كشف حقيقة الاستشراق الفني| أنغام شرقية في موسـيقى الغـرب!

بعض المستشرقين انصف تاريخ الموسيقى العربية وفضلها على أوروبا
بعض المستشرقين انصف تاريخ الموسيقى العربية وفضلها على أوروبا

■ كتب: رشيد غمري

عُرف الاستشراق كاهتمام غربي بشئون الشرق، وثقافته، وفنونه. واشتهر منه كتابات الرحالة، ودراسات الباحثين، ولوحات الرسامين، بما عكسته من ولع بسحر الشرق وغموضه، وما اتهمت به من التمهيد للاستعمار، والعمل على ترسيخه. لكن تبدو الموسيقى وكأنها غائبة عن المشهد، ونادرا ما تذكر. فهل تجاهلها الغرب، لسبب ما، رغم كونها الفن الأكثر شعبية، أم أن الاستشراق الموسيقى لم يحظ بالشهرة كغيره من الدراسات والإبداعات التي استلهمت الشرق، ونهلت من معين إبداعاته وتراثه؟

◄ اليونان القديمة اعتبرت الموسيقى المصرية مثلها الأعلى

◄ زرياب نقل موسيقى الشرق لإسبانيا 

◄ إدوارد سعيد رأى فى أوبرا عايدة تنميطا للشرق

تحظى لوحات المستشرقين بالاهتمام، حتى أنها تعتبر مرجعا فيما يخص بعض جوانب التراث. وقد تباينت ما بين الواقعية، والرومانسية، وبالغت أحيانًا لتعزيز صورة ذهنية مسبقة، مستوحاة من ألف ليلة وليلة، أو لغرض ما.

وعلى كل حال فقد أدت اللوحة أغراضا معرفية ودعائية، بصرف النظر عن صدقها، حتى أنها ألحقت بالكتب، واعتبرت وثائق بصرية، حول الشرق كموضوع للدراسة. وهى بالتأكيد تختلف عن الموسيقى بتجريديتها التى قد لا تخدم أغراض التعريف والدعاية المباشرة، كما لم تكن هناك وسائط لحفظها ونقلها فى ذلك الوقت. فضلا عن أنها كانت تعيش حقبة اضمحلال، فى حين بلغت موسيقى الغرب قمتها.

◄ إعادة تأريخ
ورغم كل ما سبق فقد حظيت الموسيقى الشرقية بدراسات عديدة من قبل الغرب، شملت تاريخها، وتطورها، وجوانبها الفنية. وإذا كان لنا أن نرجع إلى البدايات، سنصل إلى اليونان القديمة التى اعتبرت الموسيقى المصرية مثلها الأعلى. وهى حلقة مبكرة للاستشراق وفق «إدوارد سعيد».

أما خلال العصور الوسطى، فقد تحدث مؤرخون غربيون باستفاضة عن تأثر الغرب بالموسيقى العربية خلالها، ومنهم «هنرى جورج فارمر» فى كتابه «تاريخ الموسيقى العربية». وعدد الدلائل على عبور النغم الشرقى إلى جنوب وغرب أوروبا، حيث نقل «زرياب» موسيقى الشرق إلى إسبانيا التى ارتحل إليها من بغداد.

◄ اقرأ أيضًا | البيروني أعظم علماء عصره وأول من اكتشف الجاذبيه الأرضية

كما كان لتجاور الإمبراطورية البيزنطية مع العرب أثره أيضا. ويشير الكتاب إلى أن مؤلفات الفلاسفة والعلماء المسلمين حول الموسيقى كانت ذات أهمية فى فهمهم لنظريتها. ويدافع عن الحضارة الإسلامية التى ينسب لها البعض معاداة الفنون، فيشير إلى أن دعاوى التحريم لم تجاوز آراء بعض الفقهاء، وبقيت الحياة الرسمية، والشعبية بمنأى عنها. وأنه فى وقت أبكر مما نعتقد عرف العالم الإسلامى ظاهرة الموسيقار المحترف. وبعضهم حقق مكانة اجتماعية مرموقة.

ويشير إلى أنه فى نهاية حقبة الخلافة الراشدة كانت الحجاز قد عرفت الغناء المتقن بإيقاعات مستقلة، بعد أن كانت تقتصر قبل الإسلام على نوع واحد منه يسمى «النصب». أما النهضة الحقيقية فجاءت في عصر المأمون، حيث اشتمل بيت الحكمة على دراسات موسيقية توازت مع الفلسفة والرياضيات.

