«البيانولا».. قصة قصيرة للكاتبة آيار عبد الكريم

 قصة قصيرة للكاتبة آيار عبد الكريم
قصة قصيرة للكاتبة آيار عبد الكريم

يلا يا عم صالح شغل البيانولا

وابدأ الحكاية..

زي كل ليلة...

بدأ عم صالح تدوير عربة البيانولا، بقصة جديدة يرويها ككل ليلة في جلسة شيقة مع أطفال الشارع. و ما إن يبدأ عم صالح بتدوير صندوق الدنيا، الممتلئ بحكايات أشكال وألوان، إلا وتبدأ الألحان تشدو من صندوقه الصغير وكأنها سيمفونية يقودها مايسترو الأوركسترا البارع وتبدأ آذان الصغار العفاريت في الانصات له جيداً، و تُحملق أعينهم وتٌرعي انتباهاً لتفاصيل الصندوق الذي يغمُرَهٌم بالقصص المسليَّة التي يضحكون عليها، ويركزون في تفاصيلها.

يتعجبون من أين تخرج هذه الألحان؟، وكأن عم صالح يتعامل مع ضروب الجن والعفاريت. "مخاوٍ على حد استيعاب عقولهم. ومن أين يعرف عم صالح هذه الحكايات التي يضحكون عليها من أعماق قلوبهم ؟ وكأنها ستُخلع من بين ضلوعهم الصغيرة.

بدأ عم صالح الحكاية الليلية قائلاً:

بيكيا. روبابيكيا.

بيكيا. بيكيا. أنا بشتري روبابيكيا. يلا قرب. يلا تعال. الكيلو بخمسين قرش..  هات كل كراكيبك وادعيلي.

كان هناك رجلاً يُدعَى " سعيد". يطوف ويجوب الشوارع من شرقها إلى غربها لشراء المستلزمات والأشياء القديمة من سكانها مقابل المال الزهيد، ثم يعود مرة أخرى يدور ويجوب على الأماكن التي تحتاج إلى هذه الكراكيب من ورق، أقمشة وبلاستيك. ويقوم ببيعها بأضعاف مضاعفة بل و ثلاثة أضعاف إن تطلب الأمر.

وكان سعيد مع ذلك، يكره اسمه ويعتبره غير ملائم لعيشته الرخيصة، وعمله الوضيع. وأنه كان من المُفترض أن يُسمى "حزين أو تعيس أو مظلوم" لأنه دائماً يعتبر نفسه الشقي الوحيد في هذه الدنيا. التي لا تعطيه سوى بالكاد. برغم الأموال المضاعفة التي يحصل عليها من " الروبابيكيا:.

ورغم جسده النحيل؛ إلا أنه كان يتمتع بصوت جهوري، وهو ينادي على الناس لشراء الروبابيكيا منهم مقابل المال الزهيد. فصوته به قوة صارمة، يهتز له الشارع وكأنه زلزال أو إعصار يطيح بكل ما يقابله.

 

وما أن ينادي عليه أحد الأشخاص ليبيع له الروبابيكيا التي بحوزته، إلا وتبدأ المُشادّات المعتادة بينه و بين الزبون حتى يضاعف المبلغ المذكور، الخمسين قرشاً إلى جنيه. وكان سعيد يجادل ويجادل ولا يقبل أبداً بهذه الزيادة ثم يصرخ فجأة أمام الزبون وكأنه أُصيب بذبحة صدرية

: آه، صدري.. صدري الشمال.  ضلعي. هموت. حرام عليك. هتشتري ولا تروح لحال سبيلك. أو تروح متجيش.

فيعطه الزبون الخمسين قرشاً بحسرة وعين تتوعد له قائلاً:

خد. حر ونار في جتتك. والآخر بتروح تبيعها بقد كده.

كان حلم سعيد، الذي هو ليس سعيداً بالمرة، أن يصبح ثريّاً، ربما هذا الحلم هو الذي أضفى على صفة اسمه الجميلة، إحساسه بالشقاء والحزن دائماً. وكأن فولتات عقله الكهربائية لا تتوقف إشاراتها عن التفكير في تحقيق هذا الحلم الذي سيجعله سعيداً في يوم من الأيام.

