..هذا العنوان "النباهة والاستحمار"خاص بكتاب عالم الاجتماع والمفكر الايرانى على شريعتى الذى اغتيل فى لندن 1977 وكما يقال فإن من اغتاله "السافاك"أو جهاز مخابرات الشاه ولكن من قرأ مؤلفات واطلع على أفكار شريعتى سيجد أنه كان مهددًا أيضا من غلاة أتباع ملالى طهران والذين استولوا على الحكم فى ايران فى عام 1979عقب الثورة وأطاحوا بكل التيارات الأخرى التى شاركتهم فى صناعة الحدث.
لن نناقش تاريخ شريعتى أو من كان وراء اغتياله ولكن مايهم هنا هذا العنوان أوالمصطلح الذى صاغه المفكر وعالم الاجتماع على شريعتى، رغم أن هذا الكتاب صدر منذ سنوات بعيدة إلا أن المفهوم الذى يحمله هذا العنوان أو المصطلح يحضر بقوة الآن خاصة بعد أن استولت وسائط السوشيال ميديا على أغلب تفاصيل المجتمع البشرى وأصبحت فاعلا رئيسيًا فى تشكيل العقل الانسانى ورؤية ملايين البشر تجاه أى حدث من خلال تدفق مليارات الكلمات والصور والفيديوهات وأطنان المعلومات مجهولة المصدر.
بالتأكيد لم يكن يقصد شريعتى بعنوانه أو مصطلحه العالم الافتراضى لأن هذه الوسائط ظهرت بعد وفاته بأكثر من عقدين لكن المفهوم الذى تحمله عبارة " النباهة والاستحمار" تجد فيه الكثير من الدقة عندما تراقب ما يحدث على السوشيال ميديا.
يقصد شريعتى هنا بالنباهة الوعى الذى يجب أن يمتلكه المواطن، المثقف، الإنسان عمومًا للحكم على ما يعرض عليه وألا يصدق بسذاجة كل مايراه ، يسمعه ، يقرأه أو يقال له لأن عدم امتلاك هذا الوعى أو النباهة سيقود الإنسان إلى فخ الاستحمار أى يتحول الإنسان العاقل إلى حمار يقوده من يتحكم فيه بالزيف والخداع وبالنظر إلى مايحدث فى السوشيال ميديا سنجد أن مستويات النباهة عند سكان العالم الافتراضى منخفضة كثيرًا أما السائرون إلى فخ الاستحمار فحدث ولا حرج.
هل تبدوالنسبة بين النابهين والسائرين إلى الفخ غير واقعية أو بها تجنى على سكان العالم الافتراضى؟ الحقيقة أن من يقدم الإجابة على السؤال طبيعة العلاقة على السوشيال ميديا بين التدفق الحادث "للمعلومات" بشتى صورها والمتلقى أو ساكن هذا العالم الافتراضى والأمثلة كثيرة التى تؤكد أو تنفى هذه النسبة.
فجأة تجد مجتمع السوشيال ميديا يحتفى ويصدق "معلومة " واستخدام لفظ المعلومة هنا مجازى فأغلب ما يتم نشره لا ينتمى إلى مجال المعلومات بأى صلة ومايزيد من الدهشة أن المروج لهذه «المعلومة» لم يخف هويته بل يعلنها صراحة وبالنظرة العابرة فصاحب المعلومة المحتفى بها هو بكافة المقاييس السياسية والتاريخية والحضارية حتى الجغرافية منها هو عدو صريح لهذا المتلقى السعيد بتلك المعلومة ولم يتريث المتلقى لثوانى من أجل فحص مايتلقاه من العدو الذى أعلن عن نفسه صراحة.
من أجل أن تزداد الدهشة لا يكتفى المتلقى بالسعادة بل يسهم مع عدوه فى ترويج ما تلقاه بهمة ويتفاعل بنشاط مع هذا الزيف المعلوماتى، فى هذه الحالة اختفت معدلات النباهة بشكل كامل عند المتلقى ولم يقع فى الفخ المنصوب بسبب الغفلة ودهاء صانعى الفخ لكن بعد أن أعلن العدو عن نفسه صراحة فالمتلقى يسرع بنفسه الى الاستحمار وإن تأخر عليه سيطلب الاستحمار "دليفرى".
ننتقل إلى حالة أو مثال آخر وستجده أكثر وضوحًا على منصة " أكس " تويتر سابقًا، بدون مقدمات أو سابق إنذار يهبط على التايم لاين للمنصة شخصية مجهولة الهوية والتوجه وتصنع لنفسها حسابًا على المنصة ، هذا التجهيل أو عدم معرفة الهوية قد يصبح أمرًا غير مهم عندما نصادف هذه الحالة فى تعليق أو تعقيب لكن حساب هذه الشخصية على منصة " أكس " يتحول إلى مركز ضخ " للمعلومات " بواقع "معلومة" كل ثانية ، تغطى معلومات الحساب الغامض وصاحب الحساب الأكثر تجهيلا كافة الأحداث الجارية والتى جرت وما ستجرى ولو وقف الأمر عند هذه التغطية أو نقل الحدث لكان تقييم الحساب أن صاحبه يعانى من حالة فراغ قاتل.
