المخرج الجزائرى حميد بن عمرة:السينما التى أريدها لا تنزوى ولا تلهث

المخرج الجزائرى حميد بن عمرة
المخرج الجزائرى حميد بن عمرة

فى فيلمه «حزام» تستطيع أن ترى وجوه النساء وهن يعبرن عن علاقتهن بالرقص وكيف قربهن من ذواتهن، وجعلهن يتواصلن مع جسدهن بشكل أجمل، ترى ملامحهن وهى تصبح أكثر صفاء، حين يتحدثن عنه. أما فى فيلم «هواجس الممثل المنفرد بنفسه» تبهرك مشاعر الممثل وهو يتنقل ما بين ما قد مضى وما هو آت، وهو يتحسر على العملة الجزائرية التى كانت تشترى الكثير، وهو يحاول إعادة قلبه إلى صدره، بعد أن خرج محملا بالوجع ليرقد جواره.


حميد بن عمرة مخرج ومؤلف جزائري.صدر أول شريط روائى له عام ١٩٨١ بالجزائر، بين عامى 1981 و1985، أخرج ستة أفلام روائية قصيرة وطويلة عرضت بمتاحف السينما بالجزائر وبروكسل إلى جانب مهرجان فسباكو، رأس لجنة تحكيم الطبعة الثامنة عشر 2021للمهرجان الإفريقى بمدينة كان، عرض فيلمه زمن الحياة بمهرجان موسكو السينمائى عام 2019.

اقرأ ايضاً|فى مئوية أول معجم للغة المصرية القديمة أحمد باشا كمال ..مؤسس المدرسة الوطنية

وعرض فى التلفزيون الروسى يوم 16 أبريل 2021. فى 2019 ترأس أيضا لجنة تحكيم فئة الأفلام الوثائقية بمهرجان يالطا ب روسيا. ومن أبرز أعماله فيلم «شيء من الحلم، شيء من الحياة»، «زمن الحياة»، «هواجس الممثل المنفرد بنفسه»، «حزام».
كان لى معه هذا الحوار:

وصفت فيلم «تايم لايف» بأنه فيلم روائى يستعمل الواقع لصقله فى قالب روائى بحت، هل كنت تصنع الفيلم وأنت متورط فيه على مستوى الإحساس والمشاعر؟
السينما بذاتها تعامل مع الوجوه وحميمية مستمرة مع مشاعرهم تورط فى أسرارهم ومخاوفهم وهواجسهم. لم أصف أفلامى بشكل معين وإنما أرد على من يصف ويقنن ويعزل ويرتب دون علم.
بفيلم «تايم لايف» المشاهد الواقعية الوحيدة كانت تلك التى خصصت للحظات الإنجاب.

كان العقد بينى وبين ستيفانى أن نخاطب بعضاً. إنها المشاهد الوحيدة التى لم أتدخل فى «ميزانسينيتها» مطلقاً. فالألم كان كبيرا ولم تتعاط أى مخدر أو دواء عازل للألم. لقد جعلت من القابلة والمصور والأب والزوج والحامى لروحها. إنها أكبر من أى مسئولية إخراج أن تدخل عالم المرأة بقلبك وجوارحك وتنسى من أنت لتصير جزءًا من الآخر. إنه الفيلم الوحيد الذى لم أشعر أنى أخرجته بل الفيلم الذى أدخلنى إلى عالم الأنوثة المطلق. الفيلم تكملة لفيلم «حزام». البطن هنا يظهر ويفصح عن باطنه فنخرج من الرقص للدخول إلى الحياة.


لكن شخصية الحامل ترمز لحمل شخصيات تحيطها والتى كانت تتمخض بمشروع فيلم أو هجرة للغرب،مرة أخرى يتبلور دور محمد ملص ليكبر بهذا الفيلم وليأخذ من فضائه أكبر جانب وليفرض حضورا «أيزن شتانيا» ملهما. لذا نجد شخصيته بفيلم «هواجس الممثل المنفرد بنفسه» حيث أذكره فى لقاء بمهرجان قرطاج لعام 1992، ومنه استحوذ على شاشتى بفيلم «حزام» حيث تفرد بكونه الذكر الوحيد الذى منحته الكاميرا حق التنظير والتعليق وإفشاء بعض الأسرار. لكن عندما عاد بفيلم «تايم لايف» كان عملاقا ينحدر من جبل شامخ ليروض العدسة حسب مقامه. 


