ثربانتس وفلسفة ما قبل ديكارت فى «دون كيخوتة»

صورة أرشيفية
صورة أرشيفية

ثربانتس فى دون كيخوتة لم يقصد عمل فسلفة، لكن مجرد إبداع أدبى، على الرغم من ذلك أظهر بشكل ضمنى من خلال إبداعاته عدة نقاط فلسفية ذات أهمية ثقافية كبيرة. الكاتب الإسبانى لم يتبع منهجاً معيناً، لكنه استطاع أن يحقق الأفكار الفلسفية الاساسية التى عرضها ديكارت فى تأملاته بعد بضعة عقود من الزمن. 
تعرض الكيخوتة جزءين مختلفين بشكل واضح الأول يتمثل فى المغامرة الإبداعية الحقيقية فى الرواية الحديثة التى تتقاسمها مسارات مختلفة مع لاثاريو، والرواية البيكاريسكية (رواية الصعاليك)، الجزء الثانى يعرض الإنجاز الأكبر لهذه المغامرة الإبداعية بعد التغلب على التردد فى العرض، والاخطاء التركيبية. بدوره ومن منظور موضوعى الجزء الأول يعرض شكل الثقافة المتلونة لذلك العصر، أما الجزء الثانى يتمركز بشكل كبير على الصبغة المجتمعية للمجتمع الإسبانى فى ذلك الوقت.

اقرأ ايضاً| د. حسانين فهمى حسين:مو يان مسرحياً

من المثير للاهتمام والدلالة أن الثقافة والمجتمع هما الموضوعان المنتقيان من ثربانتس فى تحقيق عمله، هذه الانتقائية سمحت له المعالجة الفكرية والحياتية، حيث استطاع بهذه الطريقة عرض تجربته الذاتية سواء على المستوى الايدولوجى أو الوجودى من خلال تجربة اجتماعية موضوعية.

انطلاقًا من هذه الافتراضات نستخلص أن عمل ثربانتس فى مجمله يمكن أن يعتبر كتوثيق ذاتى فى مقابل انكار الواقع السياقى، وسيكون الكشف عن هذه الفكرة هو بالتحديد ما سنثيره عن شخصية ما قبل ديكارت فى عمل ثربانتس.

ثربانتس كراوٍ تمسك بالبعد عن عملية القياس العقلانية، مطورًا منهجية سردية ذات طابع استنتاجى؛ فالاستنتاج يهيمن على الجزء الأول من الرواية، والقضايا التى يتناولها تبدأ باللفظ، ثم تمضى إلى التمثيل، وتنتهى دائما باقتراح الاستجواب الضمني. يتجلى اللفظ فى الخطاب، أما الرمزية فتبدو من خلال العمل السردى والاستطرادات، وأخيرًا فإن التساؤل الضمنى لا يُطرح بالسطوة، بل يجب أن يستنتجه ويثيره القارئ وهى وظيفة فاعلة للقارئ الذى يجب أن يواجه الفرضية اللفظية والفرضية الرمزية، بالإضافة إلى السلوك المختلف للشخصيات فى الوجوه السردية المتتالية. 

خلاصة القول أن المبادئ المطروحة من دون كيخوتة فى الخطاب يمكن اختزالها فى الآتي: العلاقة بين الطبيعة والإنسان والعكس صحيح، الحب، الكلمة، العدالة، «خطاب العصر الذهبي»، الأسلحة والحروف «خطاب الأسلحة والحروف»، هذه الافكار الموضوعية تتم معالجتها بشكل متكرر من خلال الرمزية التى تتحول إلى نقاط حقيقية من الهوس التجريبى موظفًا موضوعات ثقافية وأدبية. يريد الكاتب إظهار كيف أدى الانسجام الأولى، اليوتوبيا لما هو طبيعى (عصر النهضة) إلى فوضى مطلقة (عصر الباروك) حيث ينظر إلى الإنسان والحياة على أنهما اسئلة بسيطة منفصلة عن الجنون والعقل، الحقيقة والكذب، العدل والظلم، الهزل والواقعية، الخيال والتاريخ، الحلم والوجود.

