«لم تستيقظ يوما..».. قصة قصيرة للكاتب عبدالنبي النديم

عبد النبي النديم
عبد النبي النديم

 باقي دقائق قليلة.. لتشير الساعة إلى السادسة صباحا, تقفز سلمى من تحت فراشها, تسرع الى الحمام, تتوضأ.. تخرج إلى سجادة الصلاة المفروشة بالصالة .. تؤدى فرضها قبل شروق الشمس.. يرن المنبه بغرفة النوم, يمد زوجها يده إليه, يضرب عليه بعنف.. يترك يده تتدلى إلى جانب السرير يعود إلى أحلامه, تسرع الزوجة إلى غرفة النوم لتجد زوجها قد انكفأ على وجهه وتدلت يده إلى جانب السرير, تحملها برفق وتضعها تحت غطائه..

تخرج بهدوء.. تسحب خلفها باب الغرفة, تدخل على أطفالها بالغرفة المجاورة, تجلس على حافة السرير تضع يديها برفق على جبهة نهى ابنتها الكبرى ذات العشر سنوات, تداعب خصلات شعرها, تطبع قبلة حانية على خدها, تمد الابنة ذراعيها لتعانق أمها بحضن عميق تطرد به النوم, وترد لها قبلتها على وجنتها, تبعد عنها فراش الكسل, تنتقل الأم إلى سرير ابنها أحمد, الذى يتم عامه الثامن بعد يومين, تعاود الكرة معه, يقفز واقفا على السرير, يلقي تحية الصباح على خد أمه, يفرك عينيه, يغالب النوم, يسأل أمه هل ستعد له تورتة فى عيد ميلاده ؟

تبتسم له.. بعد يومين.. أحلى تورتة لأحمد حبيب قلب ماما, وأحلى هدية من بابا .. بس بشرط .. الدرجات النهائية فى امتحان الشهر..

يقفز إلى حضن أمه فرحا.. أنا دايما بجيب الدرجات النهائية وببقى الأول على الفصل.. يتركها فرحا إلى الحمام, وتدخل سلمى إلى المطبخ, تحث نهى على سرعة ارتداء ملابس المدرسة حتى لا تتأخر على الأتوبيس.. تعد سلمى حقيبتى السندوتشات لأحمد ونهى.. تخرج إلى غرفة الطعام.. تضع أطباق الإفطار عليها.. يسرع لها أحمد تنحنى إلى حذائه.. تربطه, تحثه على أن يتعلم ربط الحذاء, حتى تحضر له هدية قيمة فى عيد ميلاده.

عند باب المنزل تطبع نهى وبعدها أحمد قبلات حارة قبل الخروج, تغلق خلفهما الباب وتسرع إلى البلكونة تتابعهما أمام المنزل, يقبل الأتوبيس .. نهى وأحمد يلقيان نظره أخيرة على أمهما بالبلكونة مشيرين لها بأيديهما.

برفق.. تفتح باب غرفة النوم, تجلس بجوار زوجها عادل, تمسك بيده التى تدلت مرة أخرى على حافة السرير, تطبع قبلة عليها قبل أن تضع يدها برفق ورغبة على وجهه, يتمتم .. يحاول أن يهرب منها إلى النوم.. تعاود دلعها عليه, تحثه على طرد النوم من عينيه..

يسألها عن الساعة.. تخبره بأنها السابعة والنصف.. يلا بقى سيبك من النوم حبيبى واصحى..

يرد عليها بغضب لسه بدرى على الشغل.. ليه بتقلقى نومى, سيبينى نص ساعة كمان و يسحب الغطاء على وجهه..

بدلع تسحب الغطاء من على وجهه.. تقول له يعنى أنا مليش نص ساعة معاك.. أنت رجعت متأخر امبارح من الشغل.. ينظر إليها بغضب صارخا فى وجهها أنا كنت فى الشغل علشان أجيب الفلوس اللى بنعيش بيها.. مكنتش بدلع سيبينى انام.. انتى دايما كده.. مقلقة ومزعجة ومش عاوزانى أرتاح فى البيت.. يعنى أسيبلك البيت ومرجعش تانى احسن..

تنظر إلى عينيه التى طار النوم منهما.. بدلال واضح تحاول أن تلف ذراعيها حول رقبته.. تسترضيه وتمتص غضبه كالعادة كل صباح.. ينهرها.. ويطيح بيدها بعيدا عن رقبته.. ويقذف بالفراش بعيدا وينهض واضعا المنشفة على كتفه إلى الحمام.. تعترض طريقه تحاول أن تداعبه بكلمات الحب, تعاتبه.. كنت بانتظارك طوال الليل.. كنت وحشنى.

يرد عليها صارخا كنت فى الشغل، كنت فى الشغل، ويطيح بيديها بعيدا عنه.. تمسك يده بس إحنا بقالنا كتير متقفلش علينا باب غرفة نومنا، يجذب يده منها، لما تكونى أنتى فاضية ليا.. الأولاد والبيت خدوكى منى.. أنا رجعت امبارح لقيتك نايمة ومسطحة على السرير.. سيبينى أنا بقى فى حالى ..

ترد عليه برفق.. بس أنا مش مهملة, النوم غلبني وانا فى انتظارك.. ونمت وأنا بتفرج على التليفزيون، وليه مصحتنيش؟ يرد عليها والغضب تمكن منه.. سيبينى فى حالي, عاوز أروح شغلى.. وبلاش جر شكل, أنا فيا اللى مكفيني, ومش ناقص كتر كلامك ورغيك الفاضى على الصبح.. أنت بقيتى إنسانة مهملة فى جوزك وبيتك وأولادك وأكلك وشربك.. كل حاجة فى البيت بقت زى الزفت.. سيبينى فى حالى علشان متهورش وأمد إيدى عليكى.

تفسح له الطريق مصدومة، ناظرة إلى عينيه وقد تملك منها الحزن من اتهامات زوجها التى تحاول أن ترضيه, فاتهمها بالإهمال, تطأطئ برأسها إلى الأرض, تجلس على حافة السرير تضع يدها على خدها, يخرج من الحمام يرتدى ملابسه, ساخطا على كل من بالبيت, تخرج مسرعة إلى المطبخ تحمل إفطاره التى أعدته مع إفطار أبنائها.. تضعه على مائدة السفرة, تجلس فى انتظاره, يخرج من غرفة النوم متجها إلى باب المنزل.. تقف مسرعة.. تناديه.. مش هتفطر؟

ينظر إليها بغضب, هفطر لما يكون فى البيت ست شايفه واجباتها كويس ؟

تركها وفر من باب المنزل الذى صفعه خلفه..

تضع رأسها بين يديها.. تتذكر أيامها معه التى بدأت بقصة حب عاصفة ربطت بين قلبيهما, لم يكن عصبى المزاج أبدا من قبل, كان يسعى لرضاها, اغترفا معا من حلاوة الحب الذى ربط بين قلبيهما, الذى ضاع فى خضم مشاكل الحياة اليومية, لكنها لم تفقد يوما حماسها لحبه, تحاول أن ترضيه بكافة السبل, لم تهمل دورها كزوجة يوما, إلى جانب دورها كأم وست بيت, حاولت أن تصب اللوم عليها, لكن زوجها عادل أصبح كثير المشاكل, أغلبها بسبب طبخها الذى أصبح لم يروق له مؤخرا, بالرغم من سعيها الدائم تقديم أفضل ما عندها في الطبخ لإرضائه, كلما تذوق الطعام يبدأ بالصراخ لسوء الطعام وسوء اختيار نوع الطعام.. ينهمر منه سيل العبارات القاسية تجاهها.. ثم يصف محاسن طعام جميع النساء اللواتي يعرفهن ..أمه وأخته وزوجة أخيه.. وغيرهن .. وهى صامته.

قررت أن يستمر صمتها هذه المرة .. ليس عن الكلام فقط ولكن عن كل واجباتها بالمنزل.

رفعت صوتها تحدث نفسها بصوت عال.. يوم واحد فقط أجازة..

يوم واحد فقط لن أستيقظ فيه..

ودلفت إلى غرفة نومها ، ألقت بكل كيانها على السرير، وشدت الغطاء على جسدها..

***

عاد عادل من عمله، راسما على وجهه علامات التأفف، فوجئ بطفليه نهى وأحمد أمام المنزل, يلعبان في الشارع بملابس المدرسة التي لم يبدلاها منذ الصباح, بعد عودتهما من المدرسة, نادى عليهما بغضب, نهرهما على لعبهما بالتراب فى الشارع, سحبهما من أيديهما إلى باب المنزل الذى وجده مفتوحاً على مصراعيه.

يصعق عند دخوله من الباب, فقد كانت الفوضى تعم كل أرجاء المنزل, لمبة الإنارة بصالة المنزل مكسورة, والسجادة منبسطة بإهمال فى غير موضعها فى وسط غرفة المعيشة, وكراسى السفرة مبعثرة بكل أنحاء المنزل, وملقاة على الأرض, بقايا الطعام تغطى منضدة السفرة وما حولها, وطعام الأفطار الذى تركه فى الصباح ما زال عليها.. زجاجات المياه الفارغة ملقاة, بجوار الثلاجة.. صوت التلفاز مرتفعاً للغاية .. ألعاب أطفاله مبعثرة.. ملابس متناثرة في أرجاء غرفة المعيشة, وفي المطبخ كان الحوض ممتلئا عن آخره بِالأطباق وأواني الطعام, والغسيل ملقى أما الغسالة منذ الأمس على حالته..

صعق عادل من المنظر الذى لم يتعود عليه منذ زواجه, وقع قلبه فى قدمه خوفا من مكروه أصاب سلمى.. تخطى اللعب و أكوام الملابس الملقاة على الأرض أمام باب المطبخ باحثاً عن زوجته..

القلق يمزق وجدانه, كاد أن يغشى عليه, خشية أن يكون أصابها مكروه, تخطى فى طريقه بقعة مياه أمام باب الحمام من زجاجة مياه ملقاة, فألقى نظرة خاطفة إلى الحمام من الداخل ليجد المناشف التى تركها فى الصباح مبللة, مناديل الحمام ممزقة وملقاة على الأرض.

سيطر عليه القلق تماما, وأدرك أن هناك كابوسا مريعا ينتظره.. لم تتعود عيناه على هذه الفوضى التى تعم المنزل, بحث عن زوجته فى كل مكان..

اندفع عادل إلى آخر مكان بالبيت, غرفة النوم, التى لم يجد زوجته بها ولو لمرة واحدة عند عودته من العمل منذ زواجهما.. أمسك بمقبض الباب, كأنه قبض على جمرة نار.. فتح الباب فوجد زوجته ممدة على سريرهما.

***

نظر عادل إلى سلمى .. الدم هرب من عروقه, اختفت تحت غطاء السرير, مد يده المرتعشة يزيح من عليها غطاء السرير.. يهزها بعصبية, يناديها بإسمها بصوت منزعج.. سلمى.. سلمى..

تفتح عينيها.. ترسم ابتسامة عذبة على شفتيها, تقول له إنت جيت من الشغل يا حبيبى؟

تفرد ذراعيها متمطعة, تتأوه لتطرد النوم من عينيها.. تزيح عن نفسها غطاء السرير..

يركن عادل ظهره إلى دولاب الغرفة, بعد أن ردت عليه سلمى وأيقن أنها حية ترزق..

يغمض عينيه.. يستجمع قواه ويسترجع أنفاسه التى هربت منه.

يفتح عينيه.. ينظر إلى سلمى فى دهشة واستغراب مستنكرا ما وجدها عليه .. يسألها بعد أن استرد أعصابه .. إيه اللى حصل النهارده؟

ابتسمت سلمى بهدوء مرة أخُرى ونظرت إلى عادل قائلة له:

محصلش حاجة خالص النهارده..

يرد عليها بعصبية وإيه الفوضى اللى قلبت فى البيت دي كلها, والأولاد بيلعبوا فى الشارع والباب مفتوح على مصراعيه, و انتى نايمة فى السرير؟ أنا أول مرة أشوف المنظر ده فى البيت..

نظرت إليه مبتسمة..

وأنا أخدت أجازة النهاردة من البيت .. وحبيت ألفت نظر حبيبى على شغلى فى البيت, لانى مسألتوش عن شغله وهو اللى كان بيحكيلى عليه من نفسه, وأشاركه فى همومه وتعبه, ونتناقش فى شغله, وهو عمره ما فكر إنه يناقشني فى شغلى, لانى عارفه إن شغله هو اللى فاتح بيتنا, ولازم كلنا نحافظ عليه, وهو دايما شايف كل شئ منظم فى البيت والأكل دايما يعلق عليه , وأنا عمرى ما علقت على إهماله للبيت, لكن كان لازم يعرف أنا بشتغل ايه كل يوم .

حبيبى كان كل يوم لما يرجع من العمل يسألني, عملتى إيه ؟ !

إيه اللي بتعمليه كل يوم وأنا فى الشغل ؟

هو دا أكل يتعمل لواحد تعبان في الشغل ؟

نفسك تعرف أنا بعمل إيه طول اليوم؟ ..

فتعبت من تكرارك لكل الأسئلة دي .. فحبيت ألفت نظرك يا حبيبى إيه اللى بعمله كل يوم.

النهارده لم أفعل ما أفعله كل يوم .. النهارده اخدت اجازة من شغل البيت .. وفعلا معملتش حاجة النهارده.

نظر إليها عادل وطأطأ رأسه إلى الأرض, وتوجه إلى السرير حيث تجلس زوجته, يجلس على حافته, يلف ذراعيه حول عنقها, تزيح يديه عنها, تنظر إلى عينيه.

يتعجب من رد فعلها .. لأول مرة تزيح يدي من عليها !

تهمس فى أذنه , أحمد ونهى خلفك عند الباب, فينهض واقفا

ينظر إلى أبنائه, ماما تعبانه النهاردة, الفوضى اللى فى البيت دي كلها, فى خلال نص ساعة لازم تنتهى, ينظر خلفه إلى سلمى يغمز لها بعينيه, تركن ظهرها إلى حافة السرير, تهمس فى سرها..

الأجازة النهاردة كانت طويلة..

تزيح عنها غطاء السرير.. تخرج من غرفة نومها..