فكان يقوم بالادخار، القرش على القرش، والبريزة على البريزة، ولا يشتري لسد جوعه سوى السميط السادة في وجبة الإفطار دون غموس. وكوز الذرة المشوي في الغذاء. ولا يتناول وجبة العشاء. فهو ليس من أنصار المثل الذي يقوله دائماً عم إبراهيم بائع الفول، "اتعشى واتمشى" والذي كان سعيد لا يزوره لشراء طبق الفول إلا مرة واحدة في الأسبوع.  وكأنها تفاريح.

فرغبته في الوصول إلى الثراء الفاحش في يوم من الأيام، كانت تُحتّم عليه أن يدخر كل ما يكتسبه من الرزق ويملكه بحرص بل بخل مفرط من أجل تحقيق هذا الحلم بعيد المنال.، كما أنه ليس له أطفال ذوي أفواه جائعة باستمرار كعم مرزوق السباك، ولا زوجة ستنغص عليه حياته وتطلب نقوداً من أجل التسوق للبيت.، كعم بشندي بائع الزبادي.

وكلما حصل على مبلغ من الروبابيكيا، يقوم بوضعه في صفيحة الجبنة الفارغة والتي كانت آخر مرة لشرائها منذ باع طويل، ثم يقوم بتحريك الكنبة التي ينام عليها في حجرته الضيقة، التي تشبه ركن أو زاوية في شارع كبير. ويقوم بحفر الأرض و كأنه يبحث عن تراث أثري، ربما سيجده و يحقق له المراد ثم يضع المال، و يغطي الحفرة، و أخيرا يحرك الكنبة فوقها مرة أخرى. وينام وهم مستريح البال، لأنه يشعر بالأموال تحت رأسه، وطالما أنها تحت رأسه، فهو في أمان.

إنه المال الذي يدفع الأشخاص دائماً إلى امتلاكه والحصول عليه بشتّى الطرق الممكنة. لاعتقاد بعضهم أن المال هو الذي يصنع السعادة، النفوذ، الراحة.

وسيخلص المال سعيد من سخرية زينب، بائعة الليمون بجوار عم إبراهيم، التي تصفه دائما ب" البخيل الشحيح، الكالح الوحيد في الدنيا" لأنه كان يشتري منها ليمونة واحدة فقط، و أحياناً يتشاجر معها لتشق الليمونة إلى نصفين و تعطي له نصفاً فقط. فلماذا يشتري إذاً ليمونة كاملة وهو يريد أن يعصر فقط قطرتين منها على الفول، لأنه لا يأكله كل يوم؟

وتغتاظ زينب، وتنوح وتولول في وجه سعيد، وفي الآخر، تعطي سعيد أكثر ليمونةً خضراءً جافةً لديها، بالكاد تحتوي على قطرات، ثم تقول له: حلوة الليمونة دي. ناشفة زيك وزي حالتك. يا بخيل. قال أديك لمونة صفرا حلوة ومليانة بعصيرها قال. حِكَم. ميحكمش.

وفي طريق سعيد إلى حجرته الصغيرة، سمع صوتا ينادي عليه من الجانب الآخر، فإذا به يلتفت تجاه الصوت، فوجد سيارة فارهة، وبداخلها فتاة جميلة، تتمتع بعينين زرقاوتين كلون البحر الهادئ الذي لا يعرفه سعيد ولا حتى بلبط فيه، كل اللي فأكره الترعة الصغيرة اللي كانت في بلده. وبيعوم فيها هو وأهل البلد، أما وجهها فناصع البياض، والحمرة. ودائريّ كالكعكة الكبيرة التي يخاف أن يشتريها من بائع السميط الحاف، حتى لا تهدر جميع أمواله.  وملابسها زاهية جميلة تبعث على عينيه الراحة والهدوء. ليست كملابس "زبيدة" جارته التي تفتخر بنشر الملابس الداخليّة لزوجها وأطفالها وكأنها ملابس بهوات وباشوات.

 

ويجلس بجوارها رجلٌ عجوز، تغطي الشيبة واللون الأبيض شعره، كما أنه ينطق الكلام بصعوبة، و يداه ترتعش باستمرار.

طلب منه الرجل خدمة بسيطة مقابل مبلغ كبير من المال. وما إن سمع سعيد هذا الحديث، حتى لمعت وجحظت عيناه وكانت أن تنطلق من مكانها لولا أن هدّأ من انفعالاته.

