«رحمة» قصة قصيرة للكاتب التونسي محمد فتوح

 محمد فتوح
محمد فتوح

   لن تعود رحمة بعد العطلة إلى " الكولاج"، هكذا قرّر والدها الضاوي. فقد حصّلت من المعرفة ما فيه البركة، أو هكذا خُيِّل له، يكفي أن تفكّ رموز رسالة وأن تتمكّن من حلّ مشكلة طرح أو جمع أو قسمة ... ثمّ إنّها قد بلغت من العمر حدّا يخوّل لها مساعدته في أعمال "الهنشير" من حرث وزرع وسقي وعناية بالحيوانات ...

     كان يعوّل في كل هذا على أخيها الباهي لكنّ البئر التي شقيا في حفرها أخذته على حين غرّة.. مات الباهي منذ سنة تقريبا تحت ركام من التراب وهو يحفر للظفر بما يحيي الأرض.. مات الباهي ولم يستطع الضاوي انقاذه

كان لرحيله أثر مدمّر .. فقد هدّ أمه رابحة اكتئاب لم يبرحها حدّ اللحظة وظلّ مرابطا بقسمات وجهها وسجّان حركاتها، وتحوّل الضاوي من رجل بشوش إلى رجل فظّ غليظ الطبع عنيف فكان كلّما اشتدّ به الغضب صرخ في وجه رحمة: ليت الرب أخذك وترك ليَ الباهي.. أنت ستتزوّجين في يوم ما وتؤول ثروتي إلى غريب.. ليت الربّ منحني ذكرا آخر....

كان البكاء الإجابة الوحيدة التي تقدر عليها رحمة. وكانت النقمة على هذا الرجل العنيف تنمو بداخلها يوما بعد يوم وتُنبئ بسوء خاتمة.. كيف لأب أن يتمنّى موت ابنته.. كيف لأب أن يمتلئ قسوة على ابنته وهي براء من كلّ ما حصل..

    أعاد الضاوي منذ أيّام حفر البئر بمساعدة إبراهيم أحد شبان القرية.. بقي أن يحيطها بسياج من الحجارة حماية للحيوانات من الوقوع فيها وأن يثبّت "موتور" لإخراج الماء..

تقدّمت نحوه رحمة تحمل كعادتها قفّة الفطور.. كان الضاوي يرصّف بعض الحجارة حول البئر.. سمع خطوها.. التفت ...

صرخ في وجهها وهو يعود إلى حجارته: لمَ تأخرت يا بهيمة ؟...لم تجبه... تقدّمت بثبات....دفعته بكلّ قواها ....تعالى صراخه وهو يسقط في البئر:

- ربي يهلكك يا ابنة الحرام....