واستمر الأمر حتى عصر المعتصم، والذى كان أبو إسحق الموصلى الموسيقى الشهير أحد ندمائه. ووصل الأمر إلى أن الخليفة الواثق تعلم ضرب العود، وتفنن فيه. ووصفه حماد ابن اسحق الموصلى بأنه كان أعلم الخلفاء بهذا الفن. ويستشهد المستشرق بما أورده الأصفهانى فى كتابه «الأغاني» عن حلاوة صوت الخليفة. وكذلك كان «المهدي» يتقن الغناء وفقا للمؤرخ أبو الحسن المسعودي. 

◄ عصور التأثر
هذا الازدهار للموسيقى العربية وجد طريقه إلى الأندلس، ومنها إلى قصور أوروبا والتى اعتبر حكامها أن الاهتمام بالموسيقى من أسباب تقدم العرب. كما تمت الاستعانة بموسيقيين ومغنين مسلمين لإحياء حفلات قصور جنوب فرنسا وصقلية وشمال إسبانيا. وضم بلاط بطرس الرابع العديد منهم، وهو الذى أنشأ مدرسة لتعليم الموسيقى العربية. وفى كتابه «أصول التربية الإسلامية فى الأندلس» تحدث المستشرق الإسبانى «خوليان ريبيرا» عن أصل الموسيقى الإسبانية فى العصور الوسطى، والتى ترجع إلى العرب، إذ قبلهم كانت الموسيقى مجرد تنويعات على ألحان كنسية ذات أصل يوناني. كما يشير إلى أن العود ظل يعزف فى أوروبا الغربية حتى عصر الباروك (القرن السابع عشر).

ووفقا للمؤرخ الموسيقى «كوت زاكس» فإن الكثير من الآلات الغربية لها أصل شرقي، ومنها البيانو الذى يرجعه إلى آلة «الشقير» التى طورها زرياب فى الأندلس، والجيتار الإسبانى الذى يرجع إلى العود، و«الليرة»، من عائلة الكمان، ولكنها تحتوى على قرص دوار داخلها بدلا من القوس، و«اللوت» التى تشبه العود. 

كذلك تلقف الغرب كتب «ابن الهيثم» عن الموسيقى كعلاج وأثرها على النفس البشرية، وحتى على الحيوانات، وبالمثل مؤلفات «ابن سينا»، وكتابات «الكندي» عن ممارساته بشأن العلاج بالموسيقى.

فترة الاتصال هذه أعقبها فى أوروبا تطور، وصل ذروته فى  عصر النهضة والباروك، وصولا إلى القرن التاسع عشر، معتمدة على «البولوفونية» (تعدد التصويت)، وقوالب «السوناتا» و«الكونشيرتو» و«القصيد السيمفوني»، محلقة فى آفاق فكرية وتأملية وتعبيرية ودرامية غير مسبوقة. ومن المفارقات أن تتوقف الموسيقى العربية وموسيقى الشرق الأدنى عن التطور، متكتفية بإنجازاتها الأولى، قبل أن تدخل مرحلة جمود واضمحلال فى ظل العثمانيين.

تعتبر متتالية شهرزاد لـ«ريمسكى كورساكوف» نموذجا للموسيقى الغربية التى استلهمت الشرق. كذلك قصيدة السيمفونى «عنتر»، والذى استخدمت موسيقاه لمصاحبة مسرحية من تأليف الفرنسي من أصل لبنانى شكرى غانم أواخر القرن التاسع عشر. كما اعتبرت أوبرا عايدة للإيطالى «فيردي» وبعض أعمال «روسيني» كنماذج للاستشراق الموسيقي، وبالمثل بعض مقطوعات «شتراوس» كـ«المارش المصري»، و«أرابيلا»، حيث أراد تقديم موسيقى ذات طابع عربى بعد زيارته إلى مصر، ولكنها أتت بتأثيرات شرقية، ليست عربية. وقد أشاد النقاد باستلهاماته الشرقية فى عمله «سالومي». كذلك ضمّن «تشايكوفسكي» بعض أعماله مثل «بحيرة البجع» موسيقى شرقية. وعلى العموم فإنه منذ القرن التاسع عشر، بدأ بعض المؤلفين الغربيين تجربة الألحان والإيقاعات والأصوات المستوحاة من الشرق بحثا عن التجديد والتميز. 
الأفكار الصوفية

