«يوميات قاض19».. قصة قصيرة للكاتب المستشار بهاء المري

الكاتب المستشار بهاء المري
الكاتب المستشار بهاء المري

«يوميات قاض19» قصة قصيرة للكاتب المستشار بهاء المري

الشاهد الرابع 

 

لم يزَل مُعتصِمًا بالإنكار، يُصرُّ دفاعهُ على مُناقشة الشُهود، تَسري هَمهمةٌ في القاعة اعتراضًا من أهل القتيل، ظنوه تسويفًا ليَستطيل أمَد التقاضي، تُقابلها زَمجرةٌ مكتومة من أهل القاتل، العائلتان كبيرتان واحتدمَ الصراع، جاء كل طرفٍ بما استطاع من مَشاهير المحامين.

تعودُ القاعة إلى الصمتِ مع دقاتٍ متتالياتٍ على المنصة، يَتعجَّب القاضي في داخله لهذا العَددِ من الدفاع، القضية مُتكررة الوقوع ولا تحتاج إلى مثل هذا الفريق،ربما المقصود هو استعراض كل طرفٍ لقوته المادية، يَستجيبُ لطلبات الدفاع ويَضربُ أجلاً لمناقشة الشهود.        

خلافاتٌ محتدمة تضرب بجذورها في عُمق تاريخ العائلتين، يُؤجِّجها كل حين وحين خُلُوِّ مَنصب العُمُديَّة، ويُزكِّى نيرانها صِراع الترشُّح من جديد.     

يَنشَبُ نزاعٌ بين القاتل والقتيل على حَدٍّ فاصل بين أرضيهما الزراعية، يتجمع الجيران لفضِّهِ كعادة أهل الريف فيفشلون، النفوس مَشحونة بالكراهية، تثور في نفس القاتل تراكمات حِقد السنين، يُهرَع إلى فأسه، يَنهالُ بها فوق رأس القتيل وجسده؛ فيَلفظُ أنفاسه في التوِّ أمام الشهود.                                          

يقع الشهود في حَيص بَيص، ثلاثةٌ منهم حَسموا أمرهم، لم يَقوَوا على الشهادة ضد القاتل شقيق العُمدة، قالوا هُرعنا إلى المكان بعد حصول القتل ولم نَرَه، أمَّا رابعهم كان مُنصِفًا، لم يخشَ أحدًا، قال في التحقيقات إنه وأولئك الثلاثة أبصروا القاتل وهو يقتل، انهال على القتيل بالفأس فوق رأسه فأرداه في الحال قتيلاً، تُواجهه النيابةُ بإنكارهم، يقول إنهم جبناء، أما أنا فلا أخشى إلا الله.

لاذَ به أهلُ القتيل، قصدوهُ في مسكنه بجَمْع غَفير من رجالهم على رأسه عميد العائلة إعلاءً لشأنه، قال له كبيرهم: "أنتَ رجلٌ شَهم، ولا تخاف أحدًا، وقد شهدتَ بالحق حين جَبُنَ غيرك، ونَثقُ فيكَ مرةً أخرى أمام القاضي غدا، علِمناكَ مُنصفًا لا تخاف إلا الله" شدَّ جسمه إلى أعلى وامتلأ ثقةً في نفسه وأجابهم: بالطبع سأشهد بما رأيت، الشهادةُ أمانة،ولن ينفعني أحدٌ في قبري.

 

لم يَنَم ليلتها، كان يَظُن الأمر قد انتهى بشهادته في النيابة، وبالمقاطعة التي ضَربَتها حوله عائلة العُمدة، ولكنه تَذكَر قول كبير العائلة الأخرى: "أنتَ رَجلٌ شَهم ولا تخاف أحدًا"، كما أنه ليس غبيًا كما كان يُناديه العُمدة طَوال عَمله عنده إلى أن صار ابنه شابًا وسافَر إلى الخارج واشترى فدانًا منذ سنتين واستقل عنه وتَحرَّر من إهاناته له وضرَبه في أحيانٍ كثيرة، إنه يَشعر في هذه الليلة بالذات أنه أصبح مُهمَّا، ويزداد شُعورًا بالإحساس بالزَّهو كلما تَذكَّر أنَّ العُمدة نفسه لم يَقوَ حتى هذه اللحظة على أن يَطلب منه تَغيير شهادته.

 

يُناقش القاضي الشهود، لم يأتِ الثلاثة المراوغون بجديد، أمَّا الرابع الذي لم يَخَف فقد راح يَنظرُه وهو يُسائل نفسه: تُرى هل سَيظل هذا الرجل على شهادته، أم سَينحو مَنْحَى أهل الرِّيف بعد أن تهدأ نيران الحوادث ويَتصالحون، ثم يوجِّهون الشهود ليُشَيِّعوا الاتهام عند مناقشتهم بجلسات المحاكمة؛ فيقولون ما شهدنا إلا بما سمعنا ولم نرَ رُؤيا العَين، بعد أن قالوا في حينه إنَّا أبصَرنا.

يسأله القاضي عن اسمه وسِنِّه وصناعته، يُجيبُ وهو يلتفتُ ببطء إلى الجالسين من خلفه بعينين خائفتين وملامح مُرتعدة، يُلقى عليه صيغة اليمين، يَنطقُ منها بكلمتين ويُكمِل الباقي وهو يلتفت إليهم مرة أخرى بذات الذُّعر البادي على وجهه.

 

يُلاحظ القاضي أنَّ أحدهم يَبتسمُ له كلما التفتَ إلى الخلف، يُنبه الشاهد إلى الثَّبات في مكانه والشهادة من دون خَوْف، وأنَّ الشهادة أمرٌ عظيمٌ عند الله، ويبدأ في سؤاله: 

- ما معلوماتك؟

          ترُوحُ عينا الرجل ذات اليمين وذات اليَسار ولا يَنبس بحرف، يَظَنَّه القاضي مُضطربًا يهابُ الموقفَ فيُطمئنه، فيَنظر إليه ثم إلى الخلف، ويَهُمُّ بالكلام ثم يُمسكُ عنه.

صوتٌ يَصْدرُ من بين الجالسين في القاعة يُخاطبه:

- قُل شَهادَتك يا عبد العاطي.

          يأمر القاضي بإحضار صاحب الصَّوت أمام المنصة، إنه العُمدة، وهو الذي كان يَبتسم لعبد العاطي كلما التفتَ إلى الخلف، يأمر بإدخاله القَفص، يَحبسه لإخلاله بنظام الجلسة،ثم يعودُ إلى عبد العاطي بسؤال مُحدَّد:

-  هل أبصرت القاتل وهو يَقتل كما شهدتَ في تحقيقات النيابة يا عبد العاطي؟

تروح عينا عبد العاطي تجاه القفص، ثم ترتدُ إلى القاضي زائغةً، ويُجيبُ في تمتمةٍ وخوف:

- لم أرَهُ يَقتُل يا سعادة البك!!  

اقرأ أيضا | «بنت اللِّعْب».. قصيدة للشاعرة رضا عبد النبي نوح