225 عامًا بعد الحملة الفرنسية| رسامون على عجلات المدافع!

نابليون في معركة الأهرام كما صورها فنانو الحملة
نابليون في معركة الأهرام كما صورها فنانو الحملة

■ كتب: رشيد غمري

يوافق هذا العام ذكرى مرور قرنين وربع على دخول الفرنسيين إلى مصر (1798). وهي الحملة الاستعمارية التي أقلقت النوم الهانئ للشرق خارج الزمن والتاريخ. ولم تكن الفرقاطة والمدفع وحدهما ما أثارا الروع والحيرة، ولكن الفنون والعلوم أيضا. الآن تبدو اللوحات الفنية التي نتجت عن الحملة، أو أرخت لها، كمرايا ما زالت تعكس تناقضات الحدث، بكل ما تضمنه من طموح وخداع وعنف، وما خلفه من دراسات ومعارف وفنون.

وقد صاحب بعض رساميها «بونابرت» خلال غزوه، فعايشوا المعارك، ورسموا مخططات لها وسط لهيب القصف، كما سجلوا الآثار وجوانب الحياة الإنسانية للمصريين. وهي تتضمن العديد من المفارقات.

◄ خوف وفكاهة فى يوميات فنانى الحملة

◄ معاناة الرسامين بين ريبة المصريين وعدائية جنود نابليون

■ إحدى لوحات بيير مارتيني عن الحملة على مصر

عندم طلب الجنرال «نابليون» من فنانه المفضل «جاك لوي ديفيد» أن يرافقه في حملته على مصر، رفض، لأنه شعر بكونها مغامرة إلى بلاد بعيدة ومجهولة، ولم يشأ أن يخاطر. وهو ما جعل الاختيار يقع على فنان آخر لا يقل كفاءة، وهو «دومينيك فيفانت دونون» الذي رحب على الفور، ليكون لرحلته على متن الأسطول الحربي أكبر أثر في حياته. حيث منحه كتابه «رحلة إلى مصر السفلى والعليا خلال حملة الجنرال بونابارت» شهرة واسعة، بما تضمنه من مشاهداته، وعشرات الرسوم واللوحات عن العمليات العسكرية، وعن مصر والمصريين، بعد نشره في فرنسا عام 1802.

■ انفجار سفينة القيادة الفرنسية المشرق خلال معركة أبي قير

◄ فن وعنف
تحدث «دونون» في كتابه أيضا عن معاناة الفنانين المصاحبين لنابليون من صعوبات الحياة العسكرية، ومعايشتهم المعارك، بالإضافة للمضايقات التي تعرضوا لها من الجنود الفرنسيين أنفسهم، والذين عاملوهم بعدائية، باعتبارهم عبئا على الحملة، وحملوهم مع العلماء أسباب الفشل والخيبات المتلاحقة. ويذكر «دونون» أنه هو نفسه تعرض إلى طعنة من أحد الجنود الفرنسيين، وجهها له من طرف بندقيته، فسقط كلاهما على الأرض.

ويقول إنه لولا عملات معدنية في جيب سترته، تلقت الضربة، لاخترقت ضلوعه. كما ذكر أنه لسوء الحظ لم يحظ بالوقت الكافي لرسم آثار مصر السفلى كما الحال في الصعيد بسبب العجلة التي كانوا يعملون في ظلها، وبالكاد حظي برسم رأس «أبي الهول». ونظرًا للمتاعب التي تعرض لها، فقد انتهز فرصة عودة «نابليون» إلى فرنسا، قبل انتهاء الحملة، وعاد معه. 

■ لحظة العثور على حجر رشيد

أما الفنان «ميشيل ريجو» فهو أحد الفنانين الذين رافقوا نابليون أيضًا، ووصف بأنه أول رسام بورتريه غربي في مصر. وانصب اهتمامه على رسم أكبر عدد من الوجوه التي تحمل خصوصية الملامح المصرية في المناطق المختلفة. وقد عانى من رفض المصريين لأن يرسموا، لأسباب تعلق بعضها باعتقاد تحريم الرسم، بالإضافة للريبة من الغرباء المحتلين.

◄ اقرأ أيضًا | ريدلي سكوت: خواكين فينيكس أفضل من يقدم «بونابرت»

■ لوحة تصور إبرار القوات الفرنسية في خليج مريوط على مشارف الإسكندرية

◄ دهشة
وحول تجربة «ريجو»، ذكر الكونت «شابرول دي فولفيك» في مذكراته عن الحملة، أن الفنان رأى قافلة قادمة من النوبة، فانتهز الفرصة، وطلب من قائدها «عبدالكريم علي» أن يرسمه، لما يتمتع به من ملامح معبرة وقوية، لكن الرجل لم يوافق.

وبعد مفاوضات طويلة، أذعن في النهاية، بعد إقناعه، وإغرائه بالمال. ولكن الفنان فوجئ أنه جاء إلى مرسمه في حراسة أكثر من عشرة أشخاص، تحسبا لمكيدة ما. وبعد أن استحسن عبد الكريم المخطط الأول للوحة، أصابه الذعر بعد تلوينها، وصرخ وجرى من المرسم، معتقدا أنه تم انتزاع رأسه ورقبته. وهو ما تكرر مع أشخاص آخرين من خلفيات مختلفة.

■ لوحة تصور إبرار القوات الفرنسية في خليج مريوط على مشارف الإسكندرية

ورغم ما في القصص من شعور بالتفوق، والنظرة المتفكهة على المصريين، لكن يبدو انعدام المعرفة بفن التصوير الزيتي هنا مفهوما في ذلك الوقت، لأن الرسوم الشعبية التزيينية والاحتفالية، وحتى رسوم الكتب التراثية كانت تنتمي إلى أسلوب آخر عبارة عن خطوط ومساحات بلا تجسيم. أما التصوير الغربي، فكان قد تجاوز قمة نضجه الكلاسيكي محاكياً الطبيعة بدقة، وكان ذلك بالتأكيد مذهلاً.

وقد عرضت أعمال «ريجو» في صالون باريس بعد نهاية الحملة، وتضمن المعرض العديد من لوحات وثقتها، وبعضها لفنانين لم يرافقوا «نابليون»، ولكن رسموا المناظر من وحي خيالهم، بناء على المعلومات التي قيلت لهم، على سبيل الدعاية، أو تماشيا مع الموجة. ولذلك يبدو بعضها مفتعلا، ويصل إلى حد المسرحة الباروكية التي تنتمي إلى قرن سابق، ومع ذلك فقد كانت أكثر معرفة بالبيئة المصرية من سابقاتها، كنتيجة لما جلبته الحملة من معلومات وصور.

■ وصول الأسطول الفرنسي إلى مالطا في طريقهم إلى مصر لتشارلز موت

أما «ريجو» الذي كان قد تطوع من موطنه «جنوة»، ليرافق بونابرت، فلم يقتصر عمله في مصر على رسم الوجوه والمناظر، ولكنه رسم بعض العمليات مثل معركة الأهرام، كما قام بتصميم وتنفيذ ديكور المسرحيات، والتخطيط للحفلات، ومنها احتفال عام جرى في القاهرة يوم 22 سبتمبر 1798 بمناسبة ذكرى تأسيس الجمهورية الفرنسية الأولى. وهو من صمم لأجله قوس النصر الذي أقيم في ميدان الأزبكية.

كما رسم الحفل نفسه. وكلفه نابليون شخصيا برسم وجوه عدد من شيوخ العربان الذين عملوا مع حكومته، لتسيير الأمور في مناطقهم. وهي اللوحات التي علقت في مقر نابليون بالقاهرة، واعتبرها نوعًا من الدعاية، زاعمًا قبوله شعبيًا، وأنه منح السكان المحليين السلطة لإدارة شئونهم. وقد أعيدت اللوحات إلى فرنسا، بعد انتهاء الحملة. وعندما طلق «بونابرت» زوجته «جوزفين» كانت تلك اللوحات بالذات ضمن تسوية الطلاق، حيث أخذتها، وعرضتها في قصرها في «مالميزون».

◄ توثيق ودعاية
تنوعت اللوحات التي صورها رسامو الحملة بين التوثيق العسكري، ورسم الحياة والآثار في مصر، والدعاية لشخص نابليون. وصنعت المخيلة العامة بوصفها الحقيقة. ومن أشهرها اللوحات التي صورت إبرار القوات الفرنسية على مشارف الإسكندرية. والتي أظهرت الصعوبات التي رافقتها والعاصفة. لكن حتى الهزيمة تم تصويرها لاحقا كما في لوحة انفجار سفينة القيادة الفرنسية «المشرق»، والتي سماها الجبرتي «نصف الدنيا»، وذلك خلال معركة أبي قير.

أما اللوحات الدعائية، فأشهرها لـ»ديفيد أنطوان جين جرو» وتصور «نابليون» يزور ضحايا الطاعون بيافا، وقد لمس أحد الجنود المصابين، إمعانًا في إنسانيته. وكان ذلك ردًا على شائعات بأن «نابليون» من سمم جنوده هناك. كذلك توجد لوحات عديدة صورت نابليون فوق صهوة جواده في قلب المعارك، يقاتل وينتصر. واشتهرت لوحة لـ»بيير مارتينت»، عن معركة مالطا في الطريق إلى مصر، وهو فنان تخصص في الموضوعات الحربية. وقد رسم الحدث نفسه عدد من الفنانين منهم «تشارلز إتيان بيير موت».

أما الفنان «لويس فرانسوا» فكان عسكريا، وصاحب نابليون في العديد من معاركه ورسم مخططات من أرض المعارك التي حول بعضها لاحقًا إلى لوحات، وكان مكلفًا بإدخال الطباعة الحجرية إلى فرنسا، ونفذ العديد من أعماله الفنية بتقنية «الجرافيك». 

◄ آثار وتناقضات
حظيت آثار مصر باهتمام كبير من قبل رسامي الحملة سواء كلوحات أو رسوم ضمن كتاب «وصف مصر». كما اشتهرت لوحة تصور لحظة العثور على حجر رشيد، أثناء هدم جدار في حصن «سان جوليان» عام 1799. وهو الحجر الذي سارعوا بصنع عدة نسخ منه، وصل بعضها إلى باريس، فأثارت حماس الأوروبيين للتعرف على أسرار الحضارة المصرية. لكن للمفارقة، فقد آل الحجر نفسه إلى الإنجليز خلال معاهدة استسلام القوات الفرنسية، لينقل على متن سفينة فرنسية غنمها البريطانيون، ويعرض في المتحف البريطاني إلى الآن. ولكن هذا لم يمنع الفرنسي «شامبليون» من أن يقوم بفك رموزه، ومعرفة الأبجدية المصرية القديمة عام 1822.

وحول لوحات ورسوم الحملة، قال الجبرتي إنه ذهب إلى مقر المجمع العلمي في دار حسن الكاشف، ورأى صورا مرسومة للرموز الإسلامية المكانية، وحتى الشخصيات، وأحداثا من السيرة النبوية، وصورا لخلفاء وسلاطين. 

عندما وصلت الحملة إلى مصر، لم يكن الغرب قد تفوق عسكرياً فقط، فقد جاء هذا كثمرة لتقدم معرفي، لأكثر من ثلاثة قرون تضمنت عصري النهضة والأنوار. وعلى مستوى الفن كانت الكلاسيكية قد نضجت، ومن بعدها الباروكية، والكلاسيكية الجديدة، وتشرق حقبة رومانسية، ستطبع القرن التاسع عشر في كل الفنون. أما المصريون فكانوا يرزحون تحت حكم الأتراك والمماليك، ويعيشون عصورهم الوسطى، غارقين في الخرافة، وأبعد ما يكونون عن العلم والفن وأفكار التجديد.

وفي المقابل فإن الفرنسيين أنفسهم الذين قاموا بثورتهم قبل سنوات، تأثرا بكتابات فلاسفة إنسانيين، ويرفعون شعارات الحرية والإخاء والمساواة، لكنهم كانوا يقومون بحملة عسكرية عنيفة.

ورغم توددهم للمصريين، وادعاء رغبتهم في تحريرهم، لكنهم عاملوهم بقسوة، عندما لم يفلح الخداع. وتبلغ التناقضات مداها عندما نرى المشهد في مجمله، وقد جمع كل هذا القدر من آلات القتل، مع عشرات من العلماء والفنانين، الذين تركوا دراسات قيمة، وأعمالا فنية مهمة. وهي على كل حال صفحة مهمة من التاريخ، ستظل قابلة لأن تستقى منها الدروس والعبر.