«تايم لايف» النجم فيه هو «الحب»، حبى لستيفانى التى ألقبها بفريقى الوطنى وحبى لمحمد ملص الذى ألقبه بأخى الأكبر وحبى للسينما، موطنى وجنسيتى. إنها سينما الحب. الحب لا يمكن أن يدخل القلوب التى بها ضغينة. 


 ترفض تصنيف أفلامك بأنها وثائقية، وتعتبر ذلك التصنيف تضييق لأفق السينما الرحب الذى تتحرك فيه، كيف يمكن أن تصف أفلامك وتصنفها؟
يس هناك رفض ولا رضا بل هناك قراءة عاتمة وضيقة ومحدودة البصر لعملى من طرف الإعلام العربى العام والشرقى خاصة. السؤال البسيط هو: لماذا هناك ترحيب بأفلامى بروسيا وكازاخستان وبلغاريا؟ هل الناس هناك مصابون بالعمى حتى يحتفلون بسينما مصنفة عربيا بالتجريبية تارة وبالمتعالية مرات كثر؟


العنصرى يحتاج لاتهام جروه بالكلب حتى يقتله والفاشى يتهم المغترب بمستهلك لخيراته حتى يطرده والأنانى يتهم الآخرين بالتآمر عليه. إنهم لا يرحبون بأفلامى لأنها قد تخفى الكثير من أفلام عشيرتهم وفقط. 


بمهرجان موسكو الأخير عندما قدمت فيلمى الأخير «كيوكو، موسم حصاد الأحلام» قلت للجمهور: «الكثير لا يحبون موزارت لكن لا أحد يمكن أن يقول إن ما قدمه ليس بالموسيقى» لم يخالفنى ولن يخالفنى أحد بهذه المسلمة. أعرف أن ما أقدمه سينما جيدة. لهم الحق فى كرهها لكنهم لا ولن يقدروا أبدا أن يصنفونها بالرديئة.


«من هندامه من التبن يخشى النار» لذا تجد الشخص الذى يصنف وفى التصنيف عزل ومنع، يقوم بهذا لأغراض نفعية عنصرية.السينما لا تعترف بالحدود بين الوثيقة والأرشيف والميزانسين واللقطة المختلسة إذا كان السرد متماسكا ويصب فى مصدر واحد ومن وعاء واحد. السينما لا تحب البخل لذا تجدها عندى كريمة واسعة ترحب بالوجوه العميقة الأبعاد.  


الجمهور ذكى حتما ولا يقرأ الفيلم بأدوات الفيزياء أو الرياضيات وإنما بحدسه وقلبه وجسده. الجمهور لا يتفنن فى عد كم لقطة مرت وكم أخرى باقية. الجمهور لا يتساءل عن ضرورة وجود اسم ما أو غيره بالفيلم؟ الجمهور هو أصدق ناقد منذ وجود السينما. الجمهور ذكى لكنه يحتاج أن تحترم ذكاؤه المختلف من مدينة إلى أخرى ومن ثقافة إلى أخرى. لذا تجدنى لا أبسط ولا أطرح الأمور بسذاجة حتى أتأكد أنه سيفهم. ليس هناك فهم بالسينما أبدا لأنها ليست كيمياء وبيولوجيا. الفن يحاكى ويواكب يتغزل ويعشق وكل بحرفه وذوقه وحدقته ولمسته يدرك ما بدى هاما أو ضروريا أو مجديا لحياته ولروحه. 


 الكاميرا تصاحبك خلال يومك، تصور من خلالها لقطات وصوراً تعرف أنها مخزون ثرى لأفلام قادمة وأفكار.. منذ متى بدأت تعيش أيامك بصحبة الكاميرا؟
الكاميرا سلاح ودرع وصاحب ذاكرة. إنها الحامى والمبصر والقارئ. من خلالها أفصل بين اللامع والمشرق وبين المظلم والداكن وبين الرشيق والمختال وبين النرجسى والمتمكن وبين المثير والجميل وبين المتين والصلب وبين الحاضر والمتباهى بذاته. إنها القلم والحبر والمحبرة. الكاميرا مخدعى ووطنى. 