وفى منتصف القرن العشرين بدأ بعضهم مثل «جون كولترين» فى استكشاف الأفكار الصوفية والموسيقى الهندية، وظهرت خصوصا فى ألبومه «الحب الفائق»، ضمن تيار الجاز الروحي. كذلك «كلود ديبوسي» الذى استخدم السلم الخماسى فى بعض أعماله. وبدأ فنانو الروك مثل البيتلز (وخاصة «جورج هاريسون» فى تضمين آلات شرقية مثل «السيتار» فى موسيقاهم، وقد تعلم العزف عليه من الفنان الهندى الشهير «رافى شانكار».

كذلك فرقة الروك البريطانية «ليد زيبلين» التى تأثرت بالموسيقى المغربية والشرق أوسطية، كما فى أغنية «كشمير» و«بيتر جابرييل» الذى اهتم بالموسيقى الشرقية وأنشأ مهرجان «ووماد» للجمع بين النغم الشرقى والغربى وفنون العالم. كذلك قدم النرويجى «إدوارد جريج»، أعمالا ذات تأثيرت شرقية.

وحتى فى القرن الحالى فإن بعض الفنانين يستخدمون عناصر من موسيقى الشرق فى كل شيء، من موسيقى البوب ​​التجارية وحتى الموسيقى الإلكترونية والموسيقى التجريبية. ومــــن أشهرهم «راديوهيد» و«بيونسي».

◄ استشراق زائف
هذا الاستلهام لموسيقى الشرق، تعرض لنقد حاد من البعض بوصفه استشراقا مصطنعا، أرجعوه إلى عدم اطلاع الموسيقيين على الموسيقى الشرقية بشكل كاف، بالإضافة إلى استخدام تلك الموسيقى دون مبرر فى أحيان أخرى. وفى دراسة بعنوان «الرحلات الموسيقية وأمتعتها» لـ«جونثان دى بيلمان» انتقد الاستشراق الموسيقي، مؤكدا أنه لا يمكن أخذه بجدية، وأنه تافه، وبلا طعم. وهو المعنى الذى أكد عليه أيضا «إيجور سترافينسكي» وهو يفند استشراق «سيزار كوي»، وأغلب الموسيقى الروسية والمجرية والأسبانية ذات الطابع القومى فى القرن التاسع عشر.

كما وصف الناقد «جوزيف كيرمان» أغنيات «بوتشيني» فى فيلم «تيراندوت» بالمملة لأنها تنطوى على استشراق زائف وغير مبرر. وهو نهج كتاب ونقاد ما بعد الاستعمار حتى أن البعض وصفوا الاستشراق الموسيقى بالضار، وكذلك انتقد إدوارد سعيد استشراق «فيردي» فى «أوبرا عايدة»، وقال إنها تعكس النظرة النمطية تجاه الشرق.

ومع ذلك فإن تأثير الموسيقى الشرقية لم يتوقف، وخصوصا مع استقبال الغرب لجاليات شرقية، سربت النكهة إلى أعمال العديد من الفنانين، ومنهم «ديك ديل» وأغنيته «مسيرلو» والتى وضع بصمته عليها فى الستينيات حيث عرفها من أعمامه اللبنانيين. كما ظهرت الجملة الموسيقية الرئيسية من أغنية «خسارة خسارة» لعبدالحليم حافظ ومن ألحان بليغ حمدى كخلفية لأغنية «بيج بيمبين» لـ«جاى زي»، (رفعت دعوى قضائية لسرقتها).

ودمجت «شاكيرا» ذات الأصول اللبنانية ألحانا شرقية فى بعض أغنياتها مثل «أوجوس آسي». وأدخل بعض المنتجين الموسيقيين من أصول عربية نزعة شرقية تسربت ببطء إلى الموسيقى الغربية، ومن أمثلتهم الديجى الفلسطينى الشهير «خالد» والمنتج «فريد وريك» والمغنى والمؤلف المغربى السويدى «ريد وان» الذى تعتبره «جرامي» واحدا من أكثر المنتجين الموسيقيين تأثيرا فى التاريخ. كذلك شارك عمرو دياب مع المنتج الموسيقى «مارشميلو» لإنتاج أغنية «باين حبيت» عام 2019 والتى عمدت إلى الجمع بين الذائقتين الغربية والشرقية.