قال سعيد للرجل: وايه المطلوب مني يا بيه. ولا مؤاخذة يا باشا؟

بدأ الرجل يسرد له المطلوب منه قائلاً: ولا حاجة. طلب بسيط أوي، هتاخد عليه مبلغ محترم، حوالي ٥ آلاف جنيه ومش بس كده. هتاكل وتشرب وتقعد في مكان نظيف وجميل وفيه خدمات كتير، زي اللوكاندة الخمس نجوم. لوكاندة ايه. فندق ٥ نجوم. كل اللي عليك، هتيجي البيت معانا وتاني يوم هنروح المستشفى، نعمل تحاليل بسيطة. وتروح تأني يوم.

رد سعيد قائلاً: بس كده. يا سلام يا ولاد. تحليل بسيط ب٥ آلاف جنيه. يا حلاوة. يا حلاوة. والله باضت لك في القفص بيضة دهب يا واد ياسعيد. وهتبقى سعيد بحق وحقيق.

وبالفعل، ركب سعيد مع الباشا وابنته الجميلة.

في الصباح، أعطى الباشا سعيد ملابس جديدة، ليذهب بها معهم إلى المكان الذي يريدان. فمن غير المعقول أن يذهب سعيد بثيابه المُهلهلة القديمة التي تشبه " خرقات المنزل ".

عند دخول سعيد المشفى، تعجب من نظافتها، لكنه أخذ يتساءل ويتعجب لماذا يلبس كل أشخاص المكان البالطو الأبيض؟

فكان جواب الباشا: أن هذه هي قواعد هذا المكان.

في اليوم التالي، جاءت الممرضة لأخذ عينة من يد سعيد، وما إن أدخلت الممرضة الإبرة لسحب العينة، إلا وبدأ سعيد يتمايل على الجانبين، فتارة يضحك وكأنها تزغزغه أو تدغدغ جسده ومشاعره، وتارة يتألم قائلا: آه، من وخزها الذي يلذعه كعقرب.

بعد أخذ العينة، تم حجز سعيد بالمشفى.

وفي الغرفة المجاورة له، تم حجز الفتاة الجميلة أيضاً.

وبعد مرور أسبوع من عمل الفحوصات اللازمة لسعيد والفتاة، تحدد موعد العملية، التي أخفى الباشا عنه حقيقتها.

وبالفعل دخل سعيد غرفة العمليات، وهو لا يدري ماذا يحدث؟ ولماذا سيدخل؟

كل ما يعرفه أن الممرضة قامت بإلباسه الملابس الخاصة بغرفة العمليات. وما إن دخل الغرفة، حتى غط في سبات عميق من أثر البنج، وكل ذلك وسعيد لا يعرف ماذا سيُفعل به في هذه الغرفة البيضاء غريبة الأطوار والمعالم؟

وعندما استيقظ سعيد بعد العملية، كان يشعر ببعض الدوار والدوخة، ولا يستطيع أن ينهض من الفراش. أخذ ينظر إلى المحاليل المُعلّقة بيديه.

التفت يميناً ناحية باب الغرفة، فوجده موارباً، ويتحدث الطبيب مع الممرضة قائلا: كمان شوية. اديله حقنة، واوعي حد من الممرضات يقوله إنه تبرع بإحدى كليتيه للبت اللي في الحجرة اللي جنبه.

وما إن استمع سعيد إلى هذا الكلام حتى جنّ جنونه، وأخذ يضرب ويكسر في المحاليل المرفوعة وكل شيء أمامه من مقتنيات الغرفة.

ثم أخذ يقول لذاته: أهي الفلوس أهي يا سعيد. ضحكوا عليك وخدوا كليتك غدر. وأديك بقيت سعيد بس مش سعيد. زي ما كنت زمان في فقرك سعيد بس حاسس أنك تعيس مسكين، مش سعيد. يا ريتني رضيت بحالي.  كان مالها الروبابيكيا. كان مالها. آه يا بيكيا. لو ترجع أيامك.  آه.

وفجأة استيقظ سعيد على صوته المدوي كعادته: بيكيا. بيكيا. روبابيكيا.  ..!