أنا لا أخزن المواد مثلما يفعل موظف البنك بالأوراق النقدية وإنما أخمر من الحياة موشحاتها وأقطرها فى إطار يحدد بشفرة حادة لا ترحم.


أن تصاحب البندقية الجندى أمر عادى وأن تصاحب السماعة الطبيب أمر مماثل، فلماذا مصاحبة الكاميرا للمخرج أمر غريب؟ فالميكانيكى لا يفارق أدواته ورجل المطافئ قريب للماء أكثر من غيره. فلماذا السينمائى يستغرب أن يكون حاملا لعدسته حتى فى يومياته العادية؟ هل يسأل الناقد عن مصاحبته القلم فى تنقلاته؟


السينما بالنسبة لك سرد، ترتبط بهواجس الذات وتخيلاتها ورغبتها فى التعبير، هل يمكن القول إن أفلامك يتم استقبالها بشكل جيد ولها جمهور واع بسحرها وتفاصيلها؟
السرد عندى يتعدى الأبجدية والنوتة ويحاول بلوغ متاهات بصرية مرصوصة الإطار والبنية. السرد ليس حكاية أو قصة. القصص للأطفال لجرهم إلى النوم. كنت أدرك هذا منذ الصغر حين كانت جدتى تقودنى للنوم وكنت أتحايل عليها وأبدى نعاسا للتخلص منها. وبعدها أفتح كتابا حول السينما أو موضوعا يفتح شهية الحلم. السرد نسيج مجهرى يخاط بالحرير وإبرة يدوية ماهرة فى دقة الطرز. إنه بناء متماسك من الحلفاء أو الحجر أو الإسمنت أو الجريد. البناء هندسة وتنفيذ محكم قبل أن يكون زخرفة وفسيفساء. البناء ذهنى قبل أن توضع الأسس على الأرض. كلما كان الشكل جلى بقلبك ومخيلتك كان التنفيذ سريعا ودقيقا. 


الأم كان لها دور كبير فى تكوين شخصيتك، احكى لنا عن تأثيرها عليك؟
ليست الأم المنجبة فقط بل النساء جميعهن أنجبنني، ومازلن يعدن إنجابى كلما تعثرت أو أخفقت. إنهن المعلمات الأبديات لشخصى.

 
الأنوثة هى نغمة السينما التى أرتوى منها و«البورتريه» الذى أستلهم منه الرحيق السرى الذى يتنقل من لقطة إلى أخرى. الأنوثة طعم يلامس الروح فتتذوقه كل أعضاء الجسد. إنها البريق الذى يفاجأ أفقك ويعلق بصرك لزمن لا تحدده عقارب ساعتك. 


السيناريو والحوار تصنعه بنفسك الفيلم هو صناعتك الكاملة دون تدخل من أحد هل هذا صحيح، وهل فكرت يوما بالاستعانة بكاتب سيناريو أو شركاء آخرين؟
ستانلى كوبريك لا أحد يسأله أن كان القاضى والخصم والمحامى والنائب العام فى آن واحد، وهذا فى كل أعماله. «تيرانس مالك» و«غودار» و«كريس ماركر» و«برغمان» وكثيرون بالغرب لم يسألهم أحد عن مهاراتهم المتعددة. كوبريك يصور ويكتب ويركب ويتدخل فى كل رمشة عين بالفيلم. 


طرح هذا السؤال مرارا وكان الرد نفسه حتى وإن كانت النية فضولية دون أى خبايا مجهولة. إن المتبختر بسيارة «فيرارى» أو «لامبورغينى» بجزيرة ثرية عربية يجهل كل شىء عن مكابس المحرك، وقاطف الزهور فى نزهة ليس حتما مصمما للعطور» كما يقول الراوى بفيلمى الأخير. التمكن من المهنة يرغمك أن تفقه فى الكرة والطهى والرسم والموسيقى والزندقة والفلك والدين والخياطة والعدو الريفى والحواسيب والأخلاق والسياسة والخبث والطيبة.


أن تكون قادرا على استيعاب مهنة المركب والمصور ومهندس الصوت يزيد فقط من احترام الآخرين لك لأنك تقدر جهودهم وتعرف إلى أى مدى يمكن اقتناء الأشياء منهم.