الخطاب أفسح المجال للتساؤل الانفصالى لأن فى عالم الخيال سيطر مبدأ الطبيعة لأسباب تعسفية. فى هذا السياق، من السهل أن نستنتج أن الجوهرى قد اختفى أمام الظاهر، كون الشك هو الأساس الجديد للحياة والوعى.

نشهد فى الجزء الثانى من الكيخوتة تحول 180 درجة فى الاتجاه الموضوعى على الرغم من الاحتفاظ بالسمات الموضوعية للجزء الأول. لن تكون الثقافة محط الأنظار، لكن مجتمع ثربانتس نفسه؛ فمن خلال تجول أبطالنا عبر أراضى لامانشا، أراجون، وكتالونيا نجد السمات المميزة لعالم الباروك الاجتماعى المعقد، من خلال العمل نجد المهمشين من المجتمع (الصعاليك المحتالين، والموريسكيين) كما نجد علية القوم فى اسبانيا (الدوقات والارستقراطيين) مرورًا بأصحاب الأملاك وملاك الأراضى الزراعية الاغنياء وعامة الشعب... إلخ. كل الطبقات لها مكان وتعريف. استطاع ثربانتس بانتقائية شديدة تمثيل كافة طبقات وشخصيات المجتمع.

على الرغم من التطور الموضوعى للعمل، إلا أن المؤلف ودون كيخوتة وسانتشو كانوا فى مواضع كثيرة يصدرون احكامًا على بقية الشخصيات؛ حيث ستحدد تلك الشخصيات بسلوكها وأدائها الخصائص المميزة للعمل. وسيكون القارئ من جديد هو من سيقبل بعض الشخصيات ويرفض البعض الآخر.

من المثير للاهتمام، أن نلاحظ فى هذا الاطار المعقد من الشخصيات وجود شخصيتين فقط يمثلان بوضوح الجانب الإيجابى هما: دون دييجو دى ميراندا «الفارس ذو المعطف الأخضر»، وروكى جينارت «قاطع الطريق»، الأول يمثل المجتمع المثالى -الحياة عند ثربانتس- وكرمز للتأكيد الداخلى، ومبدأ موضعى «للحياة الرغدة»؛ أما الثانى فيوثق سبب عدالة التوزيع الطبيعى -المجتمع القانونى المثالى عند ثربانتس- فالكاتب الإسبانى يطمح فى الوصول إلى حالة دون دييجو دى ميراندا وإلى المبادئ الاخلاقية معتمدًا على مبدأ الانسجام بين الانسان والطبيعة –ثقافة عصر النهضة- عند ثربانتس.

ومع ذلك فإن تجربته الشخصية ترفض ذلك الطموح، لكنه أثبت عدم ملاءمة المنظور بين الرغبة والواقع تمامًا كعدم الملاءمة التى تميز العلاقة بين دون كيخوتة وعالمه. وبنفس الطريقة التى انهزم بها دون كيخوتة فى السياق، كذلك ثربانتس أيضًا تغلبت عليه الظروف التاريخية.

فى إطار فوضوى ومتدهور التوازى بين العالم التاريخى والعالم الخيالى حيث المظاهر والظاهر مفروضان لأسباب جوهرية حقيقية، والوعى بالفشل وعدم التكيف يصبحان المحور الرئيسى للحياة، سيصبح من الضرورى اعادة التفكير فى النظرة الكونية للأفكار، وعالم المعرفة، لإعادة تأسيس نظام جديد للمعرفة، واساس جديد للوجود. 

