تشابيس نوجالس ..الصحفى المزعج الذى كرهه الفاشيون والثوريون

تشافيس نوجاليس
تشافيس نوجاليس

يروى المؤرخ كانوباس سانشيث فى السيرة الذاتية التى كتبها عن تشابيس نوجالس «البربرية والحضارة فى القرن العشرين» مأساة هذا الصحفى الإشبيلى، منطلقًا من عبارته الشهيرة «أردت أن أسمح لنفسى برفاهية عدم التضامن مع القتلة. رغم أن هذا قد يكون رفاهية مفرطة بالنسبة لشخص إسبانى».  

اليوم نُثنى على موقفه هذا تجاه القتلة، من منطلق التأكيد على عدم تجريد الخصم من إنسانيته، ولكن لسنوات طويلة أُعتبرت هذه طريقة مخزية لعدم تلويث التاريخ. لم يبق أبدًا تشابيس نوجالس بعيدًا عن الأحداث ولم يؤثر نفوره تجاه العنف على قناعاته الجمهورية.

اقرأ ايضاً| صلاح عيال يكتب : الفراكيــن


عرّف تشابيس نفسه بأنه برجوازى صغير لديه قناعات ليبرالية. مما جعله «منفيًا محتملاً»، لأن أقلية صغيرة فقط هى التى دافعت عن دور القانون فى بلد يحكمه التعصب»، فلم يكن تشابيس نوجالس مخطئًا.


لم يترك له التزامه بالحرية والديمقراطية أى بديل آخر غير المنفى. وعندما انتقلت الحكومة الجمهورية إلى بلنسيا، ذهب إلى باريس. ثم أجبره الاحتلال الألمانى لفرنسا على العيش فى منفى جديد ولكن هذه المرة فى لندن، ومن هناك، واصل حربه ضد التوسع النازى من خلال مقالات صحفية، لكن سرعان ما أنهى سرطان المعدة حياته فى 4 مايو 1944. وإدراكًا لخطورته، تأسف الصحفى على مغادرة العالم دون أن يكون قادرًا على التفكير فى هزيمة هتلر.


يذكر كانوباس فى كتابه السيرى أن نوجالس أدان منذ شبابه النظام الإقطاعى والتفاوتات الاجتماعية الخطيرة، نرى ذلك فى مقالاته الأولى حين يشير إلى أن النخب الاقتصادية تتمسك بامتيازاتها الظالمة، فيما رد الفلاحون والعمال، المستغَلون بلا شفقة، على هذه المظالم بعنف دون طائل. اضطر نوجالس، وهو نجل صحفى وأكاديمى، إلى التخلى عن دراسته الجامعية عندما توفى والده مبكرًا، لكن ذلك لم يمنعه من التعاون مع الصحافة المحلية.


فى نصوصه الأولى، وفقًا لكانوباس سانتشيث، يمكن بالفعل تقدير سماته الأسلوبية الأولى التى سيتميز بها لاحقًا، وهى «الاهتمام بما يحدث فى الشارع، والكتابة الدقيقة والنظرة التحليلية والنقدية». بعد أن استقر فى العاصمة، بدأ تشابيس نوجالس العمل فى جريدة الهيرالدو، وتعاون مع كل من بيو باروخا و رامون بيريث دى أيالا و كونتشا إسبينا، من بين آخرين.


مزج نوجالس فى كتاباته بين العمود والقصص والتقارير. وكان أيضًا من أوائل الصحفيين الإسبان الذين استخدموا الطيران. فى عام 1928، انطلق فى سماء أوروبا، وقام برحلة طولها 16 ألف كيلومتر. وعلّق: «لقد جعل الطيران العالم أصغر. بفضله، اكتسبت الأرض وسيلة للإنسان».


منذ اللحظة الأولى، دعم تشابيس نوجالس المشروع الجمهورى.  وفى عام 1927 انضم لمحفل ماسونى، باسم مستعار هو Larra، أحد مراجعه الفكرية. كتب تشابيس نوجالس: «المشى والكتابة هما عملي». رغبًة فى أن يكون وفيًا لمهنته، قام بالسفر إلى الاتحاد السوفيتى وإيطاليا الفاشية وألمانيا النازية.


أثناء رحلته فى روسيا البلشفية، اكتشف استبدادًا يليق بالقياصرة. وفى إيطاليا وألمانيا، استبدادية مشبعة بأوهام توسعية. فى عام 1930 انضم إلى هيئة تحرير صحيفة  أورا، وهى صحيفة ذات ميول سياسية يسار وسطية روّج لها مانويل أثانيا. رفض تشابيس نوجالس الأحداث التى وقعت فى كاساس فيخاس وأدان الثورة الأستورية. واعتقد أنه لا يمكن للعدالة الاجتماعية أن تزدهر مع الانتفاضات فحسب، ولكن مع إصلاحات النظام الديمقراطى.


ورغم أنه لم يكن من محبى مصارعة الثيران، فقد كتب سيرة لا تُنسى عن خوان بيلمونتي، مفتونًا بثقافة مصارع الثيران وشخصيته. وتزامن تعيينه مديرًا لجريدة Ahora فى يوليو 1936 مع تحول الصحيفة إلى أداة أساسية للمقاومة والدعاية. غمره بحزن عنف المتمردين، الذين قصفوا السكان المدنيين، وانتقام الميليشيات الشعبية التى ملأت ضواحى مدريد بالجثث، فذهب إلى باريس، مقتنعًا أن «كل شىء قد ضاع».


لقد فشل مشروع الجمهورية. فقام  تشابيس نوجالس بعكس خيبة أمله فى سلسلة من تسع قصص تدور أحداثها فى الحرب الأهلية التى جمعها تحت عنوان: بالدم والنار. الأبطال والشهداء والوحوش فى اسبانيا. كتب فى المقدمة: «كل ثوري، مع كل الاحترام الذى أكنه له، بدا لى دائمًا مؤذيًا مثل الرجعى تمامًا». فى عام 1938، وسع رؤيته للصراع مع نشره لكتاب «أسرار الدفاع عن مدريد»، حيث أشاد بالجنرال مياخا على عبقريته العسكرية ووقف الجرائم التى ارتكبتها الجماعات الخارجة عن السيطرة فى الجمهورية.


خلال معركة بريطانيا، واصل تشابيس نوجالس كتابة المقالات والظهور الإذاعى، ولم يوقف القصف عملهم. كان يرفض الذهاب إلى الملاجئ لأنه لم يكن يريد أن ينفصل عن عمله. سيرة كانوباس سانتشيث تشير إلى صورة لا تشوبها شائبة لرجل أمين وشجاع، وضع موهبته ككاتب وصحفى فى خدمة الجمهورية.


لم يكن نوجالس محايدًا أو أحادى البعد، لكنه كان مخلصًا لأفكاره، دون القلق بشأن عواقب شخصية. لقد ظل دائمًا فى محيط يسار الوسط وساقه الأمل إلى اعتبار هزيمة دول المحور بمثابة نهاية نزعة فرانكو بالتأكيد، لقد قيل إن إسبانيا الثالثة هى أحد اختراعات الفكر اليمينى، ولكن الحقيقة هى أن جميع ممثليها ينتمون إلى اليسار الجمهورى، فلم يكن ثمة تشابه بين هاتين الأيديلوجيتين. ساوى تشابيس نوجالس بين الفاشية والشيوعية، ولكن كانوباس سانتشيث يشير إلى أنه ليس تشبيهًا دقيقًا، لأن الشيوعية كانت تطمح إلى مجتمع قائم على المساواة، أما الفاشية فقاتلت فقط من أجل الهيمنة السياسية، تكشف هذه الفروق الدقيقة عن أننا نتعامل مع سيرة ذاتية تجنبت الصيغ السهلة، لو كان نوجالس فى أيامنا هذه لاعتبر شخصية مزعجة، لأن الصحف لم تعد تنتظر أصواتًا مستقلة باتت غير مناسبة لهذا العصر، بل ترغب فى أقلام  صدى لخطب فارغة ومنحازة بشكل مخزٍ.