لماذا لا يطلب من الموسيقى أن يعزف فى مكانه شخص آخر يوم الحفل وأن يكتفى هو بوضع اسمه بالملصق، حتى يصفق له الناس دون أن يعزف شخصيا نوتة واحدة؟ هذا لن يحدث مثله مثل الرسام والكاتب والنحات ومهن أخرى، عدا بالسينما فإن ما أشاهده على الشاشة غالبا ما يكون المنفذ للصورة ليس من يدعى أنه فيلمه وأن ما أسمعه تم تسجيله من طرف شخص يظهر اسمه بنهاية الفيلم، لكنه لا يدعى أن ما سمعناه من فيلمه الشخصي. أن يعطى شخص أوامر لعدد من التقنيين كى ينفذوا مهمة معينة ويوضع بعدها اسمه فى أول ونهاية الفيلم وأن يبقى هذا الاسم مرتبطا بعنوان الفيلم وهويته أمر لا استسيغه بسينما المؤلف. 


طبعا أقبل هذه المسلمة بالفيلم التجارى البحت ولا أجادلها لكن أن تخاطب جمهورا بقيمة فنية شاعرية وألا تنفذ حتى الصورة التى هى أساس السينما فلا أفهم ولا اتفهم هذا المبدأ.
«تزيغا فيرتوف» الروسى عندما أنجز فيلمه «رجل الكاميرا» كان فيه السيناريست والمصور والمركب. الفيلم يدرس بكل جامعات العالم ولا أحد يسأل عن تعدد الخبرات عنده.


فى فيلم «حزام» تصوير للأنثى وهى فى حالة الرقص والحمل وانتظار حياة أخرى تنبض بين أحشائها، وأيضا فيلم «تايم لايف» كانت البطلة والشريكة تنتظر مولودا، هل تحتفى بالحياة التى تتشكل فى أحشاء الأنثى بطريقتك الخاصة؟
فيلم «حزام» ليس أساسا حول الرقص كما يظن الكثيرين بل موضوعه الأساسى هو الفارق بين الحياة والموت. أنه فيلم حول الحب الباطن والسرة التى تمثل الأنا العميق وفكرة الحمل السرية. بفيلم «حزام» هناك رجل واحد من بين ثلاثين جنسية لنساء من كل بقاع العالم يعبر عن علاقته بالأم والأرض والحب، هو أخى الأكبر محمد ملص. 


حسدنى على علاقتى به الكثير من «نقاد» السينما وأكثرهم من المخرجين الذين تفننوا بعزل الفيلم من النتائج التى كانوا بها أعضاء تحكيم. 


محمد ملص أيقونة من السينما العربية يقلق عددا أكبر من الجهلة والكافرين بالسينما الجيدة التنفيذ. 
الفكرة الجوهرية الكامنة ببطنى بفيلم «حزام» هى أنى مثلهن فى تعاملى مع جوهر الحركة لكونى آت من الكاراتيه ومن هذا الفن القتالى المعتمد على قوة البطن المعروفة يابانيا بال «هارة». لذا حزام الراقصة مرتبط بحزام الكاراتيه ولأن هذا الحزام أقوى من الحزام الناسف. فيلم «حزام» ليس نسويا بل أنثويا. إنه الفيلم الذى أظهر فيه علاقتى بالجسد الباطن والجسد الظاهر وعلاقتى بالغزل والحب.


 لديك مآخذ على المهرجانات السينمائية خاصة المهرجانات العربية، وتشير دوما إلى وجود اتفاق ما حول نوعية الأفلام التى تقبلها تلك المهرجانات وعلى تكريس أنماط معينة من الأفلام التجارية ورفض ما هو مختلف وجديد.. حدثنا عن ذلك؟
- مهرجانات العرب ليس بها لجان مشاهدة حرفيون وموضوعيون وإنما يتصرف بمعظمها أشخاص لا يفقهون بالمادة الفيلمية. أتحداهم أغلبهم فى مناظرة علنية أن يمكثوا أكثر من عشر دقائق. 
طبعا هناك حالات خاصة هنا وهناك حيث تجد فرقا تحترم المخرج والمنتج والممثل وتقدم عروضا هامة بجودة عالية، مثل مهرجان الرباط لسينما المؤلف. لكن تبقى هذه الأماكن نادرة ولا يمكن أن تستوعب كل ما جد بالعالم.