 إن الجدلية بين الوجود والظهور والوعى بالنقص يولد الشك. انطلاقا من الشك سيكون من الضرورى الخوض فى عالم المبادئ الوجودية لإيجاد سبب واضح وحقيقة ثابتة تعمل على تدعيم صعوبة الوجود ومعرفة الوعي. هذه الحقيقة الثابتة وغير القابلة للتغيير تم عرضها فى المقام الأول فى السيرة الشخصية لدون كيخوتة ثم من خلال السيرة الشخصية لثربانتس نفسه.

إن السيرة الشخصية لدون كيخوتة تعد طفرة، فالمثالية فى سلوكه غيرت المعيار الأخلاقى لبعض النماذج غير الموضوعية: كأخلاق بعض فرسان متجولين تناولتها كتب الفروسية.

إن قراءة النماذج الأدبية تعمل كمحفز إبداعى لرد الفعل، فالرد سيكون  الحدث. دون كيخوتة بدلًا من كتابة الشعر الخيالى يضع الخيال الشعرى كمعيار للحياة. خطوة تحفيز الحدث توضح التحول لشخصية ما: كألونسو كيخانو الذى تحول إلى دون كيخوتة، الحياة الشعبية العادية تتحول إلى وجود نموذجى عند تحول الأفكار من حيث المبدأ وتبرير السلوك. الفكر يصنع حياة، والخيال الشعرى يصنع الوجود. بهذا المعنى – كما يؤكد إيميليو ليدو- التقليد يتحول إلى إبداع.

لكن كل فعل يتطلب إرادة، لذلك السيرة الشخصية لدون كيخوتة هى سيرة لإرادة متجهة نحو الفعل مؤكدة بهذه الطريقة الذاتية بعينها، وهى معرفة الذات التى تعطى فى النهاية الصلاحية للفعل ولسلوك البطل.

لكن إعادة التجسيد الحقيقى للنماذج يتطلب اتجاهين للسلوك: السلوك الخارجى للبطل فى مواجهة العالم، والسلوك الداخلى للبطل فى مواجهة نفسه. فى الحالة الأولى السلوك الخارجى للبطل أمام العالم يؤكد فشله؛ حيث يثبت عدم الملاءمة الكاملة بين الأهداف المرغوبة والنتائج المحققة، كاشفًا بهذه الطريقة الجانب الساخر من شخصية بطلنا، وبالتالى البناء الساخر للعمل. فى الحالة الثانية، السلوك الداخلى للبطل تجاه نفسه يؤكد انتصار الشخصية؛ حيث استطاع ان يحقق التماهى الكامل بين الغايات والنتائج المحققة مولدًا بهذه الطريقة هالة اسطورية لبطل الرواية والبناء الاسطورى للعمل ككل.

بطريقة ذاتية استطاع البطل الانتصار لأنه من خلال تمسكه بمُثُل الفروسية تحولت حياته إلى نوع من التطهير والزهد، غايته المثلى واكتساب الفضيلة، والكمال الاخلاقي. انطلاقًا من وجهة النظر هذه يكون دون كيخوتة بطلا محتملا. بالقاء نظرة خارجية على السياق نجد أن دون كيخوتة بطل قد اخفق؛ حيث لم يستطع الانخراط فى عالم المُثل الذى دافع عنه، فكرة تطلع الإنسان إلى الكمال. من هذا المنظور يعتبر دون كيخوتة بطلا مستحيلا.

بغض النظر عن رد فعل القارئ الذى من السهل توقع استجابته، من الواضح ان كل مغامرات دون كيخوتة هى أعمال لتأكيد الذات فى مواجهة محيط ينكره بإصرار. لذلك فهو فى مواجهة الفوضى فى العالم الخارجى يبالغ فى الفردية الشخصية، الوعى بتلك الذات التى تواجه العالم. الوعى بالذات والرغبة فى إبقاء الذات على قيد الحياة دائمًا من خلال العمل تصبح الركائز الوحيدة التى تعطى معنى وسببًا لوجود الفرد. لذلك تبدو الذات كمحور مركزى لنظرة العالم الحيوية والروحية الكاملة لعالم دون كيخوتة الخيالي. لكن مقارنة بالذات المتفكرة عند ديكارت، نجد فى حالة دون كيخوتة الذات الفاعلة ذات الطابع الاخلاقى، إرادة ذات سلوك أخلاقى تؤسس للمبدأ الضمنى «أنا أتصرف بشكل أخلاقى، إذن أنا موجود».

