إبداعات «الحرانية».. تبهر العالم!

صورة موضوعية
صورة موضوعية

■ كتب: هانئ مباشر 

بالقرب من أهرامات الجيزة، تقع قرية «الحرانية» التى تبدو من الوهلة الأولى مثل بقية قرى مصر، لكن ما إن تقترب من «مركز رمسيس ويصا واصف للفنون» إلا وتتغير رؤيتك للمكان بشكل كامل.. وهذا المركز تأسس فى أوائل الخمسينيات من القرن الماضي، كمدرسة للنسيج، وقد تطورت منذ ذلك الحين لمركز فنى يشمل ورش عمل وصالات عرض ومتحفاً للفخار والنحت ومنازل ومبانى زراعية، شُيدت بالكامل من الطوب اللبن، وتعرض إبداعات فنانيه ومنتاجاته فى المتاحف العالمية وكبرى الصالات والمعارض الفنية.

◄ 100 فنان تعلموا إنتاج المنسوجات اليدوية فى المركز

لقد بدأت رحلة المركز سنة 1952، على يد المهندس رمسيس ويصا واصف - نجل السياسي الكبير ويصا واصف باشا الذى كان رئيسا للبرلمان - الذى درس الهندسة المعمارية ثم درس بعدها تاريخ الفن، وأصبح رئيسا لقسم العمارة بكلية الفنون الجميلة. وبدأ مشروعه فى قرية الحرانية وهو لديه إيمان قوى أن الأطفال عندهم عقول حرة، ولم تخضع بعد لقيود الواقع، بالتالى فإن خيالهم الخصب قادر على إنتاج فن متميز، وانطلق برؤية أننا نستطيع تحويل كل طفل لعبقرى نشيط، وأن كل طفل يولد بطاقة إبداعية، وأنه لو سمح لكل طفل بأن يزاول فنا ما، فهذه الطاقة سوف تكبر معه، ومن الممكن أن تصبح مصدر دخل له، وكذلك تمنحه السعادة لأنه يمارس إبداعا يحبه.

وهنا يقول الفنان إكرام نصحى، المدير الحالى للمركز: بالفعل اشترى واصف قطعة أرض فى «الحرانية»، فقد كانت قرية بكر بكل تفاصيلها ومحاطة بالطبيعة الجميلة من كل الزوايا، ولا يمارس أهلها أية مهنة أو حرفة غير الزراعة، وبالتالى يستطيع أن يثبت أن أى طاقة فنية سوف تخرج من الأطفال ستكون منسوبة لإبداعهم الخاص وليس بسبب أى مؤثر خارجى فى القرية.

بنى غرفتين فى قطعة الأرض، إحداهما غرفة يتعلم بها الأطفال النساجة، والأخرى عيادة لأخيه الطبيب ليعالج أهل القرية مجانا، وأمام الغرفتين ملعب للأطفال، وكان رمسيس واصف يزور القرية كل يوم خميس، وبمرور الأيام أحبه أهل الحرانية، وبات واحدا منهم.

◄ اقرأ أيضًا | 7 محطات رئيسية تبدأ بمركز الزوار وتنتهى فى بانوراما ٤

وبدأ مع مجموعة من الأطفال سماهم «الجيل الأول» وطبّق عليهم نظريته فى الإمكانيات الفنية الكامنة داخل الطفل، اختار 14 طفلا أميًّا، وعلى مدار سنتين بدأ يعلمهم ويدربهم على استخدام النسيج على النول، ومن خلال تعليمهم فن النسيج على النول، مع ترك التجربة الفنية لاختيارات الطفل وإمكانياته، وهو ما يقوى شعور «الثقة» بالنفس داخل الطفل ، ويشجعه - أى الطفل -  على إظهار شخصيته فى أعماله الفنية.

لقد اختار أن يصنع الأطفال سجاد الجوبلان (سجاد تنسج عليه لوحات)، فهى حرفة تحتاج إلى صبر، حتى لا ينصرف المتعلمون عنها ويتجهون إلى تعلم حرفة يدوية أسهل، وظهرت بوادر الروائع الفنية المنسوجة فى وقت قصير على أطفال الجيل الأول من فنانى قرية الحرانية، الذين أقيم لهم أول معرض فنى للمركز سنة 1958، فى سويسرا، ومن هنا بدأ إنتاج الأطفال «فنانى المركز» لتتوالى معارض المركز فى مصر وفى دول العالم، ومازال المركز يعمل حتى بعد وفاته.