غضبى لا يتعلق بشخصى بل بعلاقتهم بجماهيرهم التى يكرهونها لأنهم لا يقدمون لها الأمثل والأجمل والأذكى بل يكتفون بأفلام الشاورمة والغبار. لو كانت هذه اللجان تحب فعلا جماهيرها لما كانوا يبرمجون الكليشيهات ولما اكتفوا بأفلام بعض الضعفاء من الرجال والنساء. مهرجانات العرب أغلبها تبادل مستمر للفنادق وتذاكر الطائرات. إنه بزنس ترفيهى تجد كل سنة نفس أكلى اللحوم وشاربى البيرة فى نفس السجادات الحمراء. 


يمكننى أن أقدم قائمة كاملة بأسماء ثابتة لبعض المهرجانات ولبعض من سيقدم عليها دون فيلم أو مهمة أو أى تبرير عدا الترفيه.السكوت عن الفساد تواطؤ.


ولأنى لا أخشى فقدان سريرا بفندق أو تذكرة طائرة فإنهم اتحدوا على عزلى وهم يعرفون أن أفلامى جيدة شكلا ومضمونا وأنى لا أقول سوى الحق. 


فلماذا مهرجانات الغرب وفية للمخرجين وللأفلام التى تعرض بها. مهرجان «كان» لا ينسى مثل مهرجان القاهرة أن يستدعى كل أربعة أو خمسة أعوام مخرجا قدم فيلما به. ولماذا مهرجان قرطاج لا يعود لقائمة من عرضوا منذ سنوات ويستدعى من الأسماء التى شاركت سابقا أعضاء بالتحكيم أو لعرض أفلام جديدة به. لماذا منذ 10 سنوات حرم على هذا المهرجان التونسى رغم إدارته من طرف أربعة أشخاص مختلفين؟ هل هناك قوائم سوداء بالقاهرة التى لم أدخلها منذ 2016؟ رغم أنى أنجز فيلما جديدا كل سنة. لماذا تتعامل المهرجانات العربية مع السينما كإنها كرة قدم «بهوليغانية» بشعة؟


فى البلاد العربية يجب ألا تعلق على صفحات «النقاد» وصفحات المبرمجين ومدراء المهرجانات. أى تعليق لا يعجبهم تسحب منك الفيزا إلى الأبد. إنها ديكتاتورية تقمع كل تعبير حر مهما كان الموضوع. لا يرضون عليك إلا إذا انحنيت وسكتَّ عن اختياراتهم وعن نتاج تتويجاتهم وألا تبخل بأى «لايك» عندما ينشرون وجوههم البائسة وأن تجامل كل مفردة وهمزة وغمزة صادرة من عقولهم اللامعة.


 تقوم بعمل ورشات سينمائية، هل تسعى لأن تنشر فكرتك عن السينما ليصبح لها مريدون من صناع السينما الشباب؟
الورشة مفهوم غربى مفاده صقل جيل ولكنى عندما أقوم بهذه المهمة أول ما أركز عليه هو الخروج عن السرب. 
ما يقلقنى الآن هو تلك الورشات التى تقام لإعادة توجيه الأفكار الأصلية والأصيلة وإخضاعها لمسار سياسى مقرر مسبقا والتى يصادق عليها أصحابها لأنها مصحوبة بمنح تساعد على إيجاد دعم لإنجاز الفيلم. أى أن هناك مهرجانات صارت تبرمج أفلاما مسبقا تكون فيها هى إلا أفلاما وهى بيضة لم تفرخ بعد. هذا المنطق النفعى لا يسمح للأفلام الخارجة عن القطيع أى فرصة للظهور.

أى أن الورشات صارت الزنزانة الأولى التى يتنقل منها المخرج الشاب للوجود إلى معتقل المهرجان الذى يكون قد بلور وصقل وحدد كل جوانب السيناريو والذى يجعل منه نجما لفترة ما طالما لم يجد له بديلا. 


الورشات التى قمت بها كان الموضع فيها حول حرية التعبير وعدم الخضوع إلى لوبيات الفساد المتفشية فى البلاد الغربية والعربية والإفريقية. يبدو أن الفساد لم يصل بعد إلى البلاد الأسيوية بالسينما. الورشة قد تبدو مغربية لسرعة التعلم فيها إن كان صاحبها ذو منهجية وصادق فى تقديمه للأجمل من خبرته لكنها فخ قاتل إن ارتبطت بدعم يخشى المتربص فقدانه. 


