حديث الأسبوع

الأهداف غير المعلنة فى حرب تتجه نحو العالمية

عبدالله البقالى
عبدالله البقالى

ليست المرة الأولى التى تمثل فيها أزمة ملتهبة بين الكبار فى العالم، فرصة حقيقية لإعادة تشكيل نظام عالمى جديد، ينقل العالم من هيمنة أحادية مطلقة ومتشددة، إلى قطبية ثنائية أو متعددة الأطراف.

بل يمكن الجزم بمنسوب عال من اليقينية بأن جميع الأزمات التى هزت أركان العالم عبر تاريخ البشرية كان السعى نحو إعادة تشكيل النظام العالمى أحد أبرز أسبابها وأهدافها فى نفس الوقت.

وسواء كانت الأزمات التى عاشها المجتمع الدولى عبر مر العصور سياسية أو استراتيجية أو اقتصادية، فإنها مثلت باستمرار لحظات اصطدام عنيف بين الإرادات الجماعية والفردية التى سعت على الدوام إلى تمكين جهة معينة من فرض رؤيتها لطبيعة النظام العالمى و العلاقات التى يجب أن تسود فى إطاره.

لذلك يمكن القول بمنسوب كبير من الثقة والاطمئنان، إن الحرب الروسية الأوكرانية التى تدور رحاها منذ سنة ونصف فى عمق تراب القارة العجوز، لا تخرج عن قاعدة الأزمات الكبرى التى عاشتها البشرية ودفعت تكاليفها غالية فى كثير من الأحيان. ولذلك من غير المقبول ولا المعقول، النظر إلى هذه الحرب من زاوية الوقائع و المعطيات المرتبطة بها بصفة مباشرة، بل لابد من النظر إليها من زاوية المسار التاريخى للأزمات الكبرى فى العالم .

و تبعا لذلك فالأمر لا يتعلق بحرب بين دولتين جارتين جمع بينهما التاريخ و الجغرافيا، ولا هى حرب بسبب حسابات الجوار المعقدة .بل الحقيقة التى يصعب، بل يستحيل إخفاؤها، أنها حرب تمثل، كسابقاتها من الأزمات الكبرى والعظمى، محطة مفصلية فى الحرب الحقيقية التى تزداد حدتها مع مرور الزمن بين القوى العالمية العظمى، بين حلف غربى قوى يصر على الإبقاء على النظام العالمى القائم بتفاصيله، رافضا أى تعديل له، وبين تكتل يرى فى الإبقاء على هذا النظام تهديدا مباشرا لمصالحه ولمستقبله، ولذلك يكابد من أجل الانتقال إلى نظام عالمى بقطبية ثنائية أو متعدد الأطراف. وهى فى حربها الجيواستراتيجية هذه، تريد تحقيق نظام يحفظ لها مصالحها، وتغلف ذلك بدغدغة مشاعر الرأى العام الدولى الساخط على النظام العالمى الجديد الذى كلف البشرية غاليا لحد الآن.

وهكذا فإن الحرب المشتعلة بين روسيا وأوكرانيا ليست منعزلة عن أحداث كبرى أخرى استجدت خلال السنتين الماضيتين. فالولايات المتحدة الأمريكية تواصل قيادتها لحلف الناتو بقوة وصرامة، والتحقت دول أوروبية، لا أحد كان يعتقد أنها ستخرج من دائرة الحياد و تلتحق بحلف الناتو بذريعة التحصن ضد الخطر الروسى .

ولم تتردد الدول الغربية فى فرض رزمة كبيرة من العقوبات المالية والاقتصادية ضد روسيا لتقليم أظافرها، وإجبارها على رفع راية الاستسلام البيضاء، ووصل الحد إلى ملاحقة الرئيس بوتين فى المحكمة الجنائية الدولية باعتباره مجرم حرب.

ووهبت أموالا طائلة وأسلحة خفيفة وثقيلة للإبقاء على أوكرانيا فى حالة حرب فى انتظار أن تؤتى العقوبات مفعولها.

و فى الجهة الأخرى تحاول روسيا أن تظهر للعالم محدودية الهيمنة الغربية على النظام العالمى الجديد، واستعاضت بالانتكاسات الاقتصادية التى تسببت فيها القرارات الغربية ضدها ، بفتح آفاق جديدة مثلت بحق امتحانا حقيقيا للنظام العالمى السائد .

وهكذا اقتربت أكثر من جمهورية الصين والهند، بمعنى أنها ارتبطت اقتصاديا بسوق استهلاكى يفوق 2,7 نسمة ، أى ما يفوق 30 بالمائة من سكان العالم .

كما استبقت ذلك رفقة الصين دائما ، بالبداية فى فرض منظومة جديدة بديلة تمثلت فى منظمة شنغهاى للتعاون التى انطلقت عام 2001، والتى أصبحت تضم اليوم فى عضويتها إضافة إلى الصين و باكستان ، العديد من دول الجوار، فى حين تتأهب دول أخرى للالتحاق بالمنظومة.

وهكذا فإن هذه المنظومة باتت تضم أكثر من 40 فى المائة من سكان العالم. ولم تكتف روسيا والصين بكل ذلك، بل سارعتا معا إلى تشكيل تكتل سياسى واقتصادى عملاق هذه المرة، يتمثل فى منظومة (بريكس) التى تضم إضافة إلى روسيا والصين، كلا من الهند وجنوب أفريقيا والبرازيل.

وهى المنظومة التى تسير بوتيرة سريعة جدا ومقلقة للغرب، حيث ينتظر أن تعقد دول هذا التكتل اجتماعا حاسما لها خلال الأيام القليلة المقبلة بجنوب أفريقيا، يرتقب أن تعلن فيه عن قرارات مصيرية، من قبيل الاتفاق على عملة موحدة تمكنهم من الاستغناء عن عملة الدولار الأمريكى الذى يمثل الدماء التى تسرى فى عروق النظام العالمى السائد.

الحرب الروسية الأوكرانية الجارية أطوارها حاليا، والتى لا يمكن لأكبر علماء الحروب والمستقبليات أن يتوقع مصيرها، فرصة أخرى من الفرص التى أتاحتها الأزمات العالمية الصعبة لاحتدام حالة الاستقطاب بين محورين رئيسين يحاول كل واحد منهما فرض رؤيته للنظام العالمى الجديد، محور غربى أطلسى تقوده الولايات المتحدة الأمريكية ويجر وراءها العديد من الدول الغربية فى أوروبا وأستراليا ونيوزلاندا وكندا، ومحور مناهض يضم روسيا والصين والهند والبرازيل وجنوب افريقيا، وهو لا يزال آخذا فى التمدد.

لذلك لا حاجة لكى يحاول أحد إقناعنا بأن الحرب الروسية الأوكرانية تمثل لحظة تصادم عنيف بين دولتين جارتين بسبب تفاصيل تتعلق بطبيعة الجوار المعقد، بل إنها مرحلة مخاض جديدة يعيشها النظام العالمى الجديد، قد تنتهى بولادة قيسرية لنظام عالمى بديل يقوم على قطبية متعددة الأطراف.

نقيب الصحفيين المغاربة