«قسوة الصحة» قصة قصيرة للكاتب الدكتور فراج أبو الليل

«قسوة الصحة» قصة قصيرة للكاتب الدكتور فراج أبو الليل
«قسوة الصحة» قصة قصيرة للكاتب الدكتور فراج أبو الليل

همس في نفسه وصمت طويلاً ..  طويلاً.. ثم صرخ بأعلى صوته في داخله..   صرخ في الأسئلة والإجابات  .. صرخ في الآمال والحقائق  .. وها هى الحقائق تأتيه صريحة مؤلمة ..  تتلاحق في رأسه فيهزى بها لسانه .. فيصرخ ويصرخ الألم والمرض .. الألم والمرض ..

لماذا هذا التلازم ؟ .. ألا يأتي مرض بلا ألم .. ربما يأتي الألم حادًا أو باهتًا .. متقطعاً أو مستمراً .. نابضاً أو مختبأ في وجدانه النفسي .. ولكنه في النهاية لا بد أن يشعر به في منطقة واحدة أو في جسده بالكامل .. كثيراً ما أسأل نفسي  .. كيف يكون طعم المرض بلا ألم؟  ..

صاح " حاتم " عندما ذكرت الألم  .. أحس به يدغدغ أضلاعه وشهق بحرقة وسالت دموعه وتوسل .. وهاهو ذا راكع أمامه .. يقبل قدميّ هذا الألم ويرجوه أن يرحمه ويرحل مع المرض .. لكنه لم يرحل مازال يحرق في أحشائه  فيمزقها ألف مرة .

 سأل "حاتم"  قلبه أن ينفض هذا الألم .. لكن أين قلبه؟ .. ليته يرجع حتى يراه باسم الثغر أو ممتعض الوجه .. المهم أن يراه .. حيرته هذة منذ زمن قريب بعدما تخلى عن خدماته السيد "نعيم" ..  أتذكر عندما هز نخلة الحاجة "نعسة" فسقطت وتبعثر تمرها الأصفر علي الأرض  .. لم تحتمل يده الضخمة .. كان "حاتم" قوي البنيان ضخم الجسم .. ذو هيئة تجبرك علي الاحترام والخوف في ذات الوقت ..

عندما يلتفت برقبته العريضة وينظر بوجهه الأسمر ذو الشارب الطويل .. يجري أمامه رجال شارع سيدي أبي هريرة بالجيزة القديمة .. كان ظلاً لسيده "نعيم " .. لم يكن إلا ظلاً كريهاً .. يتجنبه جيرانه لوقاحة  لسانه ويده المطرقة الثقيلة .. عندما اصطدمت صحته  بقطار المرض .. سقط  وحيداً .. تركه السيد " نعيم " .. ولم تتركه الحقائق كانت تدور في مخيلته وهو ملقى على سرير المرض في  مستشفي  أم المصريين .

 سألت: الممرضة كيف حاله .. فقالت  بحسرة .. سيئة .

وها هو فاقد الوعى أردت أن أراه بعد تلك الصحة المفرطة ..  كل إنسان يتمنى تلك القوة .. ولكن روح "حاتم" كانت تتمتع بقوة الخطيئة .. في ليلهٍ حالكة السواد بعد انقطاع التيار الكهربائى عن منطقة ميدان سيدى أبو هريرة .. خرجت من شقتي ألتمس شمعة من دكان البقالة..

رأيت  "حاتم" ملتحفاً بجلد ناعم  في ركن مظلم أمام مشرحة مستشفى أم المصريين .. ووجدته  يضحك ويضغط بجسده الضخم على هذا الجلد الناعم فيضحك الجلد أيضاً وعندما ضغط بذراعيه الطويلتين على هذا الجلد بقوة تأوه هو وصاح الجلد .. لا أعلم هل صاح  الجلد الطري متوسلاً أم شهوة صارخة .. لاحظت العينين السوداوين الواسعتين .. أرسلت بعض من أشعتها البنفسجية مغلفة بشبق عاري .. جريت بعيداً .. وتساءلت في نفسي بصوت مسموع ..  كيف ترك "غلبان" زوجته "فاتن" ذات الجلد الناعم والطري .. هل جبراً أم اختياراً .

اختلست النظر وأنا أرتجف وأرتعد من الخوف والرغبة .. ربما ارتجفت شوقاً لهذا الجلد؟  أوخوفاً منه؟ .. الرعشة مازالت في جسدي الضعيف .. ها هو ملقى على سرير المرض بلا حول ولا قوة .. هممت بإيقاظه وسؤاله لعله يجيبنى .. ماذا تعني الصحة والقوة بالنسبة له .. على الرغم من أننى كنت أشتاق لتلك القوة مثله في تلك اللحظة .. ولكني كنت أكرهه في أوقات آخرى كثيرة ..

هربت من عيني "فاتن" ذات النظرات الممحونة والمغرية .. رجعت ساعتها إلى الشقة .. أضأت الشمعة وجلست أفكر في المشهد .. تكورت من الرغية ذائباً ومتساقطاً مع قطرات الشحم المشتعل .. وقع بصري على كتاب الله فوق المنضدة الخشبية .. قرأت بخشوع .. كان صوتي عذب حينها وأحسست بدموعي تسح بغزارة ونمت على الكرسي .. لم أدر كم من الوقت نمت ولكني استيقظت على صياح الديكة مع قدوم الفجر ..  ومكبر الصوت بمسجد سيدى أبو هريرة يدعو الجيران لصلاة الجنازة .. فقد مات "حاتم" بقوته وضعفه .. وترك "فاتن" تتلوى بخصرها المغري أمامي كل صلاة.