 تقوم بالمشاركة فى مهرجانات سينمائية وخاصة فى روسيا، كيف كانت رحلتك فى التواجد على الساحة وهل واجهتك صعوبات لتظهر أعمالك للنور؟
- لا توجد أى صعوبة فى عرض أفلامى لأن المكان مرتبط بجودة المشاهد. لكن هناك صعوبة بل وانعدام لعرض أفلامى للمشاهد العربي. أى أن الموضوع معكوس تماما إلا بذهنية الذين ذكرنا ذكاءهم الحاد أعلاه والذين يحرمون أجيالا كاملة من التعرف واكتشاف سينما عربية إفريقية جيدة.


الجمهور عندى لا يحمل جواز سفر وليس له لون معين أو دين معين. إنه حساسية وذكاء وإنسانية متفتحة قادرة على استيعاب المادة الفيلمية دون قيود. فبأى حق يحرم الجزائرى والمصرى والتونسى والمسقطى و اللبنانى من سرد ونغمة وإيقاع قد يغرس فى ذهنيته وروحه ووجدانه حبا رفيعا ونورا مشرقا؟ 


 هل تأثرت السينما بكل تلك التغييرات فى العالم سواء على مستوى الفوضى الكبيرة والأحداث المضطربة من أوبئة وحروب وصراعات أو على مستوى التطور التكنولوجى الهائل ووجود وسائل تواصل اجتماعى وفيديوهات يوتيوب ومؤثرات بصرية كثيرة لحد التشويش؟


هل تأثر المذياع أو الراديو بالتلفزيون؟ وهل تفاعل «صندوق العجب» بالشاشة العريضة بقاعات السينما وغير السرد الدرامى؟ وهل استلهم انستاجرام ضجيجه من فيس بوك؟ وهل النت ليس إلا وسيلة لتدجين العقول؟ وهل الكتب ستتوقف عن الطبع أمام القرصنة الهمجية؟ التفاعل حتمى من جهة كما يمكن تفاديه إن كان المخرج حريصا على البقاء خارج التيار. اليابان تحافظ على تراثها أكثر من البلاد العربية رغم تقدما السريع تقنيا وتأثيرها على مسار الحياة العالمية باكتشافاتها العلمية الكبيرة. 


وهل الحفاظ على القالب العربى والشاعرية الأندلسية والتوابل المغاربية والهندام الدمشقى تخلف أم هوية وعرق ونسب وانتساب إلى حضارة ومعرفة أقدم من بريق ناطحات السحاب النيويوركية؟ فاليمن المتآمر عليه اليوم كان سباقا فى الهندسة والمعمار والجزائر القديمة فى نشأتها من أوربا تعرف البحار والعلوم قبل غيرها من شوارع باريس. وتونس والمغرب ومصر والعراق وفلسطين والأردن مصادر جميعها للفلسفة وعلوم كان يجهلها عالم أوروباوحتى النت الحالى. 


التأثر والتأثير حتميان لكن الحفاظ عن المصدر ضرورة. السينما التى تراودنى لا تنزوى ولا تلهث. لا أريد سردا نخبويا لا يفسره إلا النابغة كما لا أريد سردا يركض وراء جوائز الملوك الفارغة.
وهل التوقف عن استعمال المادة الفيلمية الخام بعيار ال 35 مم غير نوع اللقطات رغم أنه غير تماما كيفية الإضاءة؟ وهل منصات العرض بالنت تأثر عن نوعية التمثيل؟ وهل المسرح عانى من قدوم «شابلين» و«بستركيتون»؟ لأن الاحتفاء بشكسبير بالمسارح مازال مصدر إلهام الممثلين ولأن المذياع لم يتوقف بثه بسياراتنا اليومية ولأن الكتب مازالت المعارض تقام لها كل عام. 


ما يسمى تغيرا بفضاء الإعلام عامة ليس إلا تشويشا كهرومغناطيسيا مرهقا للأذهان وما يعرض على الشبكة ليس إلا غسيل للأدمغة بهدف تخديرها وخلق نوع جديد من الشعوب القابلة للجلد دون رفع أى مخلب للمقاومة.