بهذه الطريقة، الوجود والطبيعة عند دون كيخوتة لن يمكن تفسيرهما بالشكل الكافى من خلال مثالية التصرف، أى الحافز، لكن من خلال العمل التطوعى، أى الاستجابة. عندما هزم دون كيخوتة من فارس القمر الابيض على شاطئ برشلونة، بطلنا لم ينكر مثالية دولسينيا، أى الحافز، لكنه كان يجب أن يستسلم للتصرف، أى الاستجابة. الفارس المتجول بدون عمل يتوقف عن أن يكون بطلاً، ما يؤكد حدوث طفرة واضحة فى الطبيعة، لذلك من ناحية يتنازل دون كيخوتة عن كونه دون كيخوتة كى يتخذ طبيعته الأولى طبيعة الونسو كيخانو، من ناحية أخرى. 

 إذا كان الفعل سببًا للوجود، فإن رفض الفعل يعنى الموت باعتباره إنكارًا للوجود. وهى النتيجة الأكثر منطقية. ومع ذلك، على الرغم من وفاة ألونسو كيخانو، إلا أن دون كيخوتة يعيش منذ ذلك الحين كشخصية أدبية، مثل أسطورى للسلوك و»تجسيد لأنبل حالة انسانية ستعيش إلى الأبد فى ذاكرة الناس، وذلك بفضل إرادته فى أن يخلد نفسه ويصبح فارسا مشهورا».

إن إعادة تسليط الضوء على دون كيخوتة وموت ألونسو كيخانو ينطوى على نهاية المثالية، أى نهاية اليوتوبيا.

ثربانتس من خلال عمله الخالد «أبدع أسطورة فارس مستحيل؛ فاستحالته نفسها تفسر الحالة المؤلمة لمجتمع لا معنى فيه للأغراض النبيلة.

ثربانتس –تاريخه الشخصي- أمام استحالة إعطاء الحياة السلوك الأخلاقى فى عالم منحط ومهين، يرفض مبدأ العمل المثالى كسبب للحياة - نهاية اليوتوبيا- لدعم سبب آخر للوجود: التجربة الإبداعية.

 بهذه الطريقة، يتم تأسيس اليوتوبيا واليوتوبيا المضادة لثربانتس، لأن التجربة الإبداعية هى الحقيقة الوحيدة الحقيقية والقابلة للإثبات وسط كل من سوء الفهم وخيبة الأمل.

 إن خيبة الأمل أمام العالم قادت ثربانتس إلى تأكيد ذاته، وروحه الإبداعية، حيث تكمن الرغبة فى الخلود البشري. تمتد أبدية دون كيخوتة فى ذاكرة الناس إلى ذات ثربانتس الإبداعية. فالبراعة والإرادة هما فقط اللتان تخلقان قنوات الحياة الأبدية للشهرة. دون كيخوتة كرواية تمثل الانتصار الحقيقى للإرادة الإبداعية التى تدعمها البراعة.

 بهذه الطريقة يرفض ثربانتس حاضره التاريخى، ويؤكد وجوده كإرادة خلاقة ويوجه ذاته الإبداعية نحو مستقبل الشهرة الخالد. فكرة «الأنا» او الذات عند ديكارت تستند إلى الحاضر التاريخى كأساس للحقيقة المطلقة «أنا أفكر، إذن أنا موجود» لكنها تحولت عند ثربانتس إلى «أنا» مبدعة بها إسقاط على المستقبل التاريخي:»لقد أبدعت، لذا سأكون موجودا».