تأتى المرحلة الثانية فلا يكتفى صاحب الحساب المجهول بهذا الضخ "المعلوماتى" فهو يتحول فى أيام قليلة عقب ظهور حسابه الى جهاز استخبارات سوشيالى يقدم "المعلومات " السرية والحصرية حول أى أمر حدث أو يبتكر هو وحسابه أمرًا سيحدث لأنه عليم بكل مايجرى وله مصادره المنتشرة فى كل ركن من أركان هذا الكوكب، المفترض هنا أن تكون النباهة هى المقياس فى الحكم على هذا الحساب وصاحبه المجهول فيبتعد المتلقى عن هذا العبث لكن يحدث العكس فتجد آلاف المتابعين يلهثون وراء ما يقدمه هذا المجهول من زيف فقد استطاع المجهول وحسابه إيقاع هؤلاء فى فخ الاستحمار.
لماذا يجب أن تكون النباهة هى المقياس؟ لأسباب تبدو منطقية لكل ذى عقل فالعبقرى المجهول يضخ كمًا من "المعلومات" فى الساعة الواحدة تحتاج إلى مؤسسة كاملة لتقدم هذا الكم "المعلوماتى" وشبكة جبارة من المصادر التى تغطى كل شئون النشاط الإنسانى من السياسة إلى الرياضة ولا يمكن لفرد القيام بهذا العمل إلا لوكان شخص ذو مواصفات خاصة لا يشرب أو يأكل ولا يعمل ثم لا يفارق موبايله على مدار الساعة.
تشير النباهة على صاحبها عندما يتعامل مع هذه البديهية الأولى أنه ليس أمام شخص طبيعى بل أمام جهة ما تريد إقحام وعى زائف فى رأس المتلقى بهذا الكم من "المعلومات " الغريبة وغير الواقعية ولكن يترك الكثير من المتلقين فعل النباهة ويسيرون فى سعادة إلى فخ الاستحمار.
لا يحتاج الأمر إلى علم غزير أو نباهة مفرطة من المتلقى ليكتشف أن الحساب وصاحبه المجهول يطبقان بديهيات استراتيجيات التسويق على السوشيال لترويج السلع المباعة أون لاين، الفارق أن المجهول سلعته المعلومات الزائفة ، ستجد هذه الاشتراطات الأولية مطبقة بدقة على الحساب المروج للزيف، ستجد اسمًا جذابًا يحمله الشخص المجهول أو الحساب نفسه، صورة فوتوغرافية مميزة لصاحب الحساب وبالتأكيد هى صورة مصنعة وإذا لم تكن هناك صورة فأيقونة الحساب ستجدها أكثر جذبًا بالنسبة للمحتوى المقدم فهو لا يكتفى بالنص المكتوب، بل يقدم محتوى متنوعًا من الفيديو والصور والجرافيك والإحصاءات وكلها تخضع لقاعدة واحدة وهى الزيف الكامل ، بالنسبة للتعريف المصاحب لشخصية صاحب الحساب ستجد تعريفًا فخمًا لأن صاحب الحساب يحمل شهادات أو يمتلك خبرات فى كل مجالات الحياة وفى نفس الوقت لن تستطيع الاستدلال من هذا التعريف الفخم على طبيعة العمل الذى يمارسه المجهول صاحب الحساب.
الأمر الآخر الذى يطبقه المجهول وحسابه وهو الأكثر أهمية فى اشتراطات التسويق هو التفاعل النشيط ، فمع كل تعليق من الواقعين فى الفخ يعقب المجهول وحسابه فيشعر المعلق أو المستحمر أنه شخص مهم وذو حيثية لأن صاحب الحساب يخصه بالتعقيب ويرى فى تعليقه عمقًا فلسفيًا خطيرًا ،أيضا من ضمن اشتراطات التسويق أن يتوقف المجهول وحسابه عن ضخ المعلومات الزائفة فجأة ثم يقدم للواقعين فى الفخ قصة إنسانية مفبركة أو قصة نجاح غير واقعية ومسلية وبالتأكيد تتجه نفس القصص المزيفة لتحقيق نفس الغرض وهوإحكام الفخ على الواقعين فيه ولكن بالطرق العاطفية.
يمكن أن نطلق على هذا المثال أو الحالة أنها حالة "الوثيقة " أو "التسريب"وهى لا تخص منصة بعينها ففجأة تجد "وثيقة" أو " تسريب " ينتشران كالنار فى الهشيم على كافة جغرافيا السوشيال ميديا وسبب الانتشار ولهاث الواقعين فى فخ الاستحمار ورائهما والمساهمة فى الترويج لهما أنهما يحملان أسرارًا خطيرة ورهيبة وبالتأكيد المستحمرين تعطل عندهم فعل النباهة وتناسوا أن مع ظهور السوشيال ميديا والتطور التكنولوجى الذى لا يتوقف لثانية واحدة أصبح هناك الذكاء الاصطناعى والتزييف العميق اللذان يستطيعان خلق واقع كامل وهمى وغير حقيقى بالصوت والصورة والنص، لكن مع تعطل فعل النباهة يصبح الاستحمار هو السيد ويرى الواقعون فى فخه أن ما يتعاملون معه من زيف مكتمل الأركان هو عين الحقيقة.
بالتأكيد لو قررنا تتبع كل الأمثلة والحالات التى تجيب على السؤال الذى طرحناه فى البداية وترصد معدلات ونسب النباهة والاستحمار على السوشيال ميديا سنحتاج إلى مجلدات ولن تكفى هذه السطور.
يبقى أن امتلاك فعل النباهة يحتاج من المتلقى أن يعمل على عقله ونفسه أما الذهاب إلى فخ الاستحمار فلا يحتاج من المتلقى سوى أن ينسى عقله ونفسه.