◄ بيت جدنا
تقول نجلاء رضوان (51 عامًا): بدأت رحلتى فى أروقة المركز منذ نعومة أظافرى، لقد كانت والدتى ضمن مجموعة «أطفال الجيل الأول» وتفوقت فيما بعد فى غزل لوحات السجاد اليدوى، وأنا أعتبر المركز منزلى الثانى، حيث كنت أحضر بصحبة والدتى وكنت ألعب مع بقية الأطفال الذين تحضرهن أمهاتهن بالحديقة أو «السدى» - أى الغزل على أنوال صغيرة - وكان لنا مطلق الحرية كأنه بيت جدنا، واتبعت خطى والدتى وتعلمت فن غزل السجاد اليدوى وأصبحت فنانة أنتج لوحات منذ حوالى 40 عاما.

فيما ترقب الحاجة لطيفة (68 عاما) حديثنا مع نجلاء، وهى واحدة ممن انضممن للجيل الأول من الفنانين منذ كانت فى السابعة من عمرها وتعلمت الفن على يد المعمارى الراحل، وهى الآن أكبر النساء بالمركز عمرا وأقدمهن عملا به.

تسترجع لطفية ذكرياتها مع المهندس رمسيس ويصا، وتصفه بأنه كان شخصا بشوشا ومحبا للكل، تقول: كان يدخل علينا يقول «سعيدة يا أولاد»، أى حاجة أعملها كان «البيه» يقولى حلوة، وحتى الوحش كان يقول لى عليه حلو، وكان يشجعنا عشان نعمل أحسن.

وعلى مدار الأعوام الماضية اعتمدت لطفية وزميلاتها بالمركز على الطبيعة من أجل أفكار لوحاتهم، وذلك من خلال التنزه بحديقة المركز مع الفنانة سوزان ويصا، بحثا عن الإلهام بين النباتات والزهور والطيور، حيث تقول: «بنمشى فى الجنينة نتفرج، هل المنظر ده عاجبنى؟ لا ده أنا كنت عملاه قبل كده، عقلك يودى ويجيب لحد ما اختار الحاجة اللى أنا عايزاها».
أنوال وأنسجة

يعمل بالمركز حاليا حوالى 27 فنانا، ومنذ إنشائه قبل 71 عاما، تعلم أكثر من 100 فنان إنتاج المنسوجات اليدوية، حيث يعتمدون فى اللوحات الكبيرة على نسيج الصوف، الذى ينفذ على «أنوال رأسية»، أما نسيج القطن فينفذ على «أنوال أفقية»، كما ينتجون نوعا آخر من الفن وهو «فن الباتيك» أو الرسم على الأقمشة بالشمع..

تقول «الفنانة سوزان ويصا»: اقتصر تعليم فن غزل لوحات السجاد اليدوى على الجيلين، اللذين قام بتعليمهما والدى رمسيس واصف، ولم نبدأ مع جيل ثالث لأن الإنسان لا يستطيع أن يربى جيلين فى عمره، لأنهم باستمرار بحاجة الى التشجيع، والتأكيد على شخصية كل واحد عشان يقدر يزدهر.

وللأسف فإن الأجيال الجديدة قد تواجه صعوبة فى التمكن من هذا الفن بسبب «المؤثرات الخارجية» مثل شبكات التواصل الاجتماعى، كما أن ظروف الحياة التى عاش فيها الجيلان قد تغيرت، وأصبحنا الآن محاطين بالعشوائيات ومبانٍ قاتلة، بعد أن كنا محاطين بالحقول الزراعية وريف غنى بالطبيعة وجمالها.

وتتراوح المدة الزمنية لإنتاج اللوحة الواحدة من خمسة أشهر إلى عام وفقا لحجم اللوحة وتفاصيلها، ويتقاضى كل فنان ثلث قيمة العمل، علما بأن الأجر يزيد مع نمو المستوى الفنى، وفور انتهاء العمل الفنى يقيَّم ماديا ويتقاضى الفنان أجره من قبل بيع القطعة حتى لا يصبح الفنان عبدا لذوق المشترى وفقا للقائمين على المركز، وتبدأ أسعار اللوحات من 10آلاف جنيه وتصل ل200 ألف جنيه.