أن مصر بصلابتها فهى من أنهت أوهام القوة والغطرسة الإسرائيلية أو بمعنى آخر فبيريز يرى أنه لا أمل فى الحرب فى ظل وجود القوة المصرية.
فحرب يونيو 67 التى يعدها بيريز انتصارًا وانتظرت إسرائيل بعدها تحقيق المكاسب تحولت إلى أمر كارثى على إسرائيل نتيجة رفض مصر للهزيمة وكان الرد الأول باللاءات الثلاث فى مؤتمر الخرطوم أغسطس 67 وبعدها أطلق جمال عبد الناصر عبارته الحاسمة ما أخذ بالقوة لايسترد إلا بالقوة يقول بيريز "جاءت اللاءات الثلاثة من قمة الخرطوم لا للاعتراف بـِ إسرائيل لا للتفاوض لا للصلح ولم تكد تمضي بضعة أيام حتى أطلق جمال عبد الناصر القول المعروف ما أُخذ بالقوة لن يسترَد إلا بالقوة وهكذا فإن إسرائيل كسبت لنفسها مشكلات أمنية جديدة خلال حرب الاستنزاف أما النفير الذي انطلق خلال ساعات الظهيرة في ذلك اليوم المصيرى من عام 1973 فقد أنهى عهد السكينة الإسرائيلى وفجر فقاعة ثقتها بالنفس وتعرضت إسرائيل إلى خسائر فادحة ودفع جيل من المجندين حياته ثمنًا للدفاع عن وطننا".
الغريب أنه بعد سنوات طويلة يأتى صهيونى آخر هو جاريد كوشنر صهر ترامب ومهندس ماسمى بالاتفاقات الإبراهيمية وهى الخارجة من أفكار شيمون بيريز ويبدى غضبه الشديد فى مذكراته " انكسار التاريخ"من قمة الخرطوم واللاءات الثلاث بزعامة مصر ويرى كوشنر أن دخول السودان فيما يسمى بالاتفاق الابراهيمى يحمل قيمة رمزية هامة لأنه ينهى عهد هذه الوثيقة البغيضة كما يصف كوشنر إعلان اللاءات الثلاث، ومن الواضح أن هذه اللاءات الثلاث تسببت فى عقدة نفسية عميقة عند كل الصهاينة.
بالنسبة لحديث الممرات الخضراء والصفراء " فكتالوج " بيريز أو شرق أوسطه الجديد يحمل كافة التصورات حول هذا الصخب الحادث من إقامة علاقات اقتصادية وتجارية وخطوط مواصلات وممرات لنقل البضائع محورها دول الخليج وفى نفس الوقت تكون برعاية أمريكية أو كما يسميها إقامة كونسرتيومات دولية تتولى تنفيذ المشاريع برأسمال مفتوح وهائل أو كما يطلق عليه الآن " ممر بايدن " أو "الممرات الخضراء " وبالتأكيد فهذه المشاريع محورها قيادة إسرائيل لها والتى يتحدث عن دورها المحورى بتعالى وغرور ولكن الأهم أن تكون هذه الاتفاقات خالصة بين إسرائيل والدول التى تراها تحقق مصالحها.
إن حالة الفرح التى يصنعها الصاخبون متصورون أنهم ابتكروا ماهو جديد وأن كافة المعادلات فى الشرق الأوسط سيغيرها هذا الصخب وتتبدل داخل السيرك الإقليمى لعلهم يكتشفون قبل فوات الآوان أن مايظنونه جديدًا ومبتكرًا ماهو إلا أمر قديم معد مسبقًا فى "كتالوج" بيريز لتفصيل شرق أوسط جديد على مقاس إسرائيل دون اي مكاسب للمشاركين في عملية التفصيل.
تبقى الحقيقة التى لا يدركها الفرحون بصخبهم أن تغيير المعادلات والوقائع والتاريخ تقف وراءه الأمم الكبرى ولا يتم داخل الحفلات وبالدعاية أو بالضغط على أزرار تطبيقات الموبايل، هذا التغيير تصنعه أرواح ودماء الرجال الذين وقفوا على جبهات الحرب فحققوا النصر وأجبروا عدوهم على الاستسلام بصيغة السلام.