«مسافر بلا قبلة» قصة قصيرة للكاتبة صفاء عبد الصبور

صورة موضوعية
صورة موضوعية

 في جوف الليل؛ يجاهد ليهتدي طريقه، تعثرت قدمه فسقط من يده الدواء وجهاز التنفس الصناعي الذي أمر الطبيب بإحضاره علي الفور، حيث أبلغه أن الحالة متأخرة والأفضل لها تلقى الرعاية اللازمة بالمنزل، جثى على ركبتيه يلتقط الدواء وجهاز التنفس الصناعي ثم رفع بصره نحو السماء متضرعًا لله أن يُمهل أبيه حتى يلقاه ويصنع معه ما يستوجب عليه، وأن يكون آخر مشهد بينهما مشهد ابنًا بارًا بوالده فهو يعلم كم تأخر عن لقائه وأنه لم يحرك قلبه الساكن ولم يُريعه شيئًا ليَهب لرؤيته سوى مكالمة عمته.

القلب الوحيد الذي أنعم عليه بقسطٍ من العطف والتقدير ما دعاه أن يُكن لها بعض الحب ويظل علي تواصلٍ معها، فهي لطالما كانت تستجديه أن يصفح ويغفر لأبيه ما سَلف، وحينما استشعرت أنه شارف على الموت أخبرته أنه يود رؤيته بدافع الحب والأبوة، وأنه يود مطالعة وجهه قبل الرحيل، بيد أن الحقيقة المستترة التي أرادت أن تُغلفها بهذا الكلام والأمر الجلل الذي استشفه من كلماتها العارية من الحقيقة، هو إراحة ضمير والده الذي يوخزه ويؤرق مضجعه في أيامه الأخيرة.

(يا بني روح أبوك معلقة سامحه واغفر له، خليه يقابل ربه وهو مش شايل وزرك..علشان خاطري) بهذه الكلمات استعطفت قلبه ما جعله يخشى أن يُفسد حياته الشعور بالذنب طيلة العمر، فقد تكون هذه هي الفرصة الأخيرة والغفران الأخير الذي يجدر به منحه لوالده كي يرقد بسلامٍ وطمأنينة.

فما الضير في أن يجود عليه بالعفو والمغفرة؟ هكذا حدث نفسه، فمنذ عام شاهد عبر الإنترنت فيديو لداعية يتحدث عن عقوق الوالدين وعقوبته عند الله، فتسلل إليه القلق وساورته المخاوف، لكنه تساءل في دهشةٍ كيف يُعاقب علي مشاعر يُضمرها بداخله تسبح بحرية، تتدفق وتندفع، تَهوي وتمقت من تشاء دون إرادة منه؟ هي الشيء الوحيد الذي لا يَطلع عليه إنسان أو يتشارك معه فيه، وهي الشيء الوحيد الذي يمتلكه في الحياة دون تسلط من أية قوي في الوجود..

 

دون أن تُسحق تحت نِعال الآخرين؟ فهو منذ نُبذ بالعراء بعد فراره من بطش زوجة والده وقسوة وخنوع الأب لها ووصمهم له (ابن الفاجرة) لا كرامته ولا أنفاسه ولا إرادته كان يمتلك أيًا منهم، حاول مرارًا أن يتغلب على نفسه بأن يعفو، لكن ذلك كان عليه عصيًا، فقدرته علي التسامح بددتها رواسب طفولته المعذبة.

 

مضى في طريقه فتعثر ثانيةً، جَحظت عيناه وسط الفضاء الفسيح الذي يطغى عليه الظلام والصمت الموحش حيث لا يُسمع فيه صوت سوى صوت دبيب الأرض و أنفاسه اللاهثة ليدرك أن من يعترض طريقه هو الشيطان يحمل علي كفيه ذكرياتٍ مقيتةٍ من الماضى تلفح روحه بلهيب الكراهية... مضى في طريقه غير أبهٍ بفحيح شيطانه، لكن خطوات الشيطان كانت تتبعه وتثقل خطواته.

أنى للذكريات أن تتلاشى؟ إنها تؤصد قلبه وتكبله بقيودٍ من حديد، تأبى أن تأفل كما الشمس المحرقة التي يبتلعها الغروب فيسود الصمت وتحل نسائم الهواء البارد والسكينة وتسكن الآلام، شعر بقشعريرة تسري في جسده وجثم علي صدره المتصدع شعور بالكآبة يتخلله الآسي، أحداث مؤسفة من الماضي البعيد هاجمته، ندوب وجروح غائرة لم يطويها الزمان!

 

بدا له طفل منطوٍ رث الثياب متأخر دراسيًا، لا يحبه معلموه وزملاؤه، كان يتبول لا إراديًا ويتعثر بالكلام بسبب القسوة والعنف والنبذ وغياب الشعور بالأمن النفسي، ينفجر زملاؤه بالضحك عليه حين يتحدث، وينفرون منه ولا يلعبون معه بسبب ملابسه المتسخة التي تفوح منها رائحة البول، فلا يجد مفرًا غير أن ينزوي بعيدًا وعينه معلقة على الكرة التي يتلقفها الصبية بينهم، والسعادة تغمر قلوبهم. فهو لم يكن لديه من يعتنى به وينظفه في الصباح من آثار التبول اللاإرادي الذي كان يحرمه النوم العميق والدفء، فأمه هربت من جحيم أبيه الذي لم تحتمل الحياة معه، ومذ ذلك اليوم الذي لاذت فيه بالفرار لم يرها ولم يسمع عنها شيئًا، ولا يعلم أهي علي قيد الحياة تنعم بها، تأكل وتشرب، تلهو وتبتسم، تغفو وتستيقظ وقد تلاشت من ذاكرتها صورته، فمضت في الحياة بقلب راضٍ غير مكلوم علي فقدانه، أم فارقت الحياة دون أن تؤرقها خسارته يومًا واحدًا ولم يخفق قلبها بالشوق إليه ثانية لتعود وتحتضنه وتزود بالدفاع عنه وتتطلع في وجهه للمرة الأخيرة قبل النهاية.هو يوقن بداخله أنه لم يكن يَعني لها شيئًا وإلا ما كانت تركته وحيدًا معذبًا يتيمًا.

يعتقد أنها أسدت إليه معروفًا بأنها رحلت في صمتٍ عندما كان لم يتجاوز الخمسة أعوام دون أن تترك في ذاكرته غير صورة لها باهتة مشوشة، فحسبها ميتة وانتهى أمرها كأنها كانت حلمًا عابرًا انطمست معالمه عند مطلع الفجر.لكن ما يدمي قلبه أن الذاكرة تعج بألوان شتى من المعاناة التي خلفها والده في نفسه! فلو كان رحل مثلها أو توفى ما كان ليشقى، وما زاد شقاؤه وتُعسه هو زواج الأب. لقد كان قلبه الصغير يرجف خوفًا من زوجة والده القاسية وعندما يحل المساء يخلد إلى فراشه الخشن علي الأرض كي لا تتبلل الأسِرة الممهدة التي يحظى بنعومتها ودفئها إخوته الآخرون.

 

 لقد حاول أن يصرف تلك الذكريات ويواصل طريقه الذي كان طويلًا فقد كان الوقت متأخرًا ولا توجد أية وسيلة مواصلات تنقله؛ لكنها كانت تحوم حول رأسه حتى استحوذت عليه.

تذكر منذ بضع ساعات حينما حضر لرؤية والده عقب مهاتفة عمته له فهرع إليه فوجده في حالةٍ سيئةٍ للغاية؛ قعيد الفراش هزيل الجسد بجواره إخوته وزوجة أبيه، حاول أن يتغلب علي مشاعره المشتتة، وقعت عينه علي بقعة واسعة من البلل علي فراش والده فأدرك أن الزمن أقوى من كل متجبر،

فترددت مشاعره بين الشماتة والشفقة واغرورقت عيناه وفرت دمعة لم يستطع منعها من السقوط، وجال ببصره حوله ومشط المكان بعينيه وأخذ يتأمل وجوه إخوته وزوجة والده وعمته عساه يحظى بنظرة واحدة حانية، وأخذ يتحسس موضعه بينهم ويبحث بأعينهم عن أية مشاعر فوجدها جامدة خاوية كأعين الغرباء، فشعر بطعنةٍ نافذةٍ في قلبه الذي كاد أن ينتعش وينبض بالحياة مجددًا بعد أن خُيل إليه أن له مكان في قلب والده وإخوته وأنهم سيعوضونه وسيتقبلونه فردًا في جماعتهم؛حيث أن ذلك هو الشيء الوحيد الذي كانت تَرنو إليه نفسه،

إنه كان علي استعداد أن ينسي كل إساءة وكل ظلم نظير أن يجد له مكانًا بينهم يشعر فيه بأنه له عائلة وليس مجرد إنسان هائم علي وجهه بلا هوية، بلا وجهة، بلا قبلة. غريب كناجي وحيد من طوفان أغرق كل ذويه. ثم امتلأ جوفه بمرارةٍ حينما أيقن أنهم أحضروه ليؤدي مهمته بأن يتلو على شفاه العابثة كلمات الصفح والغفران ليهدأ روع أبيهم وتصعد روحه العالقة ويُسدل الستار ثم يرحل من حيث أتى.

مضى في طريقه الذي طال كثيرًا دون أن تتوانى ذاكرته عن اجترار الذكريات من ليالٍ باردة خالية من لمسات حانية في أوقات المرض تُربت علي كتفه وتمسح علي رأسه وتقدم له الدواء والحساء الساخن.

ثم شعر بأنه خائر القوى يسير على غير هدى فجلس ليريح جسده وروحه المنهكة يتأمل السكون ويستنشق الهواء النقي الذي لا يُعيق مروره أحد بعد أن عزم أن يكون هو صاحب الإرادة والاختيار، ثم مكث يرقب انقشاع الظلام وبزوغ الفجر ليشع النور في قلبه المنطفئ ناشدًا أن تهديه الأيام فرصةً جديدة للحياة وأنفاس حرة لا